اختتم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسميًا جولته "التاريخية" في منطقة الشرق الأوسط التي كانت أولى محطاتها المملكة العربية السعودية، في أول زيارة دولية له منذ إعادة انتخابه. وفي اختيار المملكة العربية السعودية ليفتتح بها ترامب جولته الخارجية ليعيد ترسيخ أسس الصداقة السابقة التي أرسي دعائمها في مايو 2017م، لكن الفارق بين الزيارتين يكمن في اختلاف الديناميكيات الإقليمية والعالمية. حيث تختلف المُعطيات الجيوسياسية والمخاطر الاستراتيجية الراهنة بشكل كبير عن تلك التي أحاطت بزيارة ترامب الأولى للمملكة، حيث تتسم البيئة الإقليمية والعالمية اليوم بتقلبات متزايدة، وتصاعد المنافسة متعددة الأقطاب، إضافة إلى الهياكل الأمنية المتطورة، وجميعها عوامل تُجعلها أكثر أهمية ودلالة عن الزيارة الأولى.
الحرص الأمريكي على إعادة توطيد العلاقات مع الرياض، يعكس رغبة واشنطن في تعزيز تحالفاتها التقليدية. وبما يرسخ الأهمية الاستراتيجية التي تتبوأها المملكة العربية السعودية في عالم السياسة الخارجية الأمريكي، وشدد الرئيس ترامب خلال زيارته الأخيرة للرياض على الدور المحوري الذي تلعبه المملكة في معالجة أكثر تحديات المنطقة تشابكًا وتعقيدًا، وتضطلع بهذا الدور لكونها تحظى بالمصداقية، والثقة، والقدرة على التأثير على المستوى الإقليمي والدولي، ". حيث برهنت المملكة على أنها تنعم بالقدرة والشرعية اللازمتين للاضطلاع بهذا الدور كما دعمت أوراق اعتمادها كلاعب محوري على الساحة العالمية فمن خلال مُشاركاتها الدبلوماسية الأخيرة وتزعم جهود الوساطة، وتأكيدًا على ذلك وصف ترامب الزيارة بـ ". شرف كبير".
وجمعت كلمة الرئيس دونالد ترامب في منتدى الاستثمار السعودي-الأمريكي، الذي عُقد في الثالث عشر من مايو الماضي، بين الطابع الاحتفالي والتأكيد على المصالح الاستراتيجية. حيث وصف العلاقات الثنائية بأنها" حجر أساس للَأمن والازدهار في المنطقة"، وأشاد إشادات متكررة بالقيادة السعودية، ومارس الرئيس الأمريكي مفهوم الدبلوماسية الشخصية بين الرؤساء بشكل فعال وأعطى رسالة قوية بشأن التقارب الاستراتيجي بين البلدين. كما أثنى على التحولات الداخلية التي تشهدها المملكة التي وصفها بأنها" أعظم دول العالم". موضحًا أن المملكة "رسخت أقدامها بين مصاف الدول الأكثر فخرًا، وازدهارًا، ونجاحاً على مستوى العالم، كدولة قائدة للشرق الأوسط الحديث والصاعد". وأكد ترامب الدعم الأمريكي الثابت للمملكة العربية السعودية التي رأى أنها تنعم بمستقبل باهر. وأضاف “اليوم نعيد التأكيد على الروابط المهمة بين البلدين التي سندعمهَا بالمزيد من الخطوات المقبلة لكي تصبح علاقتنا أكثر توثيقًا وقوة عن أي وقت مضى". جسدت هذه المعاني، التي تُوجت بإيماءات احتفالية مثل مرافقة القوات الجوية الملكية السعودية للطائرة الرئاسة الأمريكية، الاحترام والثقة المتبادلين، سواء على المستوى الشخصي أو على مستوى الدولتين.
وبعيدًا عن بعد العلاقة الشخصية، لا يزال التعاون الدفاعي يُشكل ركيزة دعم العلاقات الثنائية والشرَاكات الاستراتيجية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، فقد أعلن البيت الأبيض عن توقيع أكبر صفقة مبيعات دفاعية في التاريخ مع الجانب السعودي– بقيمة 142 مليار دولار، لتؤكد حرص البلدين والتزَامهما بتعميق الشراكة الدفاعية والأمنية. وبموجب هذه الصفقة سيتم تزويد المملكة بأحدث المعدات والخدمات القتالية التي تنتجها أكثر من اثنتي عشرة شركة أمريكية تعمل في مجال الدفاع". وبقدر ما قد ينظر إلى هذا الاتفاق التاريخي باعتباره إعادة تأكيد على التزام واشنطن بأمن الخليج، بقدر ما يعكس التزامًا مشتركًا حيال دعم الاستقرار الإقليمي. حيث أكد ترامب عدم توانيه عن استخدام القوة العسكرية للدفاع عن المملكة العربية السعودية. قائلا: "لن أتردد مطلقًا في استخدام القوة العسكرية الأمريكية إذا اقتضى الأمر للدفاع عن أراضينا أو للمساعدة في الدفاع عن حلفائنا. ولن تأخذنا رحمة بأي خصم تسول له نفسه إلحاق الأذى بنا أو بهم". مثل هذه العبارات القاطعة التي جاءت على لسان الرئيس الأمريكي تعطي ضمانات بشأن القوة الحاسمة لدعم الخليج ضمن الإطار الأوسع للعلاقات الثنائية، وهو أحد الأبعاد التي كانت مفتقدة خلال الإدارة السابقة".
امتدت النقاشات بشأن آفاق التعاون المشترك خلال زيارة ترامب للمملكة، لما هو أبعد من مجالات الأمن التقليدية لتشمل قطاعات متقدمة مثل التكنولوجيا، واستكشاف الفضاء، والمعادن الحيوية، والبنية التحتية للنقل. وتتماشى هذه التوجهات بشكل مباشر مع أهداف رؤية المملكة التنموية" 2030 "، وتعكس تقاربًا واعيًا بين الأولويات الوطنية للمملكة والمصالح التجارية والاستراتيجية الأمريكية. وفي هذا الصدد أضاف ولي العهد ورئيس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان أن الصفقة قد تصل إلى تريليون دولار، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة وجهة رئيسية لصندوق الاستثمارات العامة، حيث تمثل ما يقرب من 40٪ من استثمارات الصندوق العالمية، مما يسلط الضوء على عمق الترابط الاقتصادي وسطوع نجم المملكة العربية السعودية كشريك اقتصادي رئيسي للولايات المتحدة.
وشهدت الزيارة تدشين مبادرات بارزة في مجالات الطاقة، والتكنولوجيا، واستكشاف الفضاء بما في ذلك التوقيع على اتفاق ثنائي حول الابتكار في مجال الطاقة بين وزارتي الطاقة السعودية والأمريكية، ومذكرة تفاهم بشأن التعدين والموارد المعدنية بين وزارة الصناعة والثروة المعدنية في المملكة ووزارة الطاقة الأمريكية. فضلًا عن مهمة أبحاث الفضاء عبر الأقمار الصناعية المكعبة في إطار برنامج "أرتميس الثاني" التابع لوكالة ناسا، بالتعاون مع وكالة الفضاء السعودية. كما قام الجانبان بتحديث اتفاقية النقل الجوي لتعزيز نقل البضائع. واكتسبت العلاقات الثنائية بُعدًا إضافيًا ممثلًا في القوة الناعمة من خلال الحرص المشترك على تعزيز الشراكات الثقافية، والتعليمية، والعلمية، بما في ذلك التعاون بين المتحف الوطني للفنون الآسيوية التابع لمؤسسة "سميثسونيان"، والهيئة الملكية لمحافظة العُلا.
على صعيد القضايا الإقليمية، فقد برز بشكل واضح التقدم المحرز في الملف السوري. وفي كلمته أمام منتدى الاستثمار السعودي-الأمريكي، قال الرئيس ترامب "اتخذت إدارتي بالفعل أولى خطوات استعادة العلاقات الطبيعية بين الولايات المتحدة وسوريا للمرة الأولى منذ أكثر من عقد من الزمان. وتنتابني سعادة بالغة عند الإعلان عن لقاء مرتقب بين الوزير ماركو روبيو ونظيره السوري في تركيا خلال وقت لاحق من هذا الأسبوع". ثم جاء إعلانه برفع العقوبات عن سوريا "من أجل منحها فرصة للنمو"، ليعكس نقطة تحول كبيرة في السياسات الأمريكية وإعادة تقويم لنهج واشنطن. وقد جاءت هذه الخطوة عقب نقاشات جرت بين الرئيس الأمريكي وولي العهد ورئيس مجلس الوزراء سمو الأمير محمد بن سلمان، وكذلك الرئيس التركي رجب أردوغان. وتؤكد هذه الخطوات المتقدمة، بالإضافة إلى الاجتماع الثلاثي رفيع المستوى مع الرئيس السوري، الحضور الدبلوماسي اللافت للمملكة العربية السعودية ودورها كوسيط للسلام والأمن الإقليميين.
فيما يتعلق بالشأن الإيراني، كرر ترامب تحذيره بأن بلاده لن تسمح مطلقًا بامتلاك طهران سلاحًا نوويًا. وفي حين أدان الرئيس الأمريكي ما وصفه بــ “الفوضى السابقة لقادة إيران"، أكد "استعداده لطي صفحة خلافات الماضي وصياغة شراكات جديدة من أجل عالم أفضل وأكثر استقرارًا، حتى وإن كانت الخلافات بين الجانبين لا تزال مُتجذرة". وذهب ترامب بعيدًا بإبداء رغبته لإبرام اتفاق مع الجانب الإيراني. وأضاف:" ولكن في حال رفضت القيادة غصن الزيتون الممتد إليها .. لن يكون أمامنا خيار سوى ممارسة أقصى الضغوط الممكنة". من جانبها، تحافظ المملكة العربية السعودية على موقف حازم مماثل بشأن القضية النووية الإيرانية، حيث تشدد الرياض، وسائر دول مجلس التعاون الخليجي، على أهمية إبداء إيران وكافة الدول المعنية التزامًا راسخًا بعدم وجود أي برنامج نووي عسكري يهدد أمن المنطقة الخليجية واستقرارها.
وحول القضية الفلسطينية، صرح الرئيس الأمريكي بأنه كان "يحدوه الأمل" في أن تنضم المملكة العربية السعودية لاتفاقات إبراهام، لتسير على خطى بلدان عربية أخرى خلال فترته الرئاسية الأولى. مؤكدًا أن ذلك يظل في النهاية خيار المملكة التي قد تفعل ذلك عندما ترى أن الوقت المناسب لذلك، ما يعكس تحولًا نوعًا ما في السياسة الأمريكية، فعلى النقيض من نهج سلفه جون بايدن، يُظهر ترامب استعدادًا ورغبة للمضي قدمًا في العلاقات الثنائية وتوقيع الاتفاقيات دون شروط مسبقة أو مقابل تطبيع سعودي-إسرائيلي. من جانبها، لاتزال المملكة العربية السعودية ثابتة على موقفها الداعم للتوصل إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، تقوم على أساس حل الدولتين والالتزام بالقوانين الدولية. وبينما تثمن علاقاتها الدولية، أكدت الرياض بشكل لا لبس فيه، أن التطبيع مع إسرائيل مرهون بإحراز تقدم مثمر حول إقامة دولة فلسطينية تنعم بالسيادة وتكفل الكرامة والأمن لشعبها.
على المستوى الدولي، تمكن الصراع الأوكراني من فرض نفسه على الأجندة الدولية للمناقشات الثنائية، لاسيما في ضوء إظهار المملكة قدرتها على تسهيل إجراء حوارات واستضافة جلسات التفاوض بين الأطراف المتنازعة. وهو ما حظي بإشادة الرئيس الأمريكي الذي اغتنم الفرصة لتوجيه الشكر للمملكة العربية السعودية على الدور البناء الذي لعبته في تسهيل إجراء المحادثات الأوكرانية .. قائلاً:" لقد قمتم بعمل مذهل ولم تبخلوا علينا بشيء". هذا الاعتراف والامتنان الأمريكيين تجاه الدور السعودي في تسهيل استضافة الحوار حول الأزمة الأوكرانية، يعكس إدراكًا دوليًا مُتناميًا بقدرة الرياض على المساهمة في إدارة الأزمات متعددة الأطراف.
وبالرغم من أن زيارة ترامب للمملكة وُضعت في المقام الأول ضمن إطار العلاقات الثنائية، إلا أنها بلا شك تتقاطع مع الإطار الأوسع لمجلس التعاون الخليجي، حيث تحمل العديد من الموضوعات المطروحة تداعيات واضحة على منطقة الخليج ككل. في ضوء هذا السياق، استضافت الرياض قمة مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة في اليوم الثاني من زيارة الرئيس ترامب للمملكة، مما ساهم في تعزيز ليس فقط الروابط السعودية-الأمريكية، بل أيضًا العلاقات الأوسع بين دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة. ومن خلال تعزيز الحوار الجماعي مع دول المنطقة الخليجية، فقد ساهمت الزيارة في تدعيم وجود جبهة إقليمية متماسكة ضرورية لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية. كما سلطت الضوء على الدور المركزي المتنامي للمملكة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وبينما ترتكز هذه الشراكة على الروابط الشخصية، والتوافق الاستراتيجي، والمصالح المشتركة، تتسم أيضًا بطبيعتها المتطورة التي تتشكل ملامحها وفقًا للأبعاد التاريخية والمعطيات الراهنة. وفي ظل الضبابية الغالبة والتحولات الجارية، تظل المملكة والولايات المتحدة شريكين رئيسيين في تشكيل النظام الإقليمي والعالمي.