صدر حديثًا كتاب (مختصر الأزمة في ليبيا ـ بنية النزاع ومستقبل الدولة) للمؤلف الدكتور عبد الرازق غراف، وهو باحث أول بمركز الخليج؛ ومهتم بقضايا الأمن الإقليمي والدولي والتهديدات الأمنية وإدارة المخاطر في الدول الهشّة، وأستاذ محاضر في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والاستراتيجية بالجامعات الجزائرية، وتطرّق الكتاب بالتوصيف والتفسير والتحليل والتنبؤ لحيثيات أحد أهم الأزمات الإقليمية المهدّدة لاستقرار النظام الإقليمي العربي المتأزم في كثير من ثناياه.
وجاء الكتاب ليقدّم دراسة تحليلية تحتاجها المكتبة العربية حول قضية: الأزمة في ليبيا، هذه القضية التي لا تؤثر على استقرار المنطقة العربية فحسب، بل تمتد إلى الفضاء الجيوسياسي الإقليمي سواء في بُعده الأورو متوسطي العابر للبحر الأبيض المتوسط شمالًا إلى أوروبا، أو في بُعده الإفريقي العابر جنوبًا إلى دول إفريقيا جنوب الصحراء، ومن ثم تؤثر في استقرار منطقة مترامية الأطراف والتي يجتاحها فراغ أمني، وعدم استقرار سياسي وضعف تنمية في كثير من دولها.
وتقع ليبيا في عمق هذه المنطقة بأزماتها المتشابكة والتي زادها تأزّمًا التدخل الدولي والإقليمي الذي جعل ليبيا ساحة مفتوحة لإدارة صراع النفوذ بين أطراف عديدة دولية وإقليمية، فبعد مرور قرابة أربع عشرة سنة على سقوط نظام معمر القذافي، لا تزال ليبيا في اُتون أزمة متعدّدة الأطراف، متداخلة الجوانب، سواء السياسية والأمنية، أو الاقتصادية والاجتماعية، أزمةً تُنذر بما هو أسوأ رغم الجهود المبذولة لحلحلتها، والتي باءت معظمها بالفشل الجزئي أو الكلي، لأسباب داخلية مرتبطة بالفواعل المحليين، وأخرى إقليمية و دولية مرتبطة بالرُّعاة الخارجيين المنغمسين بمستويات متباينة في الأزمة الليبية، ما جعل الأخيرة مزيجًا بين الكنز الاستراتيجي المرتبط بما تزخر به البلاد من موارد؛ والكارثة الاستراتيجية المحتملة في حال استمرار تأزمها نحو مصاف أخطر مما هي عليه الآن، بما ينذر باحتمال انفجارها على النحو الذي يطال تأثيره جوارها الإقليمي، وما يحكمه من توازنات فضلًا على التوازنات الدولية وموقع ليبيا فيها.
ليبيا هذه الدولة القديمة بمسمّاها الضارب في عمق التاريخ؛ الحديثة العهد نسبيًا بحيّزها الجيوسياسي الراهن، بامتدادها الجغرافي الذي يتوسط ضفة المتوسط الجنوبية وموقعها الاستراتيجي الاستثنائي الواصل بين المغرب العربي ومشرقه، الرابط بين البحر المتوسط وعمق القارة الإفريقية جنوب الصحراء كبوابة جيو استراتيجية لإفريقيا. ليبيا الرابضة فوق بحر من الطاقة والمياه الجوفية، والتي يعلو صحراءها المتسّعة لجلّ كيانها روافد هائلة من الطاقات النظيفة والمتجدّدة، لا يعدّ ذلك سوى غيض من فيض مما وُهِب لليبيا من مقومات استراتيجية جيو سياسية وجيو اقتصادية ساهمت وما زالت وستبقى تُذكي أطماع القوى الكبرى، وتلك الصاعدة الراغبة في إيجاد موطن لها وسط الكبار، جاعلة من هذه المزايا والمقومات محدّدات لاستقطاب التنافس والصراع الدولي ذات البعد التاريخي المتجدّد على مرّ العصور، ابتداءً من أباطرة روما وقرطاج وقبلهم الإغريق والفراعنة، مرورًا بسلاطين الباب العالي وقادة أوروبا الاستعمارية ثم قياصرة روسيا وخلفائهم السوفيات، وصولًا لزعماء البيت الأبيض وقادة روسيا الجدد، وأزمة ليبيا الراهنة ليست بالاستثناء عن منطق هذا الاستقطاب وهي التي تعدّ أحد أحدث تجلياته، وحلقة في سلسلة من حلقات تاريخه الطويل.
.jpg)
و هذا الكتاب محاولة من المؤلف لسدّ الفراغ الراهن في حقل الإنتاج العلمي والمعرفي الشامل لحيثيات وتطورات الأزمة المستمرة في ليبيا، وافتقار الساحة البحثية للكم الوافي للإحاطة بجميع تفاصيل هذه الأزمة ذات الأبعاد المعقّدة، ومستويات التحليل المتباينة والمتعدّدة، التي من الصعب لأي دراسة الإلمام بجميع ثناياها مهما بلغت درجات الشمولية المتسّمة بها، ومردّ ذلك لما يحيط بالأزمة من تعقيد وما تحمله من تداعيات تتعدّى ما هو داخلي إلى ما هو إقليمي ودولي، إلى جانب تسارع الأحداث والتغيّرات في موازين القوى؛ تسارعٌ مرّده أساسًا تقلّب الولاءات المتجدّد والمستمر في خارطة ارتباطات الفواعل المحلية، سواء ضمن علاقاتهم البينية؛ أو علاقاتهم بالرُّعاة الخارجيين على تناقضات مصالحهم وحدود تبايناتهم وتوافقاتهم.
حاول المؤلِّف الإلمام بثنايا هذه الأزمة سواءً ما ارتبط بجذورها ومسبباتها وروافد استمرارها، أو بأطوارها ومراحلها، علاوة على تداعياتها الداخلية وأبعادها الإقليمية والدولية، وسيناريوهات تطورها وتداعيات ذلك على مستقبل الدولة في ليبيا سلطة ومجتمعًا، وذلك عبر تقديم رؤية تحليلية تُفضي لتفكيك بُنية النزاع؛ والتطرق لجهود إعادة بناء الدولة ضمن ما توفر من مقاربات الاستجابة للأزمة ومساعي التسوية والحل، تليها رؤية استشرافية لمساراتها في ظل ما هو واضح وثابت من محددات ووقائع راهنة، حيث تم معالجة كل ذلك ضمن ثمانية محاور شكّلت محتوى الكتاب.
تباين مستويات تحليل موضوع الكتاب فرض جملة من الإشكالات التي تؤطر مجتمعة لطبيعة المعضلة الليبية وما يكتنف أزمتها من حيثيات، ولعّل جوهر هذه الإشكالية الواجب معالجتها هو ذلك المرتبط بمدى مساهمة التناقضات المجتمعية والفراغ المؤسسي الحاصل منذ عقود في زرع بذور الأزمة وترسيخها لاحقًا، وبالتالي فما مدى التأثير المتوقع للتفكّك البنيوي المؤسسي الحاصل في ليبيا على مستقبل تسوية الأزمة فيها؟ وما حدود التعويل على التوافقات الإقليمية والدولية لتوفير الاستجابة اللازمة نحو التسوية والحل في ظل التقلبات المتسارعة في حدود التوافق والاختلاف بين هذه الأطراف وتناقض الرؤى الذي يفرضه تضارب المصالح بينها؟ وما طبيعة السيناريوهات المنتظرة في ظل المتغيرات التي حملها فشل مخرجات مسار جنيف لسنة 2020 وعودة الانقسام من جديد في تحقيق المرجو منها من نتائج؟
حالة التعقيد والتداخل التي يتسّم بها المشهد الليبي بين مختلف الفواعل باختلاف مستوياتهم ومصالحهم وتناقضاتهم المتضاربة، زاد من صعوبة تسوية الأزمة على النحو الذي يُفضي لتحصيل حالة من التوافق بين مصالح مجمل الأطراف ذات العلاقة بها، وهو ما أدى في النهاية لترسيخ حالة "الأزمة المزمنة" التي اتسمت بها الأزمة الليبية؛ حيث تجلّى ذلك في أكثر صوره وضوحًا عبر توالي المراحل الانتقالية دون تحقيق أدنى معالم الاستمرارية حول متطلبات التوافق، وأقصى ما تم تحصيله لم يتعد حدود الظرفية المؤقتة الزائلة بزوال دوافعها، بحيث كلما نجحت الجهود في تقريب وجهات النظر بين مختلف الفواعل حول أهم القضايا، تجدّدت الأزمة تحت طائل تجدّد الدافعية، على النحو الذي ساهم في تغذية استمراريتها لغاية الآن.
فواقع الأزمة في ليبيا يحمل في ثناياه كبير التعقيد والتشابك الإقليمي والدولي مقارنة بمثيلاتها في باقي دول المنطقة التي مسّتها موجة التحولات السياسية السابقة منذ سنة 2011م، على غرار سوريا ومصر وتونس واليمن، وإن كانت الحالة السورية هي أقرب النماذج لنظيرتها الليبية بالنظر لمعالم التأثير والتأثر في التوازنات الإقليمية والدولية التي زادت من مصاعب تسويتها، إلا أن ذلك لا يغنينا عن الدافعية المحلية؛ فجوهر الأزمة الليبية هو صراع "السلطة والثروة" كمحدّدين لا يجتمعان سويًا إلا في حالة ليبيا، وهذا ما أفرز حالة الاستثناء التي تتسم بها الأخيرة، استثناء بقدر ما يميز الأزمة الليبية عن غيرها من أزمات فإنه سيميز كذلك سبل الحل والتسوية مقارنة بما سواها من أزمات، وإن كانت مواصفات الأزمة وعناصرها متوفرة وواضحة، فإن محدّدات التسوية ظلت غائبة تارة، ومغيبة تارة أخرى، وحتى وإن توفرت بعض من معالمها في مرحلة معينة نتيجة لتوفر الحد الأدنى من التوافق الإقليمي والدولي بالتوازي مع نظيرهما المحلي الداخلي؛ فإن زوال مسببات ذلك دومًا ما يؤدي إلى العودة للمربع الأول، وهو ما غذّى التجدّد المستمر للأزمة لقرابة عقد ونصف من الزمن.
ضمن المعطيات الآنفة جاء الكتاب ليكون إضافة لمجهودات أكاديمية سابقة تناولت ملف الأزمة في ليبيا، حيث اجتهد المؤلِّف في سبيل تقديم الإحاطة الوافية بالأزمة بكل ما يكتنفها من غموض، والتعمّق أكثر في كل حيثياتها بموضوعية وحيادية؛ دون أي تحيّز ذو خلفيات مسبقة؛ من شأنه أن يعوق الكاتب عن تحصيل نتائج بحثية رصينة ذات مصداقية علمية تماشيًا مع ما يفرضه واقع الأزمة من ضرورات الاحتكام لحلول واقعية فعالة وذات جدوى، تجنّب ليبيا دولة وشعبًا مآلات الاستمرار في هذا النزاع ومخاطره على مستقبل وحدة وكينونة الدولة، والاكتفاء بما خلّفته سنوات الأزمة الماضية من ويلات.
في ذات السياق لا يمكن اعتبار ما طُرح ضمن هذا الكتاب مرجعية منزّهة تستوفي شروط الإجماع حوله، ففي الأخير ما هو إلا اجتهاد ورؤية تجاوزت حدود السرد إلى الغوص في ثنايا الأزمة توصيفًا وتفسيرًا وتحليلًا وتنبؤًا، انطلاقًا مما يراه المؤلِّف راجحًا وفق منظوره ليكون مستوفيًا لمعايير الطرح الأكاديمي الموضوعي؛ بعيدًا عن جدلية الخطأ والصواب، وفي حِلٍّ من قُدسية الطرح، فبقدر ما قد يناله مضمون الكتاب من قبول لدى نُقّاده بقدر ما قد يناله من رفض لدى منتقديه؛ رغم كل ما بُذل من جهد من المؤلِّف في سبيل توخي أقصى معايير الحيادية والموضوعية الأكاديمية، ورغم حرصها على توخي الدقة في سرد المعلومة، إلا أنها لا تخلو من الصراحة في تقديم الراجح من الرأي.
.jpg)





