أضحت الوساطة إحدى أهم الأدوات الدبلوماسية غير القسرية، التي تلجأ إليها الدول الحديثة لتفادي التصعيد وتحقيق التسويات السلمية. وفي العالم العربي، ولا سيّما في منطقة الخليج العربي، اكتسبت الوساطة بُعدًا ثقافيًا وإنسانيًا يميّزها عن النماذج الغربية التي تركز على موازين القوة والمصالح. فالمقاربة الخليجية ترى في النزاع حالة إنسانية قابلة للتهدئة عبر الاعتراف والإرضاء النفسي قبل الحلول القانونية أو العسكرية. ومن هنا تلتقي مع ما يُعرف في أدبيات إدارة النزاعات باسم الوساطة التحويلية (Transformative Mediation Theory)، التي صاغها روبرت بوش وجوزيف فولغر في كتابهما المرجعي The Promise of Mediation (1994)، مؤكدَين أن الوساطة ليست فرضًا للحل، بل تحويلًا للعلاقات عبر التمكين والاعتراف المتبادل.
الأساس النظري لنظرية الإرضاء التحويلية
لا توجد في حقل الوساطة الدولية نظرية كلاسيكية تُعرف حرفيًا باسم “نظرية الإرضاء”، إلا أن المفهوم يُعبّر عن توجه فلسفي يسعى إلى إدخال البعد الإنساني والنفسي في عمليات إدارة النزاعات. والاتجاه الأقرب لذلك هو المدرسة التحويلية في الوساطة، التي تُركّز على تحقيق الإرضاء الداخلي للأطراف لا بمجرد الحلول التقنية، بل من خلال الاعتراف بالآخر وتمكين الذات. يرتكز هذا الاتجاه على مبدئين أساسين:
- التمكين (Empowerment): أي مساعدة الأطراف على استعادة السيطرة على قراراتهم.
- الاعتراف (Recognition): أي إدراك كل طرف لإنسانية الآخر وكرامته.
في هذه الرؤية، يصبح دور الوسيط ميسِّرًا للوعي الذاتي والعلاقات المتبادلة، وليس طرفًا خارجيًا يفرض الحلول. وبهذا يغدو الإرضاء النفسي والاجتماعي — لا النصر أو الغلبة — هو جوهر التسوية.
الخصوصية الثقافية للوساطة الخليجية
تستمد الوساطة الخليجية خصوصيتها من الإرث الاجتماعي العربي القائم على الصلح والعرف والهيبة الرمزية. فالوسيط في الثقافة الخليجية لا يُنظر إليه بوصفه خبيرًا قانونيًا، بل بوصفه رمزًا للعدالة الأخلاقية. وغالبًا ما يكون من كبار القوم أو القادة، الذين تجمعهم بالأطراف صلات قرابة أو ثقة أو تاريخ من الحياد. في هذا السياق، تُعد الوساطة الخليجية امتدادًا للصلح القبلي القديم الذي يهدف إلى استعادة التوازن الاجتماعي، لا إلى إدانة طرف أو مكافأة آخر. فالتسوية هنا ليست تنازلًا، بل استرجاع للكرامة. وهذا المعنى يوازي ما يسميه بوش وفولغر “التحول في العلاقة الإنسانية” عبر الاعتراف المتبادل. إن الوسيط الخليجي لا يسعى إلى فرض الحل، بل إلى خلق مناخ عاطفي يسمح للأطراف بالتعبير عن مظلومياتهم ومخاوفهم، وصولًا إلى لحظة الرضا الجمعي. ولهذا فإن الوساطة الخليجية، رغم بساطتها الشكلية أحيانًا، تنطوي على عمق نفسي وثقافي يجعلها أقرب إلى مفهوم “الإرضاء التحويلي” منها إلى النماذج الغربية البيروقراطية في إدارة النزاع.
الوساطة الخليجية كقوة دبلوماسية ناعمة
تُعد الوساطة أحد أركان الدبلوماسية الناعمة الخليجية، إذ تمكّنت دول مثل الكويت وقطر وعُمان من ترسيخ مكانتها الدولية عبر لعب أدوار الوسيط في نزاعات معقدة. فالكويت، في إدارتها لأزمة مجلس التعاون الخليجي (2017–2021م)، مثّلت نموذجًا متقدمًا في تطبيق فلسفة الاعتراف المتبادل. فقد تمسكت بلغة “لمّ الشمل” و“رأب الصدع”، ورفضت الاصطفاف أو الإملاء، معتبرة أن نجاح الوساطة لا يقاس بالنتائج السريعة، بل ببقاء قنوات التواصل مفتوحة. هذا الموقف عكس جوهر الوساطة التحويلية، إذ سعت الكويت إلى تمكين الأطراف من التعبير عن مواقفهم ضمن مساحة آمنة للحوار. أما قطر، فقد طوّرت نموذجًا وساطيًا يقوم على الإرضاء المتدرج: فهي لا تكتفي بجمع الأطراف، بل تعمل على بناء الثقة عبر مراحل طويلة، كما في وساطاتها في لبنان (اتفاق الدوحة 2008) والسودان وأفغانستان. وتظهر هذه المقاربة إدراكًا عميقًا للبعد النفسي في النزاع، حيث يُعد حفظ ماء الوجه والاعتراف بالآخر مقدمة ضرورية لأي اتفاق فعّال. في المقابل، تميّزت سلطنة عُمان بأسلوب “الاستماع الهادئ” في وساطاتها بين الولايات المتحدة وإيران، وهو ما يجسد فكرة المساحة الآمنة للاعتراف، أحد المبادئ الجوهرية في النظرية التحويلية. فنجاح الوساطة العُمانية لم يكن في فرض اتفاقات مباشرة، بل في تهيئة المناخ النفسي والسياسي الذي سمح بتفاهمات لاحقة، مثل الاتفاق النووي (2015).
مستويات الإرضاء في الوساطة الخليجية
يمكن تفكيك المقاربة الخليجية من خلال ثلاثة مستويات متكاملة للإرضاء:
- الإرضاء الإجرائي: شعور الأطراف بعدالة العملية وحياد الوسيط، وهو ما يعزز الثقة في الوساطة نفسها.
- الإرضاء العاطفي: تحقيق الشعور بالاعتراف والاحترام المتبادل، وهو جوهر التحول الإنساني في العلاقة.
- الإرضاء الموضوعي: التوصل إلى تسويات عملية تُراعي المصالح الجوهرية دون المساس بالكرامة.
تُعبر هذه المستويات عن أن الوساطة الخليجية ليست عملية سياسية فحسب، بل ممارسة ثقافية ذات بعد نفسي واجتماعي. فهي لا تكتفي بتسوية النزاع، بل تسعى إلى ترميم العلاقات التي تمزقت، وإعادة بناء الثقة بين الأطراف المتنازعة.
التحديات البنيوية للوساطة الخليجية
رغم نجاحاتها، تواجه الوساطات الخليجية مجموعة من التحديات البنيوية.
أولها تشابك المصالح الإقليمية والدولية، ما يجعل الحياد مسألة معقدة في ظل ضغوط القوى الكبرى. وثانيها الفجوة بين الإرضاء النفسي والتنفيذ العملي؛ فليس كل اتفاق مبني على الرضا النفسي قابلًا للتحقق سياسيًا. وثالثها الضغوط الإعلامية والجماهيرية، التي قد تفرض على الوسيط سرعة الإنجاز على حساب العمق التحويلي للعلاقات. ومع ذلك، أثبتت التجربة الخليجية أن التركيز على القيم الرمزية والإنسانية يمنح الوساطة شرعية أخلاقية ودبلوماسية مستدامة. فحين تُدار الأزمات بروح الإرضاء والتحول بدل الإكراه والمساومة، تصبح الوساطة أداة بناء لا مجرد إدارة أزمة. تُبرز التجربة الخليجية في الوساطة أن إدارة النزاعات ليست مجرد توازن قوى أو تبادل مصالح، بل هي عملية إنسانية لإعادة الاعتراف المتبادل وبناء الكرامة. وهذا ما يجعل المقاربة الخليجية أقرب إلى الوساطة التحويلية كما صاغها بوش وفولغر، حيث يتحول الهدف من إنهاء النزاع إلى تحويل العلاقة. لقد قدمت الوساطات الخليجية نموذجًا عمليًا للدبلوماسية القائمة على الإصغاء والإرضاء، لا على الإملاء والإكراه. فهي دبلوماسية الوجدان قبل السياسة، والاحترام قبل المصلحة. وبهذا المعنى، فإنها تُعيد إلى العلاقات الدولية بُعدها الإنساني المفقود، مؤكدة أن السلام الحقيقي لا يُصنع بالقوة، بل بالاعتراف والإرضاء المتبادل.






