تُثير الطفرة المشهودة عالميًا في وتيرة العنف داخل الدول أو بين الدول وبعضها البعض، تساؤلات بشأن كيفية الحد من هذه الصراعات، وماهية الدور الذي يمكن للوسطاء القيام به في سبيل تسوية الصراعات ودعم جهود المصالحة. وتعتبر منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نقطتي ارتكاز للعديد من هذه الصراعات، بما في ذلك القضية الفلسطينية، والملف النووي الإيراني، والحروب الأهلية في كل من اليمن، والسودان، وليبيا، بالإضافة إلى النزاعات التي تشهدها سوريا، والعراق، ولبنان. وفي هذا الصدد، تبرز ألمانيا كوسيط محتمل بفضل تاريخها المطول في المصالحة مع دول الجوار مثل فرنسا بعد انتهاء الحرب العالمية، ومسيرتها الشاقة للتحول من دولة منبوذة عالميًا في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى عضو بمنظمة الأمم المتحدة في عام 1973م، وإعادة توحيدها في 1990م. فجميعها عوامل جعلتها أكثر حساسية ومُراعاة لأهمية المؤسسات متعددة الأطراف. وفي ظل تعريف نفسها "كقوة مدنية"، ناصرت ألمانيا النظام الدولي القائم على القواعد، واحتضنت مؤسسات دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، التي تأسست في عام 1998م، بموجب معاهدة "روما". بما يُثير تساؤُلًا: إلى أي مدى يمكن لألمانيا الاضطلاع بدور الوساطة في حل صراعات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وكيف يمكن للشركاء الدوليين والإقليميين -مثل دول المنطقة ومجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية- المساعدة في تسهيل جهود الوساطة؟ ينطوي هذا الأمر على أهمية خاصة نظرًا للهيمنة الأمريكية على قضايا المنطقة والدور المهمش نسبيًا للاتحاد الأوروبي.
عادة ما ترتبط جهود الوساطة بالدول الأصغر حجمًا. على سبيل المثال، شاركت دولة قطر في جهود الوساطة لحل أزمة إقليم دارفور وتسوية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؛ كما لعبت سلطنة عمان دورًا في المفاوضات التي أفضت إلى إتمام الاتفاق النووي الإيراني في عام ، 2015م، (خطة العمل الشاملة المشتركة)؛ كذلك ساهمت دولة مثل النرويج في تسهيل إجراء المفاوضات إبان تسعينيات القرن الماضي التي أثمرت عن التوقيع على اتفاقيات "أوسلو" للسلام. واستضَافت سويسرا عددًا من مبادرات الوساطة الدولية خلال حقبة الحرب الباردة وما بعدها. لعل السبب في ذلك يعود إلى أن المصالح الوطنية للدول الأصغر حجما تميل إلى أن تكون أضيق نطاقًا مقارنة بالبلدان الأكبر، بما يمكنها من تبني موقف أكثر حيادية. مع ذلك، فإن الوساطة ليست شيئًا غريبًا على الدول الكبرى. فقد ساهمت الولايات المتحدة، على سبيل المثال، في رعاية اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل في كامب ديفيد. فضلًا عن مساعيها المطولة لتسهيل التوصل إلى اتفاق بشأن حل الدولتين بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. كذلك لعبت واشنطن دورًا في إتمام اتفاقات "إبراهام"، التي أدت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وكل من الإمارات، والبحرين، والمغرب، والسودان.
تقليديًا، كانت السياسة الخارجية النموذجية لألمانيا في معالجة الصراعات داخل إفريقيا، وأوكرانيا، وأفغانستان، ودول غرب البلقان، تتلخص في دعم جهود الوساطة التي تتم عبر منظمة الأمم المتحدة، أو المنظمات الإقليمية، أو منظمات المجتمع المدني. وكان لها أيضًا مشاركات مباشرة في مفاوضات فض النزاعات. على سبيل المثال، ساهمت برلين في تسهيل عمليات تبادل الأسرى- وأبرزها إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط مقابل الإفراج عن أكثر من ألف أسير فلسطيني. كما لعبت برلين دورًا رئيسيًا في "الدبلوماسية القسرية" التي اعتمدتها الدول الأوروبية الثلاث -إلى جانب المملكة المتحدة وفرنسا- ضد إيران والتي أثمرت في نهاية المطاف عن توقيع الاتفاق النووي في عام 2015م.
رغم السمعة الطيبة التي تمتعت بها ألمانيا عالميًا كوسيط نزيه، إلا أنها اُعتبرت في بعض حالات الصراع طرفًا منحاز أكثر من كونها وسيطًا محايدًا، وينطبق ذلك بشكل خاص في القضية الفلسطينية. بالنظر إلى الإرث النازي (الهولوكوست) الذي تحمله ألمانيا على عاتقها، فإنها تعتبر أمن إسرائيل جزءًا أصيلًا من المصلحة العليا للدولة الألمانية. وفي أعقاب هجمات حماس في السابع من أكتوبر ضد إسرائيل، سارعت برلين لدعم إسرائيل. ولم تخفت وتيرة هذا الدعم سوى مؤخرًا مع إعلان المستشار الألماني فريدرش ميرتس حظر تصدير الأسلحة التي يمكن استخدامها في حرب غزة. ولكن يظل ذلك دون المساس بالتعاون الاستراتيجي القائم بين البلدين بشأن بعض الأصول العسكرية المحددة-مثل الغواصات الألمانية التي تمثل جزءًا لا يتجزأ من القدرات الإسرائيلية على الرد العسكري والردع النووي- في حين تعتمد ألمانيا، في المقابل، على أنظمة صواريخ الدفاع الجوي الإسرائيلية "آرو 3"، والطائرات المٌسيرة الإسرائيلية التي تستوردها وتعاون البلدين الاستخباراتي وفي قضايا الأمن السيبراني.
وفيما يتعلق بالتصعيد الأخير بشأن أنشطة إيران النووية، فمن غير المرجح أن تُكرر الدول الأوروبية الثلاث (ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة) تجربة الوساطة التي سبقت التوقيع على خطة العمل الشاملة المشتركة. ويعزى ذلك في الأساس إلى حرصها على الحفاظ على دعم إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لأوكرانيا في مواجهة العدوان الروسي. كما بدأت الدول الثلاث تفعيل آلية إعادة فرض العقوبات ضد إيران بموجب إطار خطة العمل الشاملة المشتركة، بما يجعل التعاون الدبلوماسي مع الجمهورية الإسلامية احتمالًا مستبعدًا.
يمتد نموذج السياسة الخارجية الألمانية لما هو أبعد من مفهوم "القوة المدنية". وفي ظل نقطة التحول في العقيدة الألمانية على صعيد السياسات الخارجية والأمنية "Zeitenwende"“، أصبحت برلين أكثر وعيًا وإدراكا لأهمية مصالحها القومية. ومن بين النماذج المثلى لتعريف الدول مثل: "دولة القوة الواقعية"- أو “التجارية الليبرالية"- أو “دولة القوة المدنية"- اعتادت برلين التماهي بشكل أساسي بالنموذجَين الأخيرين. حيث يعكس الطابع التجاري تركيزًا على النمو الاقتصادي مقابل التوسع الجغرافي والسعي إلى تحقيق مكاسب الرفاه التي تتوافق مع السياسات المحلية، وكذلك تفضيل التعددية على سياسة القوة. وهو ما يدعمه أيضًا نموذج "القوة المدنية "، ولكن لأسباب قد تكون مختلفة. حيث يٌكرس لمبَادئ تقضي بعدم تكرار تجربة الماضي، وتجنب شبح العزلة الدولية مرة أخرى، وإعلاء نهج السياسة على خيار القوة. بما يعكس الموقف الأخلاقي لألمانيا خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. والذي يهدُف إلى منع إعادة إحياء النزعة العسكرية والقومية من خلال ترسيخ أقدام التعددية، وبناء المؤسسات، والتكامل مقابل النزعة الوطنية. بما يُرسي أساسًا لسياسة خارجية تقوم على المعايير وغالبًا ما تكون مُشبعة بالاعتبارات الأخلاقية، وإن كان يتناقض ذلك مع سياسات القوى العظمى، التي تُركز على الإنفاق الدفاعي وتحقيق التوازن.
تعكس مشاركة ألمانيا في مهام عسكرية خارج حدود المنطقة منذ تسعينيات القرن الماضي "استمرارية مُعدلة" لنموذج "القوة المدنية". والذي خالف التوقعات بشأن تبني ألمانيا سياسات تركز على القوة بعد إعادة التوحيد. ومع ذلك، فإن رفض برلين المشاركة في الحرب على العراق أشار إلى التحول إلى دور أكثر بروزًا على صعيد الشأن العالمي، دون التخلي عن حذرها التقليدي. وذلك ضمن إطار دفاعي واقعي- تسعى من خلاله لترسيخ صورتها كقوة" طبيعية" تعي تمامًا ماضيها، ولكنها تثق في قدرتها على صنع القرار المستقل. وقد أدى هذا التحول النسبي إلى الانتقال بألمانيا لما هو أبعد من التعددية الخالصة والمواقف المتحفظة إلى سياسة واقعية مدفوعة بالمصالح القومية. رغم ذلك، أظهرت برلين تفضيلًا مرة أخرى للنهج المتحفظ خلال التدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي " الناتو" في ليبيا عام 2011م، إلا أن الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا، عزز لديها الاعتقاد بأهمية رفع مستوى القدرات الدفاعية الأوروبية وتبني نهج واقعي يركز أكثر على القوة.
تملك ألمانيا مصالح واضحة في مناطق الصراع المتعددة بالشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، يمثل انخراطها مع الحكومة السورية الجديدة خطوة لمعالجة مخاوفها من تفكك البلاد وتجدد موجات الهجرة نحو أوروبا. وعلى الرغم من أن ألمانيا قد تميل إلى نزع سلاح جماعة "حزب الله" اللبنانية، فإنها ترى ذلك هدفًا غير واقعي بسبب ضعف الحكومة اللبنانية وجيشها. ورغم فداحة الحروب الأهلية في اليمن والسودان، فإن بعدها الجغرافي عن أوروبا يضعها في مرتبة أقل خطورة مقارنة بالصراع الليبي. لذلك، تقتضي المصالح الألمانية في هذه الحالات التعاون مع المنظمات الدولية وشركاء إقليميين مثل دول مجلس التعاون الخليجي، بهدف استكشاف سبل تسوية هذه الصراعات.
يظل أمن إسرائيل قضية غير قابلة للتفاوض على أجندة السياسة الخارجية الألمانية في مواجهة أي هجمات أو اعتداءات على إسرائيل على غرار ما حدث في السابع من أكتوبر. لكن ذلك لا يمنع أن الموقف الألماني غدا أكثر انتقادًا للتصرفات الإسرائيلية فيما يتعلق بحرب غزة، والممارسات الاستيطانية، واحتلال الضفة الغربية. لاسيما بعد الأفعال الأخيرة مثل قصف وفد حماس داخل دولة قطر-الذي اُعتبر انتهاكًا للسيادة القطرية ولا يمكن تبريره على أنه موقف دفاعي. هذا الموقف يتيح إمكانية الضغط بشكل مشترك على الأطراف التي تسعى لعرقلة فرص تسوية الصراع، خاصة أن هناك قنوات اتصال متاحة معها. فعلى سبيل المثال، يمكن للحكومة الألمانية أن تمارس ضغطًا على أعضاء اليمين الإسرائيلي المتطرف، بينما يمكن للوسطاء في دول الخليج التواصل مع مسؤولي حركة حماس.
تهدف ألمانيا أيضًا إلى الحفاظ على مؤسسات الأمم المتحدة وتدعيم سلطتها في مواجهة ضغط جهات خارجية مثل إدارة ترامب، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبرنامج الأغذية العالمي. وفي حين أن معظم دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا - باستثناء الأردن وفلسطين - ليست أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن المصالح الدولية الأوسع قد تتوافق مع دول مجلس التعاون الخليجي في قضايا مثل الاتفاق النووي المحتمل مع إيران. ورغم استبعاد تحقيق تقدم دبلوماسي لحل أزمة النووي الإيراني حاليًا، إلا أن الجهود المبذولة في هذا الاتجاه لاتزال تدعم المصالح الألمانية والخليجية المشتركة.
وتعد آلية الإجماع في الاتحاد الأوروبي عائقًا أمام اتخاذ قرارات سريعة في مجال السياسة الخارجية، مما يجعل "تحالفات الراغبين" خيارًا عمليًّا. ولضمان فاعلية هذه التحالفات، من الضروري أن تشمل القوى الأوروبية الرئيسية كألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، وبولندا، وإيطاليا. من جهة أخرى، يحدّ الانقسام الداخلي من نفوذ جامعة الدول العربية في النزاعات الإقليمية. وفي حين يتمتع مجلس التعاون لدول الخليج العربية بتماسك أكبر، فإن التعاون الثنائي مع كل دولة على حدة يمثل النموذج الأكثر ملاءمة لألمانيا، لا سيما في المسائل الاستراتيجية ذات المصالح المشتركة.






