array(1) { [0]=> object(stdClass)#14121 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 215

تطوير استراتيجيات الوسطاء بنظام للإنذار المبكر لرصد مؤشرات الصراعات واقترابها من الحروب

الأربعاء، 29 تشرين1/أكتوير 2025

أبدت دول الخليج العربي خلال العقود الأربعة الماضية اهتماماً متزايداً بلعب دور الوسيط في العديد من الصراعات الإقليمية والدولية. فقد توسطت المملكة العربية السعودية في عدة نزاعات، أبرزها الحرب الأهلية اللبنانية التي أفضت إلى اتفاق الطائف عام 1989م، منهيةً بذلك الحرب الأهلية هناك. كما قامت بدور الوسيط في اليمن من خلال "المبادرة الخليجية" (2011–2015م)، التي شكلت إطاراً لعملية انتقال السلطة من الرئيس السابق علي عبد الله صالح إلى حكومة انتقالية. وتوسطت أيضاً فيما عُرف بـ “اتفاقية مكة" عام 2007 م، لإنهاء الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس، وتواصل جهودها بالتعاون مع أمريكا للمساهمة في إنهاء الحرب الأهلية في السودان ووقف الاقتتال بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع.

وقامت قطر بالوساطة في الأزمة السياسية اللبنانية عام 2008م، التي استمرت ثمانية عشر شهراً، وأسفرت عن اتفاق الدوحة الذي مهّد الطريق لتشكيل حكومة وحدة وطنية في لبنان. كما لعبت دور الوسيط بين الحكومة السودانية والمتمردين (2009–2011م)، ما أدى إلى التوصل إلى وثيقة الدوحة للسلام في دارفور. ومؤخراً، استضافت قطر المكتب السياسي لحركة طالبان وسهّلت المفاوضات مع أمريكا، التي تُوِّجت باتفاق 2020م، بين واشنطن وطالبان، تلتها جهود دبلوماسية للانسحاب الأمريكي.

عُمان، التي تُعرف بـ “الوسيط الهادئ"، نجحت في التوصل إلى الاتفاق النووي بين أمريكا وإيران عام 2015م، كما أدّت دور الوسيط في جولات متعددة من المفاوضات بين الحوثيين وأمريكا منذ اندلاع حرب اليمن عام 2015م.

أما الإمارات، فقد نجحت في التوسط لتبادل 180 أسيراً بين روسيا وأوكرانيا (90 من كل جانب) في يونيو 2024م.

ولعبت الكويت دوراً محورياً في جهود الوساطة خلال أزمة الخليج عام 2017 م، بين قطر ودول الجوار، وتمكنت بالتعاون مع واشنطن من المساهمة في إنهاء الأزمة. كما استضافت المفاوضات اليمنية بين الحوثيين والحكومة عام 2016م، ولعبت دور الوسيط بالتنسيق مع الأمم المتحدة.

لماذا الوساطة؟

هناك العديد من العوامل التي تنطلق منها الوساطة الخليجية في الصراعات، ولا سيما الإقليمية، إضافةً إلى الأهداف التي تسعى لتحقيقها. وتتمثل أبرزها في الحرص على الحفاظ على استقرار المنطقة، وهو أمر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمن القومي لدول الخليج، إذ أن الصراعات لا تُحتوى ضمن حدودها الجغرافية، بل تنتشر وتمدد نحو دول الجوار أولاً، ثم إلى الإقليم وربما إلى المستوى الدولي أحياناً.

يسهم احتواء الصراعات ومنع تمددها في تعزيز الأمن القومي بفعّالية. ومن ناحية أخرى، فإن انعدام الاستقرار واستمرار الصراعات غير المنظّمة يفتح المجال أمام لاعبين إقليميين مؤثرين – مثل إيران وتركيا – لتوسيع نفوذهم في الإقليم، وقد يكون ذلك أحياناً على حساب مصالح دول الخليج. إضافة إلى ذلك، فإن الفاعلين– كالتنظيمات المتطرفة – يجدون في حالات عدم الاستقرار بيئة خصبة للنشاط والتمدد، كما حدث في حالة تنظيم (داعش) الذي نشأ خلال الحرب في سوريا وامتد نفوذه إلى العراق أيضاً.

إضافة إلى تحقيق دول الخليج مكاسب مهمة من خلال وساطتها في الصراعات، إذ تسهم هذه الوساطات في تعزيز قوتها الناعمة وترسيخ دورها ضمن النظام الدولي. فالنجاح في إدارة الوساطة يعزز صورتها كدولٍ تسعى للسلام وتناهض الحروب والصراعات، كما يمنحها الوصول إلى جميع أطراف النزاع، وهو أمر تحتاجه الأطراف الدولية في كثير من الأحيان، خاصة عندما يتعذر على أطراف الصراع التواصل المباشر فيما بينها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، فتح دولة قطر مكتباً لحركة طالبان في الدوحة عام 2014م، ثم قيامها لاحقاً بالوساطة بين الحركة وأمريكا، وهي الوساطة التي أفضت إلى الاتفاق الذي تم توقيعه عام 2020م، وانسحبت بموجبه أمريكا من أفغانستان.

تُحقق الوساطة أيضاً مكاسب اقتصادية لدول الخليج، إذ يسهم تحقيق الاستقرار الإقليمي في ضمان أمن مسارات تجارة الطاقة واستمرارية تدفقات رؤوس الأموال، فضلاً عن دعم مشاريع التنويع الاقتصادي التي تشكل ركناً أساسياً في استراتيجيات التنمية الخليجية. كما تتيح الوساطة لدول الخليج تعزيز نفوذها الاقتصادي في مناطق الصراع، من خلال فتح مجالات استثمارية جديدة، لا سيما في مراحل ما بعد النزاع التي تشهد عادة إطلاق مشاريع إعادة الإعمار والتنمية.

علاوة على ذلك، تنطوي الوساطة على أبعاد ثقافية وأخلاقية تتقاطع مع تطلعات الشعوب العربية نحو التضامن مع الشعوب الأخرى، ونبذ الحروب، والسعي إلى إحلال السلام، وهو ما يمنح الدور الوسيط بُعداً معنوياً يعزز مكانة الدولة إقليمياً ودولياً.

مدارس متنوعة في الوساطة

تتبنّى دول الخليج مناهج متعدّدة في وساطاتها للصراعات يمكن تصنيفها في ثلاث مدارس رئيسية:

أولاً، استراتيجية الاتصال: التي اعتمدتها سلطنة عمان ودولة الكويت، وتركّز على تسيير التواصل بين أطراف النزاع ونقل الرسائل المتبادلة وتوفير بيئة مناسبة للحوار. يقتصر دور الوسيط هنا على الجوانب الإجرائية دون التدخل في مضمون المفاوضات أو التأثير في مواقف الأطراف، إذ يُترك لهم تحديد محتوى الاتفاق وصياغة بنوده.

ثانياً، استراتيجية الصياغة: استخدمت دولة قطر هذا النهج الذي، إلى جانب تسهيل التواصل بين الفرقاء، يركّز على الانخراط في صياغة الإشكاليات وتأطيرها، وتفسير أقوال الأطراف وتوضيح المعاني، وتخفيف حدة العداء، وتشجيع أسلوب حلّ المشكلات. يتدخّل الوسيط هنا في محتوى المفاوضات، فيقدّم المقترحات، ويعمل على بناء الثقة بين أطراف التفاوض، ويبذل جهداً لتقريب المواقف.

ثالثاً، الاستراتيجية التوجيهية: تميّزت الوساطات السعودية والإماراتية بهذا النهج، حيث يتدخّل الوسيط بفعالية في المفاوضات لتوجيه الأطراف نحو نتائج أو تفسيرات أو حلول محددة، بدلاً من الاكتفاء بتسيير عملية التواصل بينهم. وقد اعتمدت السعودية هذه الاستراتيجية في وساطتها التي أفضت إلى اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان.

تطوير الوساطة لتصبح أكثر فاعلية

يمكن ملاحظة النجاحات التي حققتها الوساطات الخليجية في عدد من الصراعات، حيث راكمت خبرة مبنية على انخراطٍ مكثّف في أزمات متعددة، فتعلّمت من أخطائها وعدّلت من أساليبها، وأصبحت أكثر استجابة لمتطلبات تسوية الصراعات بالطرق السلمية مما كانت عليه في بدايات تدخلها. ومع ذلك، ما تزال المنطقة تعاني من العديد من الصراعات التي طوّرت دينامياتها ومجرياتها وأنواعها، فأصبحت أكثر تحدياً لجهود الوساطة. وللأسف، فإن الصراعات العربية اليوم أكثر تعقيداً، بل إن احتمالات تصاعدها في المستقبل تتزايد لأسبابٍ متعدّدة لا مجال للخوض فيها هنا. لذا، تفرض هذه التعقيدات على الوسطاء الانتقال إلى مرحلة أكثر تقدّماً من الجاهزية والقدرة على التعامل مع الصراعات بتحدّياتها القديمة والجديدة. ويمكن تطوير وساطة الصراعات في المراحل القادمة في المجالات التالية:

أولاً، منع الصراعات المسلحة والإنذار المبكر وكما يُقال في الطب "الوقاية خير من قنطار علاج"، وينطبق المبدأ ذاته على الصراعات المسلحة؛ فالحيلولة دون اندلاع الحرب في سوريا، مثلاً، كانت لتكون أكثر فعالية من أي خطة لإعادة الإعمار، إذ لا يمكن لأي استراتيجية مهما بلغت أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء. وعليه، فإن الاستثمار في جهود منع الصراعات من الوصول إلى مرحلة العنف المسلح أكثر جدوى من أي وساطة لاحقة مهما بُذل فيها من جهد. ويتطلب ذلك من الوسطاء تطوير استراتيجيات تقوم على إنشاء نظام للإنذار المبكر لتطور الصراعات في المنطقة، يرصد مؤشرات اقترابها من التحول إلى العنف والحروب بأشكالها المختلفة. ويُعدّ هذا النمط من جهود حل الصراعات "تدخلاً استباقياً" قادراً على توجيه الصراعات وقيادتها، لا الاكتفاء بالاستجابة لها.

ثانياً، مأسسة عمليات الوساطة وتأسيس مركز خبرة للوساطة في الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي: يبيّن ما سبق تنوّع المدارس في الوساطة الخليجية وتعدد الصراعات التي جرت فيها. وقد راكمت كل دولة على حدة خبرات واسعة واستخلصت دروساً متنوّعة من ممارساتها الميدانية. يشكّل مركز الوساطة منتدى مهماً لتبادل الخبرات والدروس وتعميم الفائدة بين الأطراف المختلفة، ويضمّ في بنيته "مستودع معرفة". كما يسهم المركز في رصد مراحل تطوّر الصراعات وإطلاق إنذارات مبكرة باقترابها من مرحلة العنف المسلح، مما يمكّن صانع القرار من التدخل في الوقت المناسب. إضافة إلى ذلك، يساهم المركز في تصميم استراتيجيات وساطة ملائمة لطبيعة كل صراع، إذ لا توجد استراتيجية واحدة تصلح لجميع الحالات، فكل صراع يتطلّب نهجاً خاصاً به. ومن الضروري كذلك تأسيس وحدة تدريب متخصّصة للعاملين في مجالات منع الصراعات المسلحة، والوساطة، وإدارة الصراعات، وتسويتها، وجهود إعادة الإعمار. كل ذلك يصبّ في مأسسة عمليات الوساطة، والردّ على الرأي القائل إن الوساطات الخليجية ما تزال مرتبطة بالأفراد لا بالمؤسسات. ويمكن في هذا السياق الاستفادة من تجارب مؤسسات دولية متخصّصة مثل International Crisis Group وCMI الفنلندية، لتطوير نموذج يناسب خصوصية الوساطة الخليجية

ثالثاً، توسيع إطار الوساطة: يُقال إن النجاح في حلّ الصراع لا يتحقّق بمجرد التوصّل إلى اتفاق سلام بين الأطراف، بل بالقدرة على تطبيقه. ويُظهر تقرير الأمم المتحدة والبنك الدولي بعنوان "مناهج شاملة للوقاية من النزاعات العنيفة" أن أقل من 50٪ من اتفاقيات السلام تؤدي فعلاً إلى إقامة سلام مستدام، فيما تبقى الاتفاقيات الأخرى دون تنفيذ. وعليه، فإن نجاح الوساطة في تحقيق السلام يتطلّب انخراط الوسيط في مرحلة التنفيذ وربط جهود الوساطة ببرامج إعادة الإعمار، بما يعزّز فرص تطبيق الاتفاقيات لا مجرد توقيعها. إن هذا الربط بين الوساطة وإعادة الإعمار يسهم في تجاوز معضلة اختيار الوسيط بين تعزيز "قوته الناعمة" وبين العمل المبدئي من أجل بناء السلام، إذ إن حصر الوساطة في المرحلة التفاوضية فقط قد يُنظر إليه كمحاولة لتعزيز نفوذ الوسيط أكثر من سعيه لتحقيق سلام حقيقي.

رابعاً، شمولية الوساطة: تعتمد الوساطة في دول الخليج بدرجة كبيرة على الفاعلين الرسميين (المستوى الرسمي)، وهو أمر يمنحها قوة تمثيل ومكانة سياسية، إلا أن هناك مصادر واسعة وغير مستغلة يمكن أن تدعم عمليات الوساطة، تتمثل فيما يُعرف بـ “دبلوماسية المسار الثاني"، أي الجهات غير الرسمية من خبراء ومنظمات غير حكومية تمتلك هامشاً أوسع من الحرية للمشاركة في جهود الوساطة، كونها لا تمثّل الدولة رسمياً. وتشكل جهود المسار الثاني مكمّلاً وليس بديلاً لدور الوسطاء الرسميين، إذ يمكنها تنظيم ورش عمل لتوليد أفكار جديدة للحلول، وفتح نقاشات في منتديات بعيدة عن الأضواء الإعلامية، بما يعزّز أداء الوسطاء الرسميين ويزيد من فرص نجاحهم

خامساً، شفافية الوساطة: غالباً ما تُقابَل جهود الوساطة في مناطق الصراع بشيء من الشك والريبة من قبل أطراف النزاع، والوساطة الخليجية ليست استثناءً من ذلك. لذا، فإن تعزيز الشفافية في عملية الوساطة يسهم في رفع مستوى الثقة وتوسيع فرص النجاح وتسهيل تعاون الأطراف. ويمكن للوسيط أن يكون أكثر شفافية من خلال توضيح أهداف الوساطة، والمدة الزمنية المتوقعة، وآليات العمل، بما يطمئن أطراف الصراع إلى جدية الوساطة ونزاهة مقاصدها.

سادساً، الشراكة والتنسيق بين الوسطاء: تُنتقد الوساطة الخليجية أحياناً بأنها تعمل بشكل أحادي ومنعزل عن الوسطاء الآخرين، مما يحدّ من قدرتها على تحقيق اختراقات في الصراعات المسلحة. إذ لا يمكن لأي وسيط أن يمتلك جميع مقومات الوساطة المثالية، فهناك من يتمتع بـ “شرعية التدخل"، أو "قوة التأثير"، أو "الخبرة اللازمة"، أو "العلاقات المناسبة" مع أطراف صراع معيّن. لذلك، فإن بناء شراكات وتنسيق فعّال بين الوسطاء يسهم في تحقيق تكامل في الأدوار، ويعزز كفاءة الأداء بما يتناسب مع حجم التحديات التي تواجه جهود الوساطة. وقد شكّلت الشراكة المصرية-القطرية مثالاً مهماً على هذا التنسيق، إذ لعبت دوراً حيوياً في التعامل مع التحديات التي رافقت الوساطة خلال حرب غزة

سابعاً، الجوانب الأخلاقية للوساطة: في بعض الحالات، تسعى أطراف الصراع، ولا سيما في الصراعات غير المتكافئة في القوة، إلى استغلال دور الوسيط لتمرير اتفاقيات مجحفة وظالمة بحق الطرف الأضعف. لذا، فإن الحذر ضروري في مثل هذه الأجواء لتفادي توظيف الوساطة في خدمة أجندات أطراف محددة، خصوصاً الأطراف الأكثر نفوذاً في الصراع. وتمثّل مأسسة الوساطة عاملاً أساسياً في فحص الجوانب الأخلاقية للصراعات، ونشر الوعي بها، واقتراح الإجراءات الكفيلة بضمان عدم انتهاكها من قبل أيٍّ من الأطراف المتنازعة.

أخيراً، يمكن القول إن الصراعات في الإقليم تشعّبت وتطوّرت، وأن المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة قد تمتد لعقود، خاصة في ظل تراجع النفوذ الإيراني وتزايد الهيمنة الإسرائيلية. في هذه المرحلة، قد تنشأ صراعات جديدة وتتفاقم أخرى قائمة، إلى أن يستعيد النظام الإقليمي توازنه من جديد. في المقابل، راكمت دول الخليج العربي خبرات كبيرة في وساطة الصراعات، وهي بحاجة إلى البناء عليها لمواجهة تحديات المرحلة المقبلة، بدءاً بالانتقال إلى مرحلة جديدة ترتكز على "مأسسة الوساطة" بأبعادها المختلفة.

مقالات لنفس الكاتب