ممارسة الوساطة في العلاقات الدولية تعني تسهيل حل النزاعات بين الأطراف المتنافسة من قبل طرف ثالث حيث تعمل الدول الوسيطة كأطراف محايدة بهدف دفع الأطراف للتفاوض والوصول إلى إيجاد أرضية مشتركة للتوصل إلى حل سلمي، وبذلك تسعى الوساطة التي تقوم بها الدول إلى استخدام أدواتها الدبلوماسية وإمكاناتها السياسية والاقتصادية وعلاقاتها الدولية لحل النزاعات وتقريب وجهات النظر بين الأطراف لخلق بيئة مناسبة يمكن من خلالها التعامل مع الديناميكيات السياسية المعقدة المحيطة بالقضايا التي يراد التوسط من أجلها.
المملكة العربية السعودية شهدت عبر تاريخها الكثير من الأنشطة الدبلوماسية الساعية إلى إرساء السلام والاستقرار عبر التوسط المباشر وغير المباشر في كثير من القضايا الإقليمية والدولية، وقد أدى هذا الاتجاه الدبلوماسي إلى وضع المملكة العربية السعودية كقوة رئيسية ساهمت في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط بالدرجة الأولى وقد أدى ذلك إلى ظهور السعودية كوسيط ذي مصداقية عالية في الأزمات العالمية أيضاً.
شهد التاريخ السعودي الكثير من النماذج الناجحة في الوساطة سواء الإقليمية أو الدولية حيث عملت الدبلوماسية السعودية على إنجاز الكثير من المهام المتعلقة بتحقيق السلام من خلال الوساطة بين الدول، فالسعودية في المفهوم الإقليمي والدولي هي نموذج حضاري يمتلك مكانة إقليمية ودولية قادرة على تحقيق الإنجازات الدبلوماسية، كما أن التحول السعودي الذي أحدثته رؤية السعودية 2030 صنعت فارقًا سياسيًا دعم تحقيق الإنجازات السياسية عبر نشر السلام وتحفيز المنطقة العربية على تبني الاستقرار كمعيار حقيقي للتطور ، ويمكن ملاحظة هذا التطور الدبلوماسي من خلال ما حققته السعودية من انفتاح إقليمي ودولي ساهم في إعادة تشكيل الدور السعودي الذي يتقدم بثقة نحو منصة القيادة في الشرق الأوسط.
الدبلوماسية المتخصصة:
استخدام المملكة العربية السعودية لدبلوماسيتها المتخصصة ينعكس بشكل كبير على النجاح الذي تحققه هذه الدبلوماسية حيث تؤدي تلك الجهود إلى تأثير واسع على السياسة الإقليمية والدولية بالاستفادة من نقاط قوتها الفريدة لتوسيع نطاقها وتأثيرها وهذا ما ساهم في اكتساب السعودية القدرة على التأثير واكتساب الأهمية الأوسع في السياسة الإقليمية والدولية.
السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية دائمًا ما ترتكز بشكل أساسي على استراتيجية تحافظ على الجغرافيا والتاريخ مستقراً في المنطقة العربية وتأمين الاستقرار الإقليمي مما يعني تطور جهود الوساطة وإحلال السلام بشكل كبير، فحضور المملكة في المشهد المتغير في السياسة الدولية يؤهلها للعب دورًا بارزًا في تعزيز سلوكها الدبلوماسي لتحقيق النجاحات المنشودة في قضايا السلم العالمي، وهذا يؤدي إلى نتيجة مهمة ومطلوبة للسعودية يمكن ترجمتها من خلال القدرة السعودية على حماية مصالحها ورفع سمعتها العالمية عبر النجاحات في المساعي الإقليمية والدولية .
التبني السعودي للنهج الاستباقي في دعم وتعزيز السلام والوساطة في النزاعات الإقليمية والدولية ساهم في تقديم السعودية كقوة متوسطة عالميًا وقوة رائدة في الشرق الأوسط تسعى إلى تحقيق الاستقرار في منطقة متعددة الأقطاب ومتعددة الأزمات، وذلك من خلال استخدام المسارات الحيادية في الأزمات السياسية أو الصراعات المباشرة وقد نجحت السعودية في تقديم نفسها كوسيط دبلوماسي رئيسي في الكثير من القضايا الإقليمية والدولية التي عملت عليها وحققت من خلالها النجاح الكبير.
لقد استطاعت السعودية وفي ظروف دولية مختلفة أن تسهل عملياتها في التوسط وإحلال السلام من خلال تسهيل عمليات الحوار أو من خلال طرح المبادرات التي تضع الأسس للسلام والمفاوضات ومعالجة الصراعات والمساعدة في توليد المبادرات ودعم الاتفاقات ونشهد ذلك بوضوح في الكثير من القضايا التي رعتها السعودية عبر تاريخها.
جهود سعودية نحو إرساء السلام:
قبل الحديث عن الجهود السعودية لابد من الإشارة إلى أن رؤية المملكة 2030 ساهمت بشكل مباشر في ترسيخ ودعم المعايير الدبلوماسية الداعية إلى تحقيق الاستقرار عبر السلام من خلال المبادرات الدبلوماسية القائمة على المشاركة المتعددة الأطراف للعب أدوارًا فاعلة كوسيط يسعى لتحقيق السلام انطلاقًا مما تتمتع به السعودية من نفوذ جيوسياسي كبير تعززه مكانتها كقوة إقليمية ينظر إليها عبر مقوماتها السياسية والاقتصادية، فالسعودية تمتلك احتياطيات هائلة من الطاقة وهي أكبر مصدر للنفط في العالم كما تعلب دوراً مهمًا كمركز للاقتصاد العالمي والإقليمي وهي عضو في مجموعة العشرين وعضو فاعل في أهم وأكبر المؤسسات الدولية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن الأصول الدبلوماسية السعودية التي تشكلت عبر التاريخ السعودي ساهمت وبشكل كبير في بلورة ديناميكيتها الإقليمية والدولية كلاعب رئيسي في قضايا الوساطة، وهنا تجدر الإشارة إلى واحدة من أهم المبادرات في الوساطة الدبلوماسية في الشرق الأوسط حيث اتفاق الطائف الذي يقف كشاهد تاريخي يرصد الجهود السعودية في تحقيق الوساطة والسلام، فاتفاق الطائف هو الاسم الذي تعرف به وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي وضعت بين الأطراف المتنازعين في لبنان وذلك بوساطة سعودية في سبتمبر 1989م، في مدينة الطائف وأقر بقانون لبناني بتاريخ 22 أكتوبر 1989م،منهياً الحرب الأهلية اللبنانية، وذلك بعد أكثر من خمسة عشر عاماً على اندلاعها وراح ضحيتها الكثير من المدنيين وقد ساهم النجاح السعودي باتفاق الطائف في إنهاء مفارقة مأساوية ومدمرة كادت أن تلحق الضرر ليس بلبنان وحدها، ولكن في كل المنطقة.
وتجدر الإشارة أيضًا إلى مبادرة السلام العربية في العام 2002م، والتي أطلقتها المملكة العربية السعودية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط بين إسرائيل والفلسطينيين، والتي تهدف إلى إنشاء دولة فلسطينية معترف بها دوليًا على حدود 1967م، وعودة اللاجئين والانسحاب من هضبة الجولان المحتلة، مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية مع إسرائيل، الالتزام السعودي الطويل بهذه المبادرة أدى إلى اعتراف دولي بـدولة فلسطينية ذات سيادة انطلق من أروقة الأمم المتحدة في سبتمبر 2025م حيث اعترفت 157 دولة من أصل 193 بالدولة الفلسطينية بعد أن كان يتم التعامل معها كدولة مراقبة غير عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ نوفمبر 2012م.
وهنا لابد من الإشارة إلى الدور الذي قامت به المملكة العربية السعودية كوسيط رئيسي للمساهمة في تعزيز السلام والاستقرار في العالم وذلك من خلال الرعاية السعودية بقيادة سمو ولي العهد للمحادثات التي جرت بين الجانبين الروسي والأمريكي حول الأزمة الأوكرانية في نهاية شهر مارس من العام 2025م، وقد هيأت السعودية الأجواء البناءة لنجاح تلك المحادثات التي أثمرت عن مجموعة من الاتفاقات التي تصب في تعزيز الاستقرار والأمن الإقليمي والدولي بالإضافة إلى دور السعودية المميز في عملية تبادل الأسرى التي تمت بين روسيا وأكرانيا حيث كان الدور السعودي بقيادة سمو ولي العهد حاسمًا في تلك الصفقة.
السعودية صانع الإجماع الخليجي:
المملكة العربية السعودية دعمت وشجعت الدول الخليجية للعب أدوار مهمة في مبادرات السلام والأمن المستقبلي للمنطقة فمن خلال مكانتها الجغرافية والتاريخية استطاعت أن تدفع الدول الخليجية من أجل استثمار نفوذها الاقتصادي والسياسي لتعزيز الاستقرار ومن هنا فقد عملت السعودية على وقف التصعيد مع المحيط الإقليمي بجميع دوله من خلال العمل على خفض التصعيد في المنطقة حيث عكست الاتفاقية السعودية الإيرانية هذا المسار لتؤكد النهج السعودي الواقعي في التعامل مع قضايا المنطقة والمحيط الدولي.
ومن هنا يمكننا التأكيد بأن المسار السعودي والخليجي في تعزيز الوساطة الإقليمية والدولية التي تؤدي إلى اتفاقات إقليمية ارتبط دائمًا وأبدًا بحماية المصالح الخليجية وحماية طرق التجارة مع العالم مما يعني نجاح استراتيجيات الدول الخليجية في مسارها التنموي والاقتصادي، دول الخليج اليوم بقيادة المملكة العربية السعودية تمتلك الفرصة لكي تلعب دورًا بارزاً في الوساطات الإقليمية والدولية وتنسيق أعمالها في ذلك من خلال واحدة من أعرق المؤسسات في المنطقة والعالم مجلس التعاون الخليجي والذي عرف عنه النهج الواقعي وغير الموجه، وهذا ما يمنح هذا التجمع السياسي الثقة والقدرة على مواجهة الصراعات المعقدة.
التجارب الدبلوماسية الناجحة التي خاضتها الدول الخليجية خلال العقد الماضي فيما يتعلق بنهج التوسط في الأزمات أمر مشجع للكثير من المبادرات التي يمكنها أن تنطلق من خلال مجلس التعاون الخليجي وباسم جميع دوله الست التي تستخدم ذات المسار الدبلوماسي في مبادراتها، فدول الخليج عبر تجربتها في هذا المجال أصبحت ماهرة دبلوماسياً في توفير بيئة آمنة وجديرة بالثقة للأطراف المتنازعة، وهذا يدل على أن ما طورته دول الخليج من أساليب في مجال التوسط أصبح جزءًا من قيمها وتقاليدها الدبلوماسية التي تتم في أجواء آمنة تتجاوز الخلافات العلنية.
منطقة الشرق الأوسط من أكثر مناطق العالم حراكًا في جوانبها السياسية وكذلك الاقتصادية وهذا ما منحها سمة عدم الاستقرار ولذلك فإن إمكانية تحولها إلى منطقة تبني الجسور الدولية أمر قابل للتحقق، بل مطلوب وخاصة في قضايا حساسة مثل القضية الفلسطينية التي لعبت فيها المملكة العربية السعودية دورًا بارزًا من أجل الحصول على الدعم الدولي والإقليمي للمبادرة الداعية إلى حل الدولتين وفي الحقيقة فإن الدعم الدولي عبر الاعتراف بالدولة الفلسطينية يمثل فرصة مثالية للوصل إلى حل جذري لواحدة من أطول الأزمات في العالم.
خاتمة:
جهود المملكة العربية السعودية في إرساء السلام والاستقرار الإقليمي والدولي تعكس بوضوح المكانة المتزايدة للسعودية إقليميًا ودوليًا، وهذا يؤكد ترقّيها كدولة فاعلة قادرة على مواجهة العديد من التحديات التي يمكنها أن تؤثر على فعالية الدور السعودي كوسيط عالمي، وذلك من خلال استثمار السعودية لنهجها الدبلوماسي الرصين وعلاقتها الدولية المتشعبة، وقد شهد العالم خلال السنوات الماضية المهارة السعودية التي أدت في النهاية إلى تعزيز المصداقية السعودية كوسيط يمكنه الحصول على ثقة جميع الأطراف ولعل التجربة السعودية في الوساطة بين أمريكا وروسيا وأوكرانيا خير دليل على صحة النهج السعودي وسلامته.
المملكة العربية السعودية في مسارها نحو إرساء السلام والاستقرار إقليميا ودوليا ساهمت بقوة في تشكيل معالم السلام والأمن الإقليمي والدولي بهدف بناء مستقبل عالمي يحمل في طياته الأمن والاستقرار المؤدي إلى نتيجة واحدة ترسخ النجاح الدائم والمستمر للجهود السعودية في تحقيق الأمن والسلام إقليميًا ودولياً.






