array(1) { [0]=> object(stdClass)#14121 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 215

السعودية ترغب في تحصين البيئة الإقليمية من الصراعات والاستقطاب لحمايةًً رؤية " 2030 "

الأربعاء، 29 تشرين1/أكتوير 2025

في عام 1988م، أوفدت جامعة الدول العربية الأخضر الإبراهيمي إلى لبنان في محاولة أخيرة لوضع حد للحرب الأهلية الدامية التي أنهكت البلاد. وبعد عام واحد، أثمرت تلك الجهود عن اتفاق الطائف التاريخي، الذي أنهى خمسة عشر عامًا من الصراع المدمر. ورغم ما وُجه إليه من انتقادات وما شابه من قصور، فقد مثل الاتفاق محطة فارقة في مسار الوساطة العربية الداخلية، إذ جسد نموذجًا لاستقلالية القرار الإقليمي وقدرته على تسوية خلافاته دون وصاية خارجية.

تزامن اتفاق الطائف أيضًا مع نهاية حقبة تاريخية؛ فمع انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، دخل العالم العربي – شأنه شأن بقية العالم – مرحلة الأحادية القطبية، حيث أصبحت الولايات المتحدة القوة الدبلوماسية والعسكرية المهيمنة التي ارتكز عليها النظام الأمني الإقليمي، وإن جاءت نتائجها في تحقيق السلام محدودة ومتفاوتة.

غير أن تلك المرحلة بدورها تقترب من نهايتها. رغم استمرار القوى الإقليمية في إرجاء قرارات الحرب والسلم إلى واشنطن – حيث ما تزال الإدارة الأمريكية الجديدة في صدارة أغلب جهود إحلال السلام في المنطقة. ويدرك قادة دول الخليج اليوم أن النهج الأمريكي الجديد في إدارة الأمن الإقليمي وتسوية النزاعات يقوم على تقاسم الأعباء والمسؤوليات. ومن ثم، بدأوا في الاضطلاع، بدور أكبر في حفظ الاستقرار الإقليمي بثقة متنامية، وبخطى واثقة، ولكن حذرة. حيث بدأت دول الخليج – وفي مقدمتها قطر والسعودية وعُمان، في تحويل وساطاتها الدبلوماسية إلى ركيزة استراتيجية في سياستها الخارجية، تسهم من خلالها في إعادة رسم معادلات المنطقة وصياغة مخرجاتها، بل وتمتد آثارها إلى نطاقات أوسع.

لقد بات تنامي الحضور الدبلوماسي لدول الخليج على الساحة الدولية واضح المعالم؛ فبفضل قوتها الاقتصادية ودبلوماسيتها المرنة القائمة على التواصل الشخصي وصلاتها الاستراتيجية مع القوى الكبرى المتنافسة، باتت توظف مساعيها الحميدة لتعميق حضورها العالمي وحماية مصالحها الاستراتيجية وترسيخ مكانتها كشريك موثوق ومفضل في النظام الدولي. وقد غدت دول الخليج، على نحو متزايد، وجهة معتمدة للتوسط والحوار، ليس لدى القوى الكبرى فحسب، بل أيضًا لدى المؤسسات متعددة الأطراف والمنظمات المعنية بمنع النزاعات وتعزيز الاستقرار.

لم ينبثق هذا التوجه من فراغ، بل جاء نتيجة دروس قاسية اكتسبتها المنطقة عبر تجاربها، ونتيجة نضج في إدارة الحكم وممارسة علاقاتها الدولية. فقد كانت السنوات الماضية، التي أعقبت انتفاضات الربيع العربي، وشهدت صعود تنظيم داعش وانحساره، إضافة إلى حروب بالوكالة عصفت بسوريا وليبيا واليمن، من أكثر المراحل التي تركت ندوبًا عميقة في الجسد الإقليمي. وفي خضم تلك الاضطرابات، دعمت بعض دول الخليج أطراف متنافسة في تلك الصراعات عسكريًا وماليًا ودبلوماسيًا لتجد نفسها في نهاية المطاف أمام مشهد إقليمي أكثر تفككًا وتعقيدًا. ومع محدودية المكاسب وارتداد بعض تلك التدخلات بنتائج عكسية، أعادت عدة عواصم خليجية تعديل بوصلتها السياسية؛ لتبدأ في تبني الطرق الدبلوماسية بوصفها ركيزة محورية في ممارسة الحكم وإدارة العلاقات الدولية. في الوقت ذاته، أصبح مبدأ «الانفتاح على الجميع» أو بالأحرى التعامل مع مختلف الأطراف إن لم يكن مع جميع الدول نهجًا موجهًا للحراك الجيوسياسي والاقتصادي في مرحلة الانتقال الصعبة من الهيمنة الأحادية إلى تنافس القوى الكبرى.

لقد اضطلعت دول الخليج منذ زمن بدور الوسيط في محيطها الإقليمي، إلا أن ما يميز المرحلة الراحلة هو اتساع نطاق هذا الدور ليأخذ بُعداً عالمياً متناميًا. ففي العام المنصرم وحده، شاركت دول الخليج في جهود وساطة وتسوية نزاعات عبر أربع قارات، شملت ملفات فنزويلا ومنطقة البحيرات العظمى في إفريقيا وأرمينيا وأذربيجان والقرن الإفريقي وأوكرانيا. وتشير التقديرات إلى أن هناك ما لا يقل عن ثمان وعشرين مبادرة وساطة شاركت فيها دول الخليج خلال عام واحد، تراوحت بين مفاوضات حساسة رفيعة المستوى، كالدبلوماسية المكوكية التي قادتها قطر بين إسرائيل وحركة حماس، وأدوار أكثر هدوءًا خلف الكواليس، على غرار تسهيلات سلطنة عُمان للمحادثات النووية بين الولايات المتحدة وإيران. وبذلك، تحولت الوساطة إلى أداة استراتيجية تمكن دول الخليج من التخفيف من كلفة تنافس القوى العالمية عليها، وتعميق علاقاتها الدبلوماسية مع مجموعة واسعة من الدول، فضلًا عن تعزيز حضورها وتأثيرها على الساحة الدولية.

على الرغم من أن العديد من دول الخليج عززت في الوقت ذاته من جهودها في مساعي التهدئة وتسوية النزاعات، فإن كلا منها انطلق من منطلقات مختلفة تعكس طبيعة سياستها الخارجية وهويتها الاستراتيجية. فالمملكة العربية السعودية – التي تُعرف بتوازنها وحذرها في خوض المخاطر – تحرّكها بالدرجة الأولى الرغبة في تحصين بيئتها الإقليمية من تداعيات الصراعات المحيطة والاستقطاب الدولي المتنامي، حمايةً لمسار رؤيتها الوطنية الطموحة "رؤية 2030" وضمانًا لاستقرار مقوماتها التنموية. أما قطر، فتجد في دبلوماسية الوساطة امتدادًا طبيعيًا لهويتها كدولة صغيرة استطاعت أن تبني حضورًا يفوق حجمها الجغرافي، مستفيدةً من قدرتها على إقامة شبكة متنوّعة من العلاقات الدبلوماسية والانخراط في ملفات تتجنبها قوى أخرى. في حين تميل الإمارات العربية المتحدة إلى اتباع نهج انتقائي مدروس، يركز على القضايا التي ترى أن لديها فيها أدوات التأثير الفاعل والنفوذ الكافي لإحداث تغييرات تصب في مصلحتها الاستراتيجية. أما سلطنة عُمان، فتبقى وفيّة لنهجها التاريخي القائم على الوساطة الهادئة، مفضلة الأدوار التي يمكن أن تضطلع فيها بدور فريد يركز على التيسير وبناء الثقة بين الأطراف، دون الاصطفاف أو الانحياز. وتتأثر هذه المقاربات جميعها – بدرجات متفاوتة – بمدى ارتباط النزاع المعني بمصالح الحلفاء الغربيين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة؛ إذ يمثل هذا العامل أحد المحددات التي تدفع الدول الخليجية إلى الانخراط في جهود الوساطة أو التريث بشأنها.

لقد تحولت الوساطة ذاتها إلى أداة دبلوماسية توظفها دول الخليج للحفاظ على النفوذ الأميركي وتعزيزه في المناطق التي تمثل أهمية حيوية لمصالحها الاستراتيجية، بما في ذلك علاقاتها الثنائية المعقدة مع واشنطن. فعلى الرغم من أن بعض هذه الدول بات يمتلك خبرات متقدمة في إدارة الحوار وتيسير التسويات، فإنها ما تزال تميل إلى استدعاء القيادة الأمريكية أو دعمها – ولو في الحد الأدنى – للضغط على الأطراف المتنازعة وضمان تنفيذ الاتفاقات التي يتم التوصل إليها، خاصة في ظل صعوبة الحفاظ على تركيز واشنطن طويل الأمد في ملفات المنطقة. فخلال العام الماضي وحده، شاركت الولايات المتحدة في ست عشرة مبادرة وساطة تقودها دول خليجية، توزعت على النحو الآتي: سبع مبادرات بالشراكة مع قطر، وخمس مع السعودية، واثنتان مع الإمارات، واثنتان مع سلطنة عُمان. وفي كثير من هذه الحالات، كانت دول الخليج توفر قنوات التواصل والموارد والبيئة الملائمة للمحادثات، فيما تضطلع الولايات المتحدة بمهام الضغط الدبلوماسي وضمان التنفيذ وتقديم الحوافز الاقتصادية أو الاستثمارية التي تدعم مسار التسويات. وتكشف التجارب الحالية، بدءًا من الوساطة بين إسرائيل وحركة حماس وصولًا إلى المفاوضات بين أطراف النزاع في السودان وتيسير الاتصالات بين أرمينيا وأذربيجان، إن الولايات المتحدة تبقى الطرف الوحيد القادر على ممارسة التأثير الحاسم لترجيح كفة الحلول. مع ذلك، تحرص الدول الخليجية على احترام حدود شراكتها الأمنية مع واشنطن، وتتحسب من تحمل عبء قيادة عملية سلام كاملة وحدها، مفضلة أن تبقى وسيطًا مرنًا وفاعلًا في آن واحد.

لم تقتصر الجهود على الولايات المتحدة فحسب، بل شارك في بعض المسارات شركاء غربيون آخرون، حيث تعاونت كل من النرويج وسويسرا مع المملكة العربية السعودية في ملفّي الصراع الإسرائيلي–الفلسطيني والأزمة السودانية. ووقعت قطر اتفاقيات شراكة مع عدد من الوسطاء الغربيين، في خطوة تعكس اتجاهاً متزايدًا نحو تأسيس نموذج جديد من الدبلوماسية المرنة متعددة الأطراف، يتكامل فيه دور كل وسيط وفق ما يمتلكه من أدوات ومزايا نسبية. وفي جميع الحالات التي تتطلب إعادة إعمار وتنمية ما بعد النزاعات، ما تزال دول الخليج تعتمد على خبرات شركائها الغربيين المتمرسين في هذا المجال، على الرغم من بدايات انخراطها المتزايد في مشروعات التنمية وإعادة البناء، بما يعكس تطوّرًا تدريجيًا في رؤيتها لدورها الدولي.

لا تخلو جهود الوساطة والتيسير التي تضطلع بها دول الخليج العربي من عقبات؛ إذ لا يزال قسم كبير من مساعيها في تسوية النزاعات يكتسي طابعًا شخصيًا، ويستند إلى حلقة ضيقة من القادة والمستشارين. ومن المؤكد أن بإمكان هذه الدول الارتقاء بمهنية أجهزتها الدبلوماسية عبر استحداث فرق متخصصة من المفاوضين المؤهلين، وخبراء تحليل النزاعات، وأصحاب الكفاءة في تصميم آليات المتابعة والتنفيذ والرصد. وتكتسب مسألة التنسيق بين مسارات الوساطة المتعددة أهمية قصوى لتجنب "الانتقائية في اختيار منبر الوساطة. (بمعنى أن عدم التنسيق يسمح للأطراف المتنازعة بـالمماطلة واختيار "المحفل" الأضعف أو الأكثر مرونة لتحقيق مصالحها على حساب الحل الشامل والعادل).  

في الوقت ذاته، لقد تضمنت العديد من المساعي الدبلوماسية الخليجية وسطاء يرتبطون بعلاقات مع طرفي النزاع، لكنهم أدوا دورًا محايدًا أحيانًا على مر السنين، بالتعاون مع دبلوماسيين من دول أخرى. ورغم أن بعض المنتقدين قد يذهبون إلى أن دول الخليج تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة من وراء وساطتها، فإن هذا الطرح يتجاهل جوهر الأمر؛ فالدبلوماسية، في أساسها، كانت دائمًا مزيجًا من المبادئ والاعتبارات الواقعية. ويبقى المعيار الأهم هو النتائج المحققة: هل تم إنقاذ أرواح؟ هل عُقدت اتفاقيات هدنة؟ هل أمكن احتواء النزاعات؟ وبشكل عام، وفي زمن تتزايد فيه صعوبة التوصل إلى حلول دائمة للأزمات ويتعقد فيه قياس النجاح، تشكل الوساطة الخليجية إضافة إيجابية واضحة في المشهد الدولي.

من السودان إلى أوكرانيا، تستمر الحروب ويخبو صوت الدبلوماسية، وتبقى المؤسسات الدولية أسيرة الجمود. وسط هذا الاضطراب، تبرز نخبة جديدة من الوسطاء والمُيسّرين الذين يمتلكون نفاذًا إلى كافة الأطراف، مدفوعين بطموح التأثير والقدرة على استثمار شبكة علاقاتهم في مفاصل صنع القرار، من واشنطن إلى بكين مروراً بأوروبا وموسكو. وفي عالم تعيق فيه المنافسة بين القوى الكبرى التوصل إلى توافق، وتتضاءل فيه سطوة العواصم الغربية، تلوح الدبلوماسية المرنة التي تقودها قوى إقليمية صاعدة كخيار أكثر واقعية، أو كركيزة محورية لأي مسعى دولي مشترك يهدف إلى وضع حد لكل تلك الحروب.

مقالات لنفس الكاتب