array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

التنمية السياسية بين النظرية والتطبيق

الأربعاء، 01 أيلول/سبتمبر 2004

لقد كثر الحديث في الاونة الاخيرة عن الاصلاح السياسي في الشرق الاوسط. ولعله من المفيد في هذا الصدد التطرق الى احد الابعاد المهمة في عملية الاصلاح وهو البعد المتعلق بالتنمية السياسية التي تشكل جزءً مهما من عملية التنمية الشاملة. فما المقصود بالتنمية السياسية؟ وما هي شروط واليات تحقيقها؟

برز مفهوم التنمية السياسية في اوائل الخمسينات من القرن الماضي، وكانت تهدف الى التصدي لمشكلات التخلف السياسي التي واجهت الغرب في اعقاب الحرب العالمية الثانية. وقد تعددت الاجتهادات التي حاولت التعريف بمفهوم التنمية السياسية، وتباينت الادبيات السياسية في نظرتها وتناولها لهذا الموضوع، على الرغم من ان هذا البعد من ابعاد التنمية لم تتم دراسته بشكل كاف في الدول النامية. ومن هنا فإن معظم الطروحات الخاصة بالتنمية السياسية استندت الى تجارب الغرب في هذا المضمار انطلاقا من فرضية تقول ان المجتمعات الصناعية الغربية هي على درجة كبيرة من التطور السياسي والتقدم الاقتصادي الذي ينبغي ان يشكل نموذجا يتم احتذاؤه من الدول النامية التي لا تزال في طور النمو ولم تنضج بها التنمية السياسية بحيث تشكل نموذجا تنمويا مستقلا. ومن هذا المنطلق نجد ان الغرب يربط بين التنمية السياسية كمفهوم سياسي وبين الديمقراطية الليبرالية الغربية كاحد القيم المهمة في العالم الغربي.

هذه النظرة المعيارية لا يجوز ان تنسحب على المجتمعات كافة، لانها تتضمن خطر الوقوع بالانحياز الايديولوجي لقيم الحضارة الغربية. ومن هنا لا بد من دراسة مشكلات التنمية السياسية في مجتمعاتنا بشكل مستقل بحيث يتم مراعاة ظروفها ومستويات التطور فيها. فالعملية التنموية ينبغي ان تنطلق من واقع المجتمع المراد النهوض به لا من تقليد او محاكاة النماذج الجاهزة في النظم السياسية الاخرى التي تتمايز بدرجة تقدمها ونمط تفكيرها. اذ ان هناك تباينا واضحا بين الدول الصناعية المتقدمة التي تختزن خبرات تراكمية كثيرة في مسيرة التنمية بمفهومها الشامل وبين الدول النامية التي لا تزال تعاني من ازمة حقيقية في الفكر التنموي بل وفي عملية التنمية نفسها.

اما بخصوص المفهوم فيقول السيد الزيات في كتابه: " التنمية السياسية: دراسة في الاجتماع السياسي" ان التنمية السياسية هي: "عملية سوسيوتاريخية متعددة الابعاد والزوايا تستهدف تطوير او استحداث نظام سياسي عصري يستمد اصوله الفكرية من نسق ايديولوجي تقدمي ملائم يتسق مع الواقع الاجتماعي والثقافي للمجتمع ويشكل اساسا مناسبا لعملية التعبئة الاجتماعية. ويتألف بناء هذا النظام من مجموعة من المؤسسات السياسية الرسمية والطوعية التي تتمايز عن بعضها بنائيا وتتكامل مع بعضها البعض وظيفيا وتمثل في الوقت نفسه الغالبية العظمى من الجماهير وتعكس مصالحها وتهيىء المناخ الملائم لمشاركتها في الحياة السياسية بشكل ايجابي وفعال يساعد على تعميق وترسيخ حقائق وامكانات التكامل الاجتماعي والسياسي ويتيح الفرصة لتوفير اوضاع مواتية لتحقيق الاستقرار داخل المجتمع بوجه عام".

ومن جهة اخرى يقول احمد وهبان في كتابه: "التخلف السياسي وغايات التنمية السياسية" ان التنمية السياسية هي: "عملية سياسية متعددة الغايات تستهدف ترسيخ فكرة المواطنة وتحقيق التكامل والاستقرار داخل المجتمع وزيادة معدلات مشاركة الجماهير في الحياة السياسية وتدعيم قدرة الحكومة المركزية على اعمال قوانينها وسياساتها على سائر اقليم الدولة ورفع كفاءة هذه الحكومة فيما يتعلق بتوزيع القيم والموارد الاقتصادية المتاحة فضلا عن اضفاء الشرعية على السلطة بحيث تستند الى اساس قانوني في ممارستها وتداولها مع مراعاة الفصل بين الهيئتين التشريعية والتنفيذية واتاحة الوسائل الكفيلة بتحقيق الرقابة المتبادلة بين الهيئتين".

ونظرا لصعوبة التوصل الى تعريف محدد لمفهوم التنمية السياسية فقد يكون من المناسب ايراد عدد من المؤشرات الاجرائية التي تدل عليه. فالتنمية السياسية كما يقول السيد الزيات هي شرط مسبق لتحقيق التنمية الاقتصادية. ويقصد بذلك ان تنشيط الوضع الاقتصادي لا يتحقق بمجرد توافر الموارد والامكانات الاقتصادية فقط، بل يتطلب الى جانب ذلك تهيئة الظروف السياسية وتوفير الاستقرار السياسي اللازم لعملية النمو الاقتصادي، ولذلك فان التنمية السياسية وفقا لهذا الرأي هي عملية تهدف الى تهيئة الظروف السياسية اللازمة للارتقاء بالاداء الاقتصادي نفسه.

ما يمكن قوله في هذا المقام هو ان التنمية السياسية عملية تستهدف في جوهرها احداث التغيير او التحول السياسي بشقيه البنائي والوظيفي. اي تستهدف تحقيق التغيير الذي يطال بنية وهياكل المؤسسات وطبيعة العلاقات والتفاعلات السياسية التي تجري في اطار النظام السياسي. بمعنى آخر فإن التنمية السياسية مفهوم يتعلق بالتطور السياسي وبتحقيق التحولات في مختلف مناحي الحياة السياسية، بل تستهدف تطوير النظام السياسي نفسه لكي يصبح اكثر كفاءة وفاعلية في التعامل مع المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبناء عليه فإن التنمية السياسية تتطلب تطوير قدرات وامكانات النظام السياسي وهذا يتطلب ايجاد منظومة ايديولوجية تشكل اساسا فكريا رصينا لعمليات النظام السياسي وتكون الاساس الذي تستند اليه عملية التغيير السياسي. ليس هذا فحسب بل ينبغي ان تشكل هذه المنظومة الاطار النظري الذي تحدد على اساسه الاهداف السياسية المراد تحقيقها.

ان مفهوم التنمية السياسية يتضمن زيادة درجة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار عن طريق توفير القنوات الشرعية للتأثير في القرار السياسي وهذا يستدعي وجود اطر تنظيمية تؤسس لانشاء الاحزاب السياسية وجماعات المصالح وبقية مؤسسات المجتمع المدني. فهذه الاطر هي التي من شأنها تفعيل التوجه الديمقراطي وترسيخ دعائم التطور السياسي. ويمكن القول ان التنمية السياسية تتضمن في احد جوانبها هدف بناء الدولة القومية وتطوير الثقافة السياسية لافراد المجتمع. والمقصود بالثقافة السياسية مجموعة المعتقدات والتوجهات والرؤى التي تحكم سلوك الافراد في المجتمع تجاه الشؤون السياسية وشؤون الحكم. ولا شك ان هذا الامر يتطلب ارساء مجموعة من القيم السياسية التي تشكل منطلقات العمل للنظام السياسي بواسطة وسائل التنشئة السياسية والاجتماعية، فهذه القيم هي التي تحدد انماط السلوك وطبيعة العلاقات داخل المجتمع. ولا يعني هذا ان التنمية السياسية تقتصر على الجوانب المعنوية فقط، بل انها ترتبط ببنية النظام السياسي نفسه.

هناك اتجاه يربط بين التنمية السياسية والتحديث السياسي. ويقصد بالتحديث السياسي حسب ما جاء في كتاب السيد الزيات المذكور انفا: "تلك العمليات التي تتعلق بنواحي التجديد في مجال البناء والمؤسسات السياسية القائمة من ناحية وفي مجال الفكر والثقافة السياسية السائدة من ناحية اخرى". لكن يجب الا يغيب عن الذهن ان التنمية السياسية لا تعد مرادفا لمفهوم التحديث السياسي ولا يمكن اختزالها بمجرد محاكاة تجارب الاخرين والاقتباس منها او تقليدها. فالتحديث لا يمثل الا جانبا واحدا من جوانب التنمية السياسية المتعددة.

ان تحقيق المساواة بين المواطنين في المجتمع، وترسيخ فكرة المواطنة والاخذ بمبدأ الفصل بين السلطات مع التأكيد على ضرورة تعاونها مع بعضها، ووجود اسس ومعايير لتداول السلطة، وتحقيق الانسجام والتجانس بين المجتمع، اضافة الى مرونة واستقرار النظام السياسي وقدرته على التصدي للمشكلات ومواجهة المطالب التي تطرحها البيئة الداخلية وقدرته على التحكم بعمليات التغيير وتحقيق الاستقرار، كل ذلك يعد من العوامل المهمة في تحقيق التنمية السياسية.

في ضوء ما تقدم يمكننا القول ان التنمية السياسية تشكل حقلا معرفيا متكاملا ينبغي ايلاؤه العناية اللازمة. وهي عملية تتقاطع فيها الكثير من المتغيرات الامر الذي يصعب معه اختزال التنمية السياسية بالقول بانها تعبر عن تدعيم قدرات النظام السياسي او التحديث السياسي او تحقيق الديمقراطية اوغيرها من المؤشرات الدالة عليها. فهي متعددة الابعاد والمضامين والاهداف، وهي تضم في اطارها الكثير من التفاعلات والميكنزمات الناظمة والضابطة للعمل السياسي.

التنمية السياسية هي عملية متكاملة ترتبط عناصرها ببعضها لتشكل كلا يعكس مقدار ما وصل اليه المجتمع من نضج وتطور سياسي، ولذلك ينبغي ان تكون مطلبا رئيسيا للنظام السياسي الذي من شأنه دعم الجهود الرامية الى معالجة التحديات التي تواجه التنمية السياسية بغية اقتراح الحلول وتطوير نظرية سياسية قابلة للتطبيق مستندة الى ارضية من الوعي بحقيقة وواقع المجتمع ذاته. ويجب ان نأخذ بعين الاعتبار ان تحقيق الغايات المذكورة آنفا يرتبط بالكثير من الضوابط او المقومات التي تلعب دورا مؤثرا في امكانية تحقيق التطور السياسي في المجتمع.

مقالات لنفس الكاتب