array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

الإمارات من الفكرة إلى الدولة: نظرة في منهج الشيخ زايد

الأربعاء، 01 كانون1/ديسمبر 2004

الثاني من ديسمبر من كل عام مناسبة يحتفل فيها أهل الإمارات باليوم الوطني لقيام دولتهم، ومن خلال ذلك يستذكرون ما كان وكيف غدت الأحوال في وقفة يحاولون فيها استلهام العبر والدروس التي علّمهم إياها شيخهم ومعلمهم وباني دولتهم ووالد الجميع المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ، ولذلك سيبقى هذا اليوم هو اليوم الأكثر أهمية وإعزازاً في قلوب الإماراتيين.

وفي مواجهة هذا اليوم يأتي يوم الثاني من نوفمبر 2004 ليكون التاريخ الأشد بروزاً والذي سيبقى محفوراً في الأذهان إلى الأبد، ليس لأنه اليوم الذي فقدت فيه الإمارات رئيسها والإماراتيون الأب والمؤسس والمعلم فقط، وإنما باعتبار رحيل الشيخ زايد يشكل مفصلاً تاريخياً انتهى عنده فصل من فصول تاريخ الإمارات الحديث، ليبدأ بعده تاريخ أخر، صحيح أن النهج لن يتغير، ولن تتبدل المبادئ التي أرساها الشيخ زايد، لكن للسياسة اعتباراتها ولتحديات الواقع معالجاته ولضرورات رحيل الزعيم ترتيبات تقتضي أول ما تقتضي التفكير في ملء الفراغ الكبير الذي تركه بعمل جماعي موحد، يعوض ذلك الفقد ويسد الباب أمام كل الاحتمالات التي تتحدث عن إمكانية تخلخل التجربة وبروز الأصوات الانفصالية وما إلى ذلك، ولعل ذلك الانتقال السلس للسلطة منذ اليوم الأول لرحيل زايد وبذلك الإجماع الهادئ خير دليل على أهمية العمل الجماعي الواعي والحريص على منجز الاتحاد وعلى منجزاته معاً.

الثاني من ديسمبر لعام 2004 تحتفل الإمارات ولأول مرة بعيدها الوطني في غياب المؤسس الكبير، لتكون بالفعل في مواجهة لحظة حاسمة وتاريخية ومختلفة. لحظة يتجلى فيها تاريخ كامل ظهرت فيه للوجود دولة لم تكن في عالم الدول والممالك شيئاً مذكورا،ً فصارت حديث العالم وشهادة التاريخ على عبقرية الفكرة ـ فكرة الاتحاد ـ وعظمة الفطرة التي تحلى بها الأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، فهذا الرجل العظيم بكل مقاييس العظمة لم يكن زعيما فحسب ولا قائدا فقط، ولا رئيساًَ ورث دولة عن سابقيه فطورها وأضاف إليها، ولكنه كان وسيظل ماثلاً في الذاكرة الجماعية لشعب الإمارات ولشعوب العالم على أنه الباني والمؤسس لدولة الإمارات، هذه الدولة التي لم يرثها زايد وإنما بناها وأقام أركانها من الصفر.

إن الثاني من ديسمبر هو اليوم الذي يجسد بشكل رائع وحقيقي فكرة زايد، وتجربة زايد، ونهج زايد والمدرسة السياسية التي أوجدها زايد وعلى منهاجها درست أجيال وتخرجت أجيال، مدرسة الفطرة السليمة لرجل السياسة حين يؤمن بقدر أمته وبدوره الدقيق في حياة هذه الأمة، بهذه الفطرة عاش زايد وبهذا القدر أمن ومضى يشق صعاب الحياة وتحديات البناء والتأسيس والتنمية بشعور عميق أنه لا خير في الحاكم إذا لم يسخر كل إمكاناته وطاقته وجهده للارتقاء بأهله وأبناء وطنه، على هذا سارت أيامه وعلى ذلك لاقى وجه ربه وشعبه راض عنه.

يقف زايد الأب والمؤسس العظيم في صف العظام من رجال التاريخ من أمثال غاندي، و جمال عبد الناصر ، ومانديلا، و جورج واشنطن وغيرهم من الآباء المؤسسين في التاريخ الإنساني، لكنه لشعبه ومن حيث الدور التاريخي الذي لعبه والتأثير المحلي والإقليمي
والعربي الذي قام به، يعد من الرجال الذين لن يتكرروا ثانية، فكل أولئك الكبار ورثوا دولاً ومؤسسات وفكراً سياسياً وظروفاً معينة، وشعوباً ساعدتهم في بلوغ غاياتهم النبيلة، وحده زايد كانت كل المعطيات على أرض الواقع تدفعه لليأس وعدم المضي في مشروعه الوحدوي والنهضوي النادر، إلاّ أنه مضى بيقين وبإيمان وثقة وبعزيمة قلما تتوافر لرجل، وبهذا الإيمان وتلك الثقة نقل مجتمعه من القبيلة إلى الدولة ومن التخلف إلى التقدم ومن البدايات المتواضعة إلى وضعية النموذج والتجربة الفريدة التي ينظر إليها الجميع بإعجاب ودهشة.

لم يولد زايد وفي فمه ملعقة من ذهب، كما أنه لم يرث تقاليد الحكم والملك والسياسة من رجال سياسيين سبقوه، ولم يتتلمذ على أيدي أساطين الساسة وكبار المفكرين، إلاّ أنه ببساطته وفطرته وحبه لأبناء وطنه وبعظمة شخصيتة ـ هذه واحدة من عطايا الله للرجال العظام ـ استطاع الشيخ زايد أن ينشئ دولة حديثة متطورة وسط صحراء قاحلة، وأن يؤسس كياناً وحدوياً قائماً بذاته، وبقوانينه وأطره الدستورية والمؤسساتية، وإن يطلق العنان للإنسان الإماراتي كي يتعلم ويبدع ويساهم في بناء بلده ضمن إطار من الحياة الكريمة البعيدة عن الخوف والمطاردة والعوز والفاقة. لقد كان ينطلق من رؤية وحدوية عروبية، صبغت كل حركته الإنسانية والسياسية في جميع الاتجاهات، ومن إيمان حقيقي بالنهضة والتطور واللحاق بركب الحضارة الإنسانية، كل ذلك كان بهدوء وعمل جاد حثيث وبعيد عن الضجيج والشعارات الطنانة والنظريات الكبيرة التي اعتاد رجال السياسة في عالمنا العربي على تخدير الشعوب بها دون أن يحققوا لهم حلماً واحداً من أحلام تلك الشعارات.

إيمان زايد كان أولاً، وقبل كل شيء، بالفكرة التي بنى عليها هذا الكيان الاتحادي القوي الثابت الأركان، إنها فكرة الوحدة "لن تكونوا أقوياء ولن تتقدموا ما لم تتماسكوا وتتحدوا كأخوة في كل مكان من العالم العربي" كان ذلك بعضاًَ من أحلامه الكبيرة التي لم يساعده الواقع العربي على تحقيقها بشكل متكامل لتحقيق خير الإنسان العربي الذي شبع وتشبع بالكلام الكثير والفارغ، ومازال يبحث عن الأمان والرقي والتطور والسلام والعزة والكرامة، هذا المواطن العربي الذي إذا عزت عليه الحياة وضاقت به الأرض جاء إلى بلاد زايد فوجد كل ما كان يحلم به لسنوات طويلة، لا نقول ذلك من باب المزايدة واختلاق الحكايات ولكن هذا ما يردده الأخوة العرب الكرام المقيمون في الإمارات، وهم حتى قبل أن يطأوا أرض الدولة تكون يد زايد قد وصلتهم بمشاريع إنسانية كبيرة في العراق وفلسطين ولبنان ومصر والمغرب والسودان وكثير غيرها. إن زايد البدوي الذي ولد في منزل بسيط وسط صحراء قاسية صعبة بمدينة العين، وجلس أياماً تحت أشجارها مع الكثير من الرجال من أصحابه وضيوفه من العرب والأجانب، عرف معنى أن يكون الإنسان معدماً ومحتاجاً ومحروماً، كما عرف كيف يكون الإنسان في أقصى عزه وفياً لأهله وأصحابه ورفاق دربه، فحين وصل إلى سدة الحكم والرئاسة مد يده للجميع لم يطارد أحداًَ، ولم ينف أحداًَ. ولم يعدم أحداًَ، كان يحب الجميع، وكان يحلم أكثر من الجميع، ويرى ما لا يرون، كان يؤمن بأن الماء عصب الحياة وبداية الحضارة، ولهذا عمل على توفيره، بل ساهم في حفر الأفلاج وزراعة النخيل في مدينة العين أولاً ومنها انطلق يزرع الإمارات بالمحبة والخير واللون الأخضر، كان ابن الصحراء المحروم من جمال الطبيعة والمحاط بالقسوة والحرارة وندرة الماء والشجر، والمسكون دائماً بحب الطبيعة وعشق الجمال، والرغبة بلا كلل ولا ملل في توفير الأخضر في كل مكان، وهذه الصحراء الممتدة اليوم تشهد له على صدق حلمه وصدق عمله.

ومنذ البدء انتبه زايد إلى وعورة الجغرافيا السياسية في الإمارات وما يحيطها، وبفطرة البدوي وذكاء السياسي ذهب زايد إلى تلك الوعورة فسواها، منهياً عقوداً من الصراعات الحدودية مع الجيران، مع السعودية وسلطنة عمان، أما مع إيران فقد ظل دائماً ملتزماً بمبدأ اللجوء للتفاهم واحترام الأخوة وحق الجوار، فلجأ بشأن الجزر المحتلة للمحكمة الدولية بدل الدخول في آحلاف وعداوات ومناكدات سياسية، وها هي الإمارات اليوم تتمتع بأعلى قدر من الاحترام الخارجي وبعلاقات دولية متميزة مع العالم بأسره بلا أي حساسيات سياسية ولا مقاطعات أو مشكلات، بينما لا يخلو سجل أي دولة في العالم من مثل هذه الأزمات، فلا عجب إذاً إن رحل زايد دون أن يترك لخلفه أي إرث سيىء من هذه الزاوية الحرجة تحديداً.

 آمن زايد بالإنسان المتعلم والآمن على حاضره وحرياته ومستقبله والواعي لواجبه والمدرك لكل التحديات المحيطة به، هذا الإنسان كان في فكر زايد حجر الزاوية تماماً باعتبار أنه الأول والغاية لكل الجهد والتنمية والتطور قبل بناء المصانع وقبل البنى التحتية وقبل المطارات والمرافق الحيوية، فوجه جهوده إليه متيحاً له ضمن مواد الدستور كل الحقوق والحريات والضمانات التي تؤهله لولوج عصر التطور ومرحلة الدولة الحديثة، فاحتل التعليم دعامة رئيسية في فكره، وأخذ الطفل مكانته وحقوقه وكذلك القصّر والعجزة والمرضى وذوو الاحتياجات الخاصة والحالات الخاصة، مشدداً في كل مناسبة على أهمية العمل وتوفيره للشباب وعلى ضرورة مشاركة المرأة في كل أماكن العمل المناسبة لها، وكان من أكثر الدعاة المتحمسين لدخولها معترك الحياة السياسية، ولم يرحل عنا ـ رحمة الله ـ إلاّ بعد أن اعتلت المرأة الإماراتية صاحبة القدرة والموهبة كرسي الوزارة في واحدة من أهم منجزات الدولة حضارياً، ومن أكثر منجزات المرأة الإماراتية سطوعاً، وفي واحدة من أكثر الوزارات الاتحادية حساسية وخطورة وهي وزارة الاقتصاد والتخطيط.

انتبه زايد بحس المواطن العربي إلى موضوع الـهُوية في تجربة الإمارات، فهذه الدولة ابتداء تتكون من مجموعة كيانات قبلية لها نفوذها وسطوتها ولقوة الانتماءات القبلية فيها شأن يعرفه المتابعون وأهل البلاد، لكن سياسات الشيخ زايد قللت كثيراً من حدة هذه الانتماءات لصالح المشروع الأكبر وهو الدولة الاتحادية، ، ففي البداية ظهرت انتماءات واضحة لصالح كل إمارة بسبب المؤسسات التي أقامتها كثير من الإمارات، واستوعبت من خلالها أبناء كل إمارة علىحدة مما قوى أواصر العلاقة بالإمارة على حساب الانتماء للاتحاد، إلاّ أن العقد الأخير من القرن العشرين بدأت ملامح الصراع بين المحلي والاتحادي تتراجع بسبب مساعي الشيخ زايد خاصة تلك الخطوة المهمة التي قام بها عندما وجد القوات المسلحة للدولة في التسعينات وألقى الجيوش الخاصة بكل إمارة. وفي ظل مستوى لائق من التنمية ومستوى المعيشة استطاع الشيخ زايد أن يخلق تلك الـهُوية الوطنية لشعب الإمارات القائمة على العروبة والإسلام بنهجه المعتدل والمتسامح والمنفتح على الجميع.

اليوم تبدو الإمارات نموذجاً نهضوياً متميزاً وتجربة عربية هي الأنجح ربما على صعيد التنمية البشرية والتطور العمراني والاستقرار السياسي والانفتاح الخارجي، والسمعة الدولية الجيدة، هذا إذا ما تم الأخذ في الاعتبار الفترة الزمنية التي تحققت فيها هذه المنجزات الكبيرة والتي لا تتجاوز الـ 33 عاماًّّ! اليوم تنتقل الإمارات واقعياً إلى مرحلة حاسمة في تاريخها الحديث هي مرحلة ما بعد زايد، مرحلة ما بعد الزعيم المؤسس الذي أسس الدولة وبناها ونهض بها على رافعة من السمات القيادية الكاريزمية التي يتمتع بها، وباستغلال الموارد المادية وتحديداً موارد النفط، وفي ظروف معينة اقتضت نهجه وطريقته وأساليب إداراته. اليوم تعيش الإمارات المرحلة الجديدة وزايد ليس موجوداً فيها ـ بجسده ـ ليسيّر دفتها بحكمته وفطرته وكاريزميته المعهودة، لكننا بإزاء قيادة جديدة للاتحاد ليست غريبة عنه على الإطلاق، فصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة الجديد والابن الأكبر للراحل والذي شغل منصب ولاية العهد سنوات طويلة، رجل تربى في مدرسة زايد ونهل من تعاليمه وتفقّه في أساليب إدارته للحكم ولشؤون الوطن والمواطنين، ومن هنا يأتي الاطمئنان على أن ما أرساه زايد وما كرسه من مبادئ عامة ونهج واضح لن يتغير أبداً.

يبقى أن للمرحلة المقبلة اعتباراتها واشتراطاتها وتحدياتها الإقليمية والدولية، وهذه كلها تحتاج إلى تعامل حذر وعمل دؤوب لمواجهتها بذات المرونة والذكاء الذي كان لزايد، من أجل تقوية بناء الاتحاد أولاً وإكمال البناء الذي لم يقصر زايد جهده عن بنائه لحظة واحدة، لكنه ترك المجال لمن سيأتي بعده ليضيف إليه الكثير مما تقتضيه متطلبات الحياة وشروط النهضة، فالدولة تحديدًا هي الكائن السياسي الوحيد الذي لا يتوقف نموه لا عند لحظة الميلاد ولا بعد التأسيس ولا اكتمال النضج، يبقى المجال مفتوحاً دائماً للإضافات الحضارية التي تعززها خطوات تحدث في محيطنا الخليجي القريب، وخاصة ما يتعلق منها بتعزيز المشاركة السياسية ودور المرأة وتقوية المؤسسات الاتحادية وإيلاء المؤسسات الخدمية اهتماماً أكبر خاصة بعد أن تراجع دورها ومستوى أدائها في السنوات الأخيرة لصالح المؤسسات المحلية.

أمام الإمارات في المرحلة المقبلة عمل جاد وكثير استكمالاً طبيعياً لمرحلة منجزات الراحل زايد، لكنه العمل الضروري الذي سيؤكد وفاءنا لزايد ومضينا على طريقه، والذي سيحمي ويصون منجزه النهضوي الكبير من كل الأخطار.

مقالات لنفس الكاتب