array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

عراق ما بعد الانتخابات: رؤية في المستقبل

السبت، 01 كانون2/يناير 2005

قد لا تعقد الانتخابات العراقية كما هو مخطط لها في نهاية يناير 2005 كما تطالب بذلك قوى سياسية وهيئات دينية، ولاسيما السنية منها، أو قد لا تكون هذه الانتخابات شاملة من خلال إرجاء عقدها في بعض المحافظات التي تشهد حركات مقاومة عنيفة.

إلا أن الأوضاع - حتى الآن - تشير على الأغلب إلى أن الانتخابات سيتم إجراؤها في الموعد المحدد ذاته، ليس لأن ذلك هو الخيار الأمثل لاستقرار الأوضاع وإتمام العملية السياسية، وإنما لأنه يتطابق مع مصالح قوى دولية، ومحلية كذلك، وهي ترى أن عقدها في ظروف صعبة ومعقدة ستكون نتائجه أقل مأساوية من تأجيلها من دون ضمانات بتحسن الأوضاع، إلا أن خيارا كهذا لن يكون هو الآخر بلا تداعيات دراماتيكية سوف تلقي بظلالها على الحياة السياسية في العراق للمرحلة المقبلة لأن الانتخابات في نهاية المطاف هي إيذان بولادة دولة جديدة ما تتباين الآراء كل الآراء حول هويتها وفلسفتها ومهامها.

لماذا الإصرار على الانتخابات؟

يكاد يكون واضحا، أن الإدارة الأمريكية وبعد اشتداد العمليات النوعية للمقاومة والنفقات المالية المتصاعدة لميزانية الحرب، وتضاؤل الأمل أمامها بالانفراج والسيطرة على الأوضاع المتردية في العراق، أصبحت راغبة في أن تلقي بملف العراق خلف ظهرها. وهذا لا يعني بالقطع أنها تفكر بالانسحاب من العراق نهائيا، وإنما على أقل تقدير تخفيف مظاهر وجودها العسكري والانسحاب من المدن الرئيسية وبالذات "المتمردة" منها، والاكتفاء بوجود عدد محدود من قطعاتها، وذلك لتجنيب عسكرييها المزيد من الخسائر، أو بعبارة أخرى - يتداولها العراقيون - هي أنها تسعى إلى "تعريق العنف"، أي جعله عراقيا - عراقيا.

بريطانيا وهي الحليف الأهم لأمريكا في العراق، مهتمة بإجراء الانتخابات، للأسباب السابقة، إضافة إلى أنه إذا كان بوش قد خرج منتصرا من المعركة الانتخابية، فإن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير عليه أن يواجه منذ الآن خصومه وانتقاداتهم له حول العراق، ولذا فإن الانتخابات ستكون بالنسبة له ورقة رابحة يلوح بها كإنجاز قامت به حكومته في العراق. وهذا التحليل يكاد يسري على جميع الحكومات التي تتواجد قواتها العسكرية في بغداد ضمن القوات المتعددة الجنسيات.

ولعل الأهم من كل ذلك هو أن تأجيل الانتخابات قد يرسل إشارات خاطئة للمجموعات المسلحة بأنها استطاعت أن تفرض إرادتها، وأن تحقق انتصارا سياسيا مما يجعلها أكثر هيبة في نظر المتعاطفين معها، وأشد رهبة في عيون المناوئين لها، خصوصا بعد إعلان المجموعات الأصولية وحتى ابن لادن والزرقاوي معارضتهم للانتخابات وتهديد المشاركين بها، وهي التي بدأت ثمارها تتضح في الاستقالات الجماعية للمسؤولين عن الانتخابات في المناطق الساخنة.

إقليميا قد تبدو إيران أكثر الدول اهتماما بالانتخابات، إذ إن إجراءها وسط حالة الاستقطاب الطائفي الحاد في العراق سيضمن لها فوز حلفائها المهمين، وتصاعدا في الدور السياسي للشيعة العراقيين الذين سيشكلون باستثمار نفوذهم المرتقب، جدارا واقيا لها من السياسة الأمريكية. أما الأقطار العربية الأخرى (ماعدا الأردن وسوريا) فإنها إما غير مكترثة، أو أنها راغبة في إجراء الانتخابات لكي تستطيع التعامل مع المتغيرات التي ستفرزها، ذلك لأن ضبابية المشهد العراقي كما هو عليه الآن وسيولته يجب التعامل معه محفوفا بالمفاجآت والمخاطر بسبب الأوضاع المتقلبة والمفاجئة، أما إجراء الانتخابات فإنه يفضي إلى توضيح صورة عراق المستقبل على نحو أفضل يسهل إمكانية التعامل معه كواقعة.

وعلى النطاق المحلي يبدو أن الشيعة العراقيين، - ومع أننا لا نتحدث عن كتلة واحدة باتجاه متماثل-، إلا أن غالبيتهم - ماعدا تيار مقتدى الصدر - يبدون متحمسين للغاية لإجراء الانتخابات بهدف استثمار حالة الاستقطاب الطائفي لمصلحتهم وأكثريتهم العددية، والمناخ العاطفي المؤيد لهم، ولا شك في أن دعوات آية الله السيستاني للمشاركة في الانتخابات ووصفه لها باعتبارها "تكليفا شرعيا" تمنحهم زخما لا يضاهى.

ومن جهتهم الأكراد، الذين ناوروا لإرجاء الانتخابات بهدف حسم قضية كركوك لمصلحتهم، لا يبدو أن لديهم مانعا من الانخراط في الانتخابات متى عقدت - وعلى الأقل - فإنهم يضمنون فيها بشكل مؤكد أصوات الأكراد التي تؤهلهم للدخول بقوة في العملية السياسية ولانتخاب برلمان كردستان.

والسنة العرب، وهنا أيضا لا نتحدث عن كتلة صلدة، لكنهم في العموم أعلنوا عن عدم رضاهم عن اجراء الانتخابات في موعدها الذي يقولون عنه انه ليس "موعدا مقدسا"، وإن من المستحيل الإبقاء على الموعد في ظل الانفلات الأمني والتشرذم السياسي والقانون الانتخابي "المتحيز" وعدم وجود نهاية واضحة للاحتلال. ولا شك في أن البيانات التي أصدرتها هيئة علماء المسلمين التي باتت تعتبر "المرجعية الفقهية" بالنسبة لمعظم السنة، تعزز القناعات الشعبية، وقد جاء انسحاب الحزب الإسلامي العراقي الذي يعتبر امتدادا للإخوان المسلمين من الانتخابات وقبل ذلك من الحكومة المؤقتة ليمثل نهاية لرؤية السنة العرب وهم يشاركون في الانتخابات.

ولاريب في أن عدم اشتراك السنة يبطن موقفا وطنيا بمقاطعة كل ما له علاقة بالاحتلال، وفي الوقت نفسه فإنه لا يمكن تجاهل أنه رد فعل للتعبير عن عدم رضاهم عمّا ستؤول إليه الانتخابات مسبقا بعد أن تم النظر اليهم كأقلية عددية، ومحاولات التهميش السياسي المقصود الذي يتعرضون له تحت مزاعم أنهم انصار نظام صدام، وتحميلهم بالتالي مسؤولية ما حدث للشيعة العرب والأكراد.

إن عدم اشتراك السنة سيمثل معضلة، ليس لأنهم يمثلون أقلية عددية مهمة، وإنما لأنهم يعتبرون المخزون الإداري والسياسي والعسكري التقليدي للدولة العراقية، كما أنهم يشكلون بؤرة المقاومة العراقية، وبالتالي فإن عدم اشتراكهم في الانتخابات سيجعلهم متمسكين بخيار المقاومة، وربما يدفعهم ذلك إلى المزيد من أعمال العنف تجاه الدولة الوليدة، على اعتبار أنها خصمهم الجديد، مما يربك استمرار العملية السياسية، وقد يكون ذلك تمهيدا لمنزلق الاقتتال الطائفي والعرقي. إذاً الشروط التي وضعها الإسلاميون السنة والأحزاب الوطنية والقومية يكاد يكون من المتعذر الاستجابة لها، وهي خروج قوات الاحتلال أو وضع جدول زمني للانسحاب، وإشراف الأمم المتحدة عليها، واطلاق سراح المعتقلين، والكف عن الأعمال العسكرية، الأمر الذي تعتبر الإدارة الأمريكية الاستجابة له أمرا مهينا وغير مقبول، ولذلك فإنه حتى التأجيل لو حدث، فإنه لن يحمل معه بشائر سارة في مشاركة السنة على نطاق واسع.  ومع أن هنالك هواجس جدية من عقد الانتخابات ولكن تبقى حقيقة ماثلة وهي أن المؤيدين للانتخابات يمثلون الأكثرية، وهم القوة الفعلية التي لديها إمكانية صناعة القرار السياسي.

إذاً فالأرجح هو عقد الانتخابات في موعدها، ولكن حتى لو تم إرجاء الانتخابات لمدة أخرى أو استثناء بعض المناطق منها فإن الأفكار الموجودة في هذه الورقة ستأخذ ذلك في الاعتبار عند تحليلها لعراق ما بعد الانتخابات بغض النظر عن موعدها.

الأجواء المرافقة للانتخابات:

من المحتمل جدا ألا تكون العملية الانتخابية سهلة وآمنة، فالمجموعات المسلحة تعهدت بأن تجعل الثلاثين من يناير 2005 يوما أسود، لذلك من المرجح أن يشهد العراق أياما دامية في أرجاء مختلفة من العراق كلما بدأ العد العكسي لموعد الانتخابات، وقطعاً ستكون المقرات الانتخابية هدفا مفضلا، لاسيما أنه من غير المتصور تحقيق أجواء حماية كافية لقرابة 9000 مركز انتخابي وهو ما قال عنه وزير الدفاع إنه أمر أقرب إلى المستحيل، كما أن مقرات الأحزاب الكبيرة وبالذات الشيعية منها قد يحمل استهدافها رسالة ذات مغزى طائفي سياسي في الوقت نفسه، فضلا عن المقرات الحكومية الأخرى واستهداف المسؤولين الحكوميين. إذ إن تفجيرات واسعة لو حدثت ستجعل المشاركة الشعبية في أدنى درجاتها حتى بالنسبة للمناطق التي تعلن التزامها بالانتخابات، فالهلع مما يحدث أو يمكن أن يحدث سيجعل العديدين يحجمون عن المشاركة إيثارا للسلامة.

وحتى لو أمكن استيعاب الأحداث الدموية، وتم تجاهل آثارها، فإن الأرجح هو أن خلافا سينشب بين القوى المشاركة في العملية السياسية، وستكون هنالك اتهامات واتهامات متبادلة حول تزوير الانتخابات والتشكيك بنزاهتها، وهو أمر يمكن إدراك حصوله لأسباب عديدة من بينها أن بعض القوى السياسية الكبيرة المشاركة في الانتخابات لها نفوذها المناطقي الطاغي ولها ميليشياتها المسلحة، وتمويلها الخارجي الواسع وأتباعها المتغلغلون في الأجهزة الحكومية على نحو كبير. ولو أضفنا لذلك عوامل ضعف المراقبة الوطنية وغياب الإشراف الدولي، وهامشية دور الأمم المتحدة، فإنها ظروف ملائمة للأحزاب الكبيرة لأن تستثمر نفوذها للتلاعب بنتائج الانتخابات، ولاسيما في جنوب بغداد، الأمر الذي يخلق شيئا من التوتر بينها والذي من المحتمل أن تتصاعد حدته مع اقتراب موعد الانتخابات وما بعده. وفي ظل عدم وجود جهاز ما يحتكم إليه بشكل نزيه وحيادي للطعن في نتائج الانتخابات، فإن الحملات الدعائية المضادة، قد تصل إلى حدود أبعد من التراشق اللفظي.

هذا الرأي ينطبق - إلى حد ما - على المنطقة الكردية، حيث إن الحزبين الكبيرين (الديمقراطي برئاسة البارزاني، والوطني برئاسة الطالباني) قد يجدا نفسيهما عرضة للتشكيك من قبل الأحزاب الكردية الأخرى الأصغر منهما كالأحزاب الإسلامية واليسارية في التلاعب بنتائج الانتخابات، واستغلال نفوذهما السياسي والإداري والمالي في المحافظات الثلاث (السليمانية، أربيل، ودهوك) لتجيير النتائج لمصلحتهما.

إن واحدة من هذه المشكلات المتوقعة (التفجيرات، ضعف المشاركة الشعبية، مقاطعة السنة وتزوير النتائج) كفيلة بأن تصم العملية الانتخابية بالتحيز وغياب النزاهة، وعدم المشروعية، وقد يؤدي ذلك إلى نسف العملية الانتخابية بالكامل ان لم تكن بابا لمشكلات حزبية واثنية في أوضاع كل شيء فيها ينذر بالتصاعد.

النتائج المحتملة للانتخابات:

ولكن ماذا لو أن الانتخابات جرت بشكل مقبول، وكان بالإمكان تجاوز الصعوبات التي ستخلفها العملية الانتخابية؟ وهذا ممكن من خلال عدد من الوسائل من بينها عقد الانتخابات على مدى أيام لضمان توفير أقصى حماية لوجستية للمراكز الانتخابية وللناخبين، أو ضمان شغل مندوبين من المحافظات التي تقاطع الانتخابات لعدد من أبنائها بشكل يتناسب مع وزنهم السكاني المفترض، أو إبقاء عدد من المقاعد شاغرة لأبناء هذه الاقاليم إلى حين استتباب الأوضاع الأمنية فيها، أو أن القوى المشاركة بالانتخابات قبلت بنتائجها رضائيا؟ ولو حدث ذلك فإن المشهد الافتراضي الأقرب للواقع سيبدو عندئذ - وفق اجتهادي - على النحو الآتي: لن يكون هنالك من هو أكثر حبورا من شيعة العراق الذين سيجدون أنفسهم بعد الانتخابات في وضع مريح، لأن القائمة التي تضم أكبر وأهم الأحزاب الشيعية (قائمة الائتلاف الموحد) والتي باركها السيستاني، ستحصد معظم أصوات الشيعة العراقيين، وهذه النتيجة ستكون في الوقت نفسه مدعاة ارتياح لإيران التي ستجد الكثير من حلفائها الذين سبق أن رعتهم وهم يستحوذون على ثلث أو أكثر قليلا من مقاعد المجلس الوطني البالغة 275 مقعدا.

الأكراد – من جانبهم - سيحظون بامتيازين في هذه الانتخابات، أولهما أن ربع المقاعد تقريبا في المجلس الوطني ستكون من نصيبهم، فيما سيكون لديهم برلمان كردي تمتد حدود ولايته إلى المحافظات الثلاث التي تبدو الآن أشبه بالمستقلة، وهو ما سيعزز دورهم في رسم السياسات الحكومية المقبلة. كما أنه سيكون لهم صوتهم القوي في المجلس البلدي في كركوك بعد الضمانات التي حصلوا عليها من الإدارة الأمريكية والتغييرات التي أحدثوها في التركيبة السكانية لهذه المدينة بزج أعداد واسعة من الأكراد فيها. أما الأحزاب العلمانية والقومية واليسارية التي ستشارك في الانتخابات فستستطيع أن تستحوذ على نسب متفاوتة ولكنها ليست واسعة من مقاعد البرلمان، فالوعاء الطبيعي لهذه الأحزاب هو في الغالب في المناطق التي أعلنت مقاطعتها الانتخابات، وبالتالي فإن المنافسة سيشتد أوارها في المناطق الشيعية بين هذه الأحزاب والقائمة الموحدة.

ومن بين هذه الأحزاب ستكون هنالك حصة مهمة لحركة الوفاق الوطني التي يتزعمها رئيس الوزراء إياد علاوي وسيضمن الحزب وجود مقاعد لأبرز قياداته، كما أن المجموعة التي تضم رئيس الجمهورية غازي الياور ستضمن تصويت عدد ليس بكثير من عشيرة شمر – ثنائية المذهب - الكبيرة والممتدة والتي سيقاطع سنتها الانتخابات فيما يصوت معظم شيعتها لمصلحة الأحزاب الدينية، وسيحصل الحزب الشيوعي العراقي على أصوات ليست واسعة من الشيعة العراقيين في الجنوب وهي المنطقة التي تعتبر المكان التقليدي لجماهيره ولأصوات أولئك الناقمين على تصاعد المد الديني الطائفي. إضافة إلى عدد آخر من الشخصيات التي سيصوت لها أبناء عشائرهم لاعتبارات قبلية واجتماعية.

وفي المحصلة، فإن الأحزاب التي شاركت في مجلس الحكم الانتقالي وفي الحكومة المؤقتة والمجلس الوطني المؤقت، هي ذاتها تقريبا التي سيكون عليها القبول بالمشاركة مجددا في المجلس الوطني الذي سيفرز حكومة هي أقرب للنسيج الاجتماعي الموجود حاليا، فالهيئة الرئاسية –طبقا للقانون- والمؤلفة من رئيس ونائبين ينبغي أن يقدما في قائمة واحدة وأن يحظيا بأصوات ثلثي النواب مما يفرض توافقا ضمنيا على التوزيع الاثني لها، والمرجح أن يكون الرئيس سنياً عربياً بلا قاعدة سياسية ولا صلاحيات فعلية، كما أنه من المرجح اختيار رئيس وزراء شيعي، لكنه علماني التوجه أو على أقل تقدير ليس موغلا في انتمائه الطائفي، ورئيس برلمان كردي. أما الوزارات فإنها ستوزع طبقا لتقديرات التقسيمات الاثنية مع مراعاة الاعتبارات التكنوقراطية.

وفي الغالب إنه لن تكون هنالك هيمنة مطلقة لحزب ما أو ممثلي اثنية معينة في الجمعية التأسيسية، وإن كانت هنالك ثمة أرجحية للأحزاب والقوى السياسية الدينية الشيعية، وهذا شيء حسن بأننا لن نرى مجموعة ما قادرة على تمرير قرارات نستجيب لمصلحتها الفئوية على حساب الآخرين، ولكن أيضا فإنه، من جهة أخرى، سيصيب قراراته بالضعف والتوفيقية، والتشتت، وربما التناحر.

ماذا بعد الانتخابات؟

سيصاب العراقيون بإحباط كبير بعد الانتخابات، فالأوضاع التي كانوا يأملون بأن تتحسن لن تحمل معها عصا سحرية، لأن المشكلات المتعلقة بالحياة اليومية والخدمات الضرورية آخذة في التفاقم بحيث لا يمكن حلها بين ليلة وأخرى، والمشاريع الصغيرة والمحدودة لن تستطيع استيعاب البطالة الواسعة بين العراقيين، الأمر الذي سيجعل النقمة متصاعدة خصوصا أن مشكلة الفساد الإداري التي استشرت خلال العامين الماضيين ليس من المتصور انتهاؤها.

وكذلك الاستقطاب الطائفي والاثني الذي ظل عاملا حاسما في الحياة السياسية العراقية بعد الاحتلال سيكون له دور بعد الانتخابات، فالتصويت الذي جرى معظمه وفق للانتماءات الاثنية، كما أن المرشحين الذين فازوا سيشعرون بأنهم مطالبون باظهار احترامهم الخاص والمنحاز لأبناء طائفتهم، وبالتالي فإن الفرص الوظيفية والسياسية ستكون على اعتبارات الولاء الاثني والسياسي وليس وفق معايير الكفاءة.

والمشكلة الأهم التي ستظهر فيما بعد الانتخابات هي تلك التي تتعلق بمطالبات ومواقف السنة العرب الذين ستتزايد نقمتهم على الحكومة الجديدة التي سيجدون فيها ليس تهميشا لهم فقط وإنما معاداتهم بشكل صريح، إذ إن المقاومة في العراق تكاد تنحسر جغرافيا في مناطقهم، وبالتالي فإن أي إجراء عسكري إزاءهم سيتم تفسيره تلقائيا بأنه انتقام طائفي ليس إلا، خصوصا أن معظم عناصر الجيش العراقي الذي يقوم بعمليات الدهم والاعتقال هم في الأصل من المتطوعين في الميليشيات الكردية والشيعية، وعندئذ سيقوم خطباء الجوامع في المساجد السنية ورجال الدين المتشددون بتغذية الشعور بالظلم والمعاداة لديهم.

ومن جانبهم، المقاومون الأصوليون، والبعثيون، والوطنيون، سيكون لديهم الحافز القوي لاستمرار هجماتهم العسكرية تحت دافع الإحباط المعزز بالكرامة الوطنية والرغبة في إظهار قوتهم وصلابة مبادئهم الرافضة للاحتلال، حيث سيكون بإمكانهم عندئذ أن يشيروا إلى انفسهم بأنهم المجموعة التي لم تقبل أن تمد يدها للمحتل في حين إن الآخرين انتهزوا "الفرصة الملوثة".  وهكذا فإن مهمة جعل هذه المناطق آمنة ستكون أقرب إلى العبث إلا إذا تم اتخاذ تدابير فعالة وحاسمة للتجاوب مع مطالبهم.

مهمات ما بعد الانتخابات:

مرة أخرى لو كان بإمكان الجمعية الوطنية تجاوز مشكلة المناصب الحكومية والتصويت بالثقة على التشكيلة الوزارية، فإن المهمة الأساسية التي ستلقى على عاتقها هي كتابة الدستور الدائم للعراق. وكم سيكون ذلك باعثا على المشاحنات لأن المشكلات التي سبق أن تخاصم حولها الفرقاء عندما كانوا يعملون سوية في مجلس الحكم الانتقالي ستثور مجددا، ولنتذكر أن قانون إدارة الدولة المؤقت شابته ولادة متعسرة، إذ حتى بعد أن تمت المصادقة عليه أعلن اثنا عشر عضوا من أصل 25 (كلهم من الشيعة) تحفظهم عليه.

وتتمثل المشكلات التي ستظهر حينئذ في السؤال عن موضع الدين الإسلامي بالنسبة لمصادر التشريع، فهل سيكون مصدر التشريع أم أحد مصادره كما ترغب بذلك الإدارة الأمريكية التي أعلنت عدم قبولها بتأسيس حكومة دينية في العراق؟ والمشكلة الأخرى التي ينبغي على الجمعية مواجهتها هي قضية "الفيدرالية" التي يعتبرها الأكراد المطلب الأكثر تواضعا بالنسبة لهم خصوصا بعد تقديم 7،1 مليون كردي عريضة، يطالبون فيها بالانفصال وإجراء استفتاء شعبي لتقرير مصيرهم وهو الأمر الذي ينظر إليه معظم العراقيين العرب على أنه مدخل للانفصال ليس إلا خصوصا أن القيادات الكردية تقدم تفسيرا موسعا لمفهوم الفيدرالية، وتصر على شمول مدينة كركوك (الغنية بالنفط) بالانضمام إليها على أساس المطالبات التاريخية والديموغرافية.

إن إصرار الأكراد على ذلك قد يدفع بعض الشيعة إلى المعاملة بالمثل والمطالبة بأن تكون المحافظات التي يقطنونها (فيدراليتين)، وهي دعوات بتنا نسمعها منذ زمن، وتلقى تشجيعا من إيران، الأمر الذي سيرتب ظلالا من التوجس على باقي دول المنطقة التي قد تجد نفسها مدفوعة للوقوف بوجه هذه المطالبات والحد منها. كما أن ثمة قضايا أخرى ستكون موضع نقاش حاد وخلافات مستمرة، مثل قضية اجتثاث البعث، ومعالجة مشكلة المؤسسة العسكرية والأمنية السابقة، وصلاحيات الحكام، والحريات العامة، ومسألة معالجة مظاهر التعريب في المناطق المتنازع عليها، وقانون الانتخاب والأحزاب، والتعويضات للمتضررين من النظام السابق، والمهجرين، إضافة إلى موضوعات أخرى شائكة تفرضها متطلبات سن دستور دائم على أنقاض دولة عاصرت لسنين طوال دستورا مؤقتا وغير محترم.

كل هذه المناقشات سيتم استغلالها على نحو سيئ بحيث إن أي رأي مخالف سيتهم أنصاره بأنهم مدفوعون بولاءاتهم المذهبية والاثنية أو ينفذون مصالح قوى أجنبية ومخططات خارجية، مما يصعد الخلافات مجددا ويصيب الأجواء السياسية والاجتماعية بالاحتقان.
أما ما سيكون محل هياج شعبي فعلا، فهو تصميم نوع العلاقة بين الدولة العراقية والقوات متعددة الجنسيات وبالذات العلاقة مع الولايات المتحدة. ذلك لأن قوى سياسية عديدة ستنظر إلى هذا الوجود باعتباره ضمانة لمكتسباتها السياسية (الأكراد، الأحزاب والشخصيات التي ارتبط وجودها بالغرب) وحماية للعراق من التدخلات الإقليمية في بيئة رخوة، ، أما الحس السني الإسلامي والأحزاب القومية واليسارية الاستقلالية، فإنها ستنظر إلى هذه الآراء بعين العمالة للأجنبي، وستستطيع حينذاك أن تحشد مؤيديها لمنازلة جدية. وهكذا ستعود دائرة العنف إلى الدوران ثانية.

بالنهاية إن الثلاثين من يناير 2005 هو لحظة الذروة في المواجهة بين خصمين عنيدين يسعى كل منهما لأن يفرض إرادته بغض النظر عن المآسي المصاحبة له. والمعضلة أن إجراء الانتخابات لن يحل المشكلة أو حتى جزءاً منها، وإنما قد يكون بداية لمشكلات أكبر وأكثر خطورة.

مجلة آراء حول الخليج