array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

الاستشراق والمستشرقون: نحو رؤية منهجية

الجمعة، 01 تموز/يوليو 2011

يمثل الاستشراق أحد جوانب الغزو الفكري للأمة العربية والإسلامية من جهة أنه يسعى إلى إعادة تمثيل وصياغة القيم والمفاهيم والأفكار المرتبطة بكل جوانب الماضي والحاضر العربي الإسلامي وفق منظور غربي، ومحاولة ترسيخ الرؤى الغربية هذه لجعلها التمثيل الحقيقي وتجاهل أية رؤى داخلية عربية وما يتبعه من نتائج جراء ذلك.

لقد اختلف المؤرخون حول جذور الاستشراق هل بدأ على أيدي طلاب العلم الذين جاءوا إلى الأندلس ونهلوا من معرفته ونقلوها إلى أوروبا منذ القرن الثامن الميلادي، أم أن البداية منذ عهد بيزنطة التي قهرها العرب والمسلمون وانتزعوا منها الأراضي الواسعة في بلاد الشام ومصر والمغرب العربي، أم وليدة الحروب الصليبية والاحتكاك المباشر بين شعوب غرب أوروبا والعرب عبر البحر المتوسط، أو أنها نتيجة البعثات التبشيرية التي نقلها الدومنيكان والفرنسسكان واليسوعيون إلى بلاد الشرق.

إلا أن الحقيقة أن الاستشراق وهو مظهر من مظاهر صلة الغرب بالشرق وهو بدوره نتاج لهذه الصلة وبقدر اختلاف الصلات وتنوعها اختلف اهتمام المستشرقين بالشرق سواء باختيار الموضوعات المدروسة أو طبيعة معالجتها.

أولاً: الاستشراق: المفهوم والمصطلح

لا يمكن في الحقيقة تحديد تعريف دقيق للاستشراق لأنه في واقع الحال ليس بالمفهوم العلمي الاصطلاحي، بل هو مصطلح ثقافي فهو لم يلد في الشرق أو بلاد العرب والمسلمين، بل إنه رغم تحدثه عن المشرق وأحواله كمادة أساسية إلا أنه بزغ نجمه وتعافى في الغرب. ويمكننا تعريف الاستشراق بأنه علم الشرق أو علم العالم الشرقي، وكلمة (مستشرق) تطلق بالمعنى العام على كل عالم غربي يشتغل بدراسة الشرق لغاته وآدابه ودياناته وحضاراته.

وعند الخوض في المدلول الاصطلاحي للاستشراق فيعتبر إدوارد سعيد في كتابه الشهير (الاستشراق) أنه عرى البنية العسكرية والفكرية للأنجلو سكسون في القرنين التاسع عشر والعشرين، وفضح عملية سيطرته على الشرق وامتلاك السيادة عليه وإعادة بنائه وإنتاجه سياسياً واجتماعياً وعقائدياً وعلمياً من خلال نصوص تستمد سلطتها المرجعية من التمثيلات النصية من دون تفحص لمدى تطابق تلك النصوص مع الحقيقة التاريخية.

وقد ضبط إدوارد سعيد تعريف (المستشرق) على أنه كل من يقوم بتدريس الشرق أو الكتابة عنه أو البحث فيه، ويسري ذلك سواء أكان المرء مختصاً في علم الإنسان أم علم الاجتماع أم مؤرخاً أم فقيه لغة في جوانبه المحددة والعامة على حد سواء فهو إذن مستشرق وما يقوم به هو استشراق.

ثانياً: الاستشراق والمدارس الاستشراقية

إن التطور التاريخي لاهتمام المفكرين الغربيين بالاستشراق يعود إلى منتصف القرن العشرين بمفهومه الحديث على الرغم من أن جذور ذلك الاهتمام تعود إلى فترات تاريخية سابقة. إذ إن نمو وازدهار الاستشراق ظهر في هذه الفترة الحديثة لعدة أسباب موضوعية في مقدمتها استقلال الدول (العالمثالثية) التي خضعت للقوى الكولونيالية الغربية، وتفسخ عقلية أغلب المستشرقين وانتهاء عصر الاستعمار وظهور جيل جديد من المستشرقين الشباب الذين أظهروا نقائض الهيمنة الغربية وحلقات الضعف في النموذج الحضاري الغربي، والخصوصية القومية الحضارية وحقها في التحرر والنمو الذاتي، وأدى تصدع المحورية الغربية بعد تحرر الدول المستعمرة من الهيمنة الغربية إلى حدوث أزمة على صعيد الاستشراق الذي يمثل السلطة المعرفية في نسيج تلك المحورية.

ثم جاء العامل الآخر في ظهور العلوم الإنسانية وتطورها الذي أحدث صدمة في أذهان المستشرقين (المجددين) للوقوف على مدى قصور الاستشراق التقليدي وأدواته ومناهجه، وانقطاعه شبه التام عن النظرة التجديدية التي أفرزتها العلوم الإنسانية في طريق تقدمها ونموها وفرضت ضرورة الاهتمام بالتحليل الخارجي مع التحليل الداخلي ومجرى التقلبات التاريخية التي يتعدى منطقها نطاق القوالب الجاهزة والنظرة الكونية العالمية الجامدة التي لا تتناسق مع أفق النمو والتطور التاريخي.

وقد تعددت المدارس الاستشراقية في القرن العشرين، واختلفت أنماطها واتجاهاتها ومفكروها وسوف نستعرضها بتركيز.

1- الاستشراق الإنجليزي

احتل الاستشراق دائرة الاهتمام من لدن المستشرقين الإنجليز خلال القرون الماضية وتمحورت الاتجاهات في مدارس استشراقية عدة تصدت لدراسة الإسلام والتاريخ العربي والعقيدة الإسلامية بل حتى الثقافة والحضارة العربية الإسلامية.

وكانت بعض الشخصيات التاريخية مثل السلطان صلاح الدين الأيوبي مثار الجدل بين المستشرقين الإنجليز على مدى عقود عدة نظراً لمواجهته الشجاعة للقوى الصليبية الأوروبية، وأصبح بذلك يمثل محور الاهتمام في الدراسات الاستشراقية العربية والإنجليزية خاصة. وكان أول من كتب عنه المستشرق ستانلي لين بول الذي تبنى إلى حد كبير رؤية المؤرخ في العصر الأيوبي ابن شداد صاحب كتاب (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية) ونقل صفحات من هذا الكتاب من سيرة صلاح الدين الأيوبي، ورافق المستشرق (هاملتون جب) الذي قدم دراسة منهجية من خلال دراسته لكتاب ابن القلانسي (ذيل تاريخ دمشق) واعتماده على ابن شداد في معرفة شخصية صلاح الدين أيضاً.

فقد كان ابن شداد الصديق الحميم لصلاح الدين والتحق به إعجاباً بشجاعته وحبه للجهاد وترك منصبه في الموصل واتجه إلى مهنته الأصلية كونه مؤرخاً، وأكد المستشرق لايونز أن ابن شداد لا غنى عنه لكل من يخوض في الكتابة عن صلاح الدين الأيوبي وهو مؤرخ ثقة ومعتمد رغم قربه من صلاح الدين، وتبنى لايونز تفسيرات ابن شداد في الأحداث، وظل ابن شداد يحظى باهتمام المستشرقين الناطقين بالإنجليزية، وظلت كتاباته مهمة وأساسية رغم صدور سير أخرى عن صلاح الدين عند المستشرقين أمثال لين بول ولايونز وجاكسون.

أما المستشرق (هاملتون جب) فهو في طليعة الاستشراق الإنجليزي والذي تصدى لدراسة التاريخ الإسلامي والحضارة العربية الإسلامية، وقد مثل الاستشراق المنهجي ودرس في مدرسة الدراسات العليا الشرقية عام 1919م، وحصل على الماجستير عن الفتوحات العربية في آسيا الوسطى، ثم درس الأدب العربي وتأثر بأستاذه توماس أرنولد وأبعده عن تيار التبشير والاستشراق الديني واتجه إلى دراسة الأدب العربي المعاصر وعلاقاته مع الأدباء المصريين، وقام بترجمة أعمال ابن بطوطة وترسخت لديه قناعات بأن مفهوم التاريخ العربي والحضارة العربية الإسلامية ينبع من أن الدين الإسلامي هو القوة الموحدة التي استطاعت أن تصهر الشعوب في بوتقة واحدة من الفكر والعقيدة وانعكست في كتبه وأعماله التاريخية.

وقد رقي (جب) إلى أستاذ خلفاً لأستاذه أرنولد، وأصبح في طليعة المستشرقين الإنجليز ودرس التاريخ الإسلامي الوسيط في جامعة لندن والحروب الصليبية وصلاح الدين والدولة الأيوبية خاصة، ثم جاء لقاؤه مع أرنولد توينبي ليدفعه إلى دخول مجال الاستشراق السياسي من خلال تكليفه بعدد من الأعمال، وأنجز مشروعه الضخم مع (باوون) في الكتاب المهم (المجتمع الإسلامي والغرب). واختير جب أستاذاً للغة العربية في جامعة أكسفورد خلفاً للمستشرق ماركوليوث، وكان منصبه من أهم المناصب الاستشراقية في بريطانيا وكتب المحمدية وحياة صلاح الدين الأيوبي والاتجاهات الحديثة للإسلام تعبيراً عن اهتماماته بهذا الاتجاه.

ثم تعددت لقاءاته مع المستشرقين الإنجليز والأمريكيين وزياراته إلى البلاد العربية وأعمال في الجامعات الأمريكية، حيث انتقل إلى الولايات المتحدة وأصبح أستاذاً للغة العربية في كبرى الجامعات الأمريكية جامعة هارفارد، وبدأ يتخذ من الدراسات العربية والإسلامية منهجاً استشراقياً أكاديمياً، وقدم عمله المهم تراث الإسلام في العالم الحديث وكتابه عن صلاح الدين الأيوبي إلى أن توفي عام 1971 وترك وراءه مدرسة استشراقية إنجليزية وجيلاً من المؤرخين من شتى دول العالم ومدرسة تاريخية أكاديمية وعلمية في معالجته الموضوعية ولم يهتم بالأوضاع السياسية لكي لا ينغمر بعيداً عن التاريخ الإسلامي.

وبهذا فإن الاستشراق الإنجليزي ذو اتجاهات متباينة غلبت عليه الروح السياسية، وانعكس على تصور المستشرقين ومعالجاتهم للتاريخ الإسلامي، ووصفت أغلبها نظرة سلبية تجاه التراث العربي الإسلامي في محاولة للبحث عن ثغرات أو عيوب لمهاجمته. لكن كانت هناك استثناءات أنبتت آفاقاً جديدة في التعامل مع التاريخ العربي وصنعت مدرسة واسعة في الشرق والغرب.

2-الاستشراق الفرنسي

يأتي الاستشراق الفرنسي في مقدمة الاهتمامات الغربية بالتاريخ العربي الإسلامي وإن اختلفت اتجاهاته بين المتطرفين من المستشرقين والمعتدلين الأكاديميين، ومن أبرز المستشرقين لوي ماسينيون رغم الاتهامات الموجهة إليه بأنه من المستشرقين المحسوبين على الطابور الاستعماري وتكريسه ذهنيات تقليدية استشراقية، لكنه كان أول مستشرق حاول وضع العلوم الإنسانية على المحك، وكان مولعاً بالإسلام وفقاً لنظرة تصوفية، وقام بمفاضلات بين الديانات الأخرى والإسلام ورغم أنه تميز بالتجديد ومحاولة التطور وسعة الأفق، لكنه ظل وثيق الصلة بالاستشراق التقليدي وحبه للتصوف وخاصة شخصية الحلاج.

أما المستشرق الفرنسي الآخر وهو مكسيم رودنسون فلم يمارس الاستشراق بشكل تقليدي ضيق، ولم يرتبط بأسماء معينة مثل ابن حزم أو الحلاج، بل مارس نقداً علمياً موضوعه المشرق والبلاد الإسلامية، ودرس الشرق كمجموعة من الشعوب والمناطق والمجتمعات والثقافات، وكان منهجه مستمداً من المادية الجدلية وعمل على تأليف كتبه (إسرائيل والرفض العربي) و(الماركسية والعالم الإسلامي) و(جاذبية الإسلام ومحمد والإسلام) و(الإسلام والرأسمالية) وغيرها.

أما جاك بيرك فهو أحد تلاميذ ماسينيون ضمن المستشرقين الأكثر حضوراً في المجالين العربي والفرنسي، واهتم بالدراسات الاستشراقية والدفع بها الى العلوم الإنسانية، وقد أحدث تغييرات في التجديد الموضوعي والمنهجي ومحاولة تجريب مناهج العلوم الإنسانية وربط الاستيعاب مع الميدانية بفعل عمله في المغرب ومصر، وحاول بيرك التخلص من الاستشراق التقليدي وظل يشعر بأزمة الاستشراق التقليدي كخطاب وممارسة.

ويعتبر أندريه ميكل من الجيل الثاني تتلمذ على يد جيل من المستشرقين في النصف الأول من القرن العشرين والذي سلك طريق التحديث في الاستشراق وصهره بالعلوم الإنسانية ووجده أكثر يسراً أمامه، ويتميز باهتماماته بالتاريخ والجغرافيا والأدب العربي القديم والحديث وأبرز كتبه (الإسلام وحضارته من القرن السابع إلى القرن العشرين).

وبهذا حاول الاستشراق الفرنسي أن يحول الاهتمام بالاستشراق من المنهج التقليدي إلى التجديدي لا سيما من المستشرقين الجدد، ثم محاولة دمج الاستشراق بالعلوم الإنسانية وتطبيق المناهج العلمية عليه بعيداً عن الوصف والرد.

لكن المستشرقين في أغلبهم لم يقدموا صورة حقيقية عن الإسلام والحضارة العربية في كتاباتهم نظراً لسوء فهمهم واستيعابهم اللغة العربية وفهم النصوص الإسلامية، أو نتيجة للنظرة المسبقة تجاه الإسلام من رؤية أيديولوجية متزمتة تبشيرية أو دينية، أو بسبب النفوذ اليهودي في الساحة العلمية الفرنسية وعدم إفساح المجال أمام الباحثين لتبني رؤية علمية وصادقة تجاه العرب ويكفي الإشارة إلى كتاب المفكر الفرنسي روجيه غارودي (الأساطير الإسرائيلية) الذي أثار جدلاً كبيراً في الأوساط الثقافية الفرنسية والأوروبية.

3- الاستشراق الأمريكي

لم يبدأ الاستشراق الأمريكي بدوره العلمي والبحثي إلا بعد الحرب العالمية الثانية، وتأخر بذلك كثيراً عن الاهتمامات الأوروبية الأخرى رغم أن الولايات المتحدة لها صلة بالمشرق منذ القرن السادس عشر، وظل المشرق يؤثر بشكل مهم في علاقات الأمريكيين بالشرق وورثوا من هذا الاستشراق الروح العدائية تجاه الشرق والشرقيين.

وقد أسهمت عوامل عدة في ازدياد الاهتمام الأمريكي بالشرق والاستشراق وهي العلاقات التجارية والدبلوماسية للولايات المتحدة مع الدولة العثمانية وولاياتها على البحر المتوسط، وتنامي النشاط التجاري البحري مع دول المتوسط والشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية وزيادة الاهتمام الأمريكي بالبحث والتجارة والسياحة في الشرق والنشاط التبشيري الواسع مع الشرق والجهود الصحية والتعليمية ولا سيما في الشام والتي توجت بإقامة الجامعة الأمريكية في بيروت والقاهرة ومراكز البحوث والإعلام، ثم الهجرات العربية المتلاحقة إلى الولايات المتحدة بدءاً من مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومشاركة الجاليات العربية في عملية إنتاج المعرفة المتصلة بالشرق، ثم الاستلهام الفني والأدبي للشرق في الأدب الأمريكي من خلال ألف ليلة وليلة وكتابات الرحالة عن مشاهداتهم عن الشرق، وزيارات الأدباء الأمريكيين للشرق مما مكن من استلهام الشرق وثقافاته في الأدب الأمريكي وأخيراً هجرة كبار المستشرقين إلى الولايات المتحدة مما عزز من فاعلية النشاط الاستشراقي الأمريكي مثل هاملتون جب وفربناوم وأوين وغيرهم.

وقسمت الاهتمامات الأمريكية نحو الشرق على أساس جغرافي إلى شرق أقصى وشرق أوسط وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا، وانعكس ذلك على إقامة مراكز البحوث وأقسام الجامعات الإقليمية المختصة ونشر الأولويات من خلال الكتب وإقامة الجمعيات والروابط المهنية ومنح الجوائز وعقد المؤتمرات الدورية مثل (رابطة شمالي أمريكا لدراسات الشرق الأوسط) في عام 1966 ونظيرتها البريطانية (الجمعية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط) أنشئت عام 1973 إلى أن ظهرت الرابطة الأوروبية لدراسات الشرق الأوسط في عام 1990 في (مركز دراسات الشرق الأوسط) في جامعة أكسفورد. ويعتقد الكثيرون أن كتابات إدوارد سعيد ربما فتحت الباب أمام المزيد من الاهتمام بالاستشراق بعد صدور كتبه عن (الاستشراق 1978 وقضية فلسطين 1979 وتغطية الإسلام 1981 ولوم الضحايا 1988 والثقافة والإمبريالية 1993).

ويمثل روجر أوين أبرز نقاد الاستشراق منذ أكثر من ثلاثة عقود في الولايات المتحدة، ويشغل منصب أستاذ تاريخ الشرق الأوسط ومدير مركز هارفارد لدراسات الشرق الأوسط، ويشير في كتاباته إلى القصور والمغالطات المنهجية والموضوعية في الدراسات الاستشراقية، وسعى إلى بث روح النقد في عدد من دارسي الشرق الأوسط والعالم الإسلامي ومراجعاته النقدية لمؤلفات المستشرقين التقليدية مثل (جب) من أجل زعزعة سلطة الاستشراق التقليدي ونقده، وتصدى أوين لكبار المستشرقين مثل برنارد لويس وأظهر بؤس دراساتهم ومناهجهم تجاه الشرق.

وكان أوين من أبرز مشجعي إدوارد سعيد على مشروعه الاستشراقي، في حين اعتبر سعيد نفسه كتابات أوين في التاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط من أفضل الدراسات عن الشرق الأوسط خاصة في استحضار العلوم الإنسانية المعاصرة وامتحانها الذاتي المستمر واستجابتها الحساسة لمادتها المدروسة.

إن ما يؤخذ على الاستشراق الأمريكي أنه ظل أسيراً باتصاله بالمركزية الغربية الأوروبية في العصر الإمبريالي، ولا تزال بقاياه ورواسبه قائمة وهو يشكل انتكاسة لدراسات الشرق الأوسط التي حاول إدوارد سعيد وغيره من النقاد مثل أنور عبدالملك وحليم بركات وهشام شرابي وغسان سلامة وأنور الطيباوي وغيرهم أن ينبهوا لخطورة ما يقع تحته من أرضية هشة بسبب الأجواء الإمبريالية ولا سيما في القرنين الماضيين في أوروبا، ثم سعي بعض المستشرقين إلى إيجاد مناخ منهجي أكاديمي لتخليصه من ذلك.

ويبدو أنه ما زال الصراع قائماً في الولايات المتحدة بين هذين التيارين حتى الآن في كيفية تبني منهج صحيح وواقعي من الشرق والدراسات الشرقية لا سيما مع تزايد وجهة النظر اليهودية وتأثيراتها في عملية صنع القرار السياسي ومراكز البحوث والجامعات الأمريكية، كما يحول بشكل جذري دون خلق مثل هذا التيار المحايد منهجياً.

4- الاستشراق الروسي

هناك جوانب مضيئة في الاستشراق الروسي الذي بدا الاهتمام فيه بالشرق والمنطقة العربية منذ العصر الحديث، لكن آفاقه ارتقت في القرن التاسع عشر بشكل ملحوظ مع تزايد عوامل التفاعل بين الروس والمسلمين والعرب خاصة في مجالات الثقافة والسياحة والزيارات والمصالح الاقتصادية والبعثات الدراسية.

وظهرت كتابات من مستشرقين روس أمثال بيرسفيثون وبويوشوكوف وكوسويوكيوفليير وبوشكين وغوغولوبيساريف وكراتشوفسكي صاحب كتاب (تاريخ الأدب الجغرافي عند العرب). وقد حاول هؤلاء المستشرقون دراسة التاريخ العربي والدفاع عنه تجاه الهجمة المركزية الأوروبية الغربية في كتابة التاريخ الجغرافي العربي الأوسع، وتأكيد المكانة الرائعة للحضارة العربية في تاريخ البشرية. في حين ظهرت مدرسة استشراقية سوفييتية تندرج ضمن جهود المدرسة الاستعمارية الاستعلائية فيها فرين وساخالييف وفولكوف وبتغولييف وكورشور ومالوفوماشانوف ممن لهم مكانة مرموقة في عالم الاستشراق الروسي والأوروبي.

وبهذا فإن الاستشراق الروسي شرقي في نزعته، وأقرب إلى الأنصاف والبحث عن الحقيقة على أساس أن السياسة الروسية لامصالح استعمارية لها في العالم الإسلامي والوطن العربي ولكن الحقيقة بأن الاستشراق الروسي لم يصل إلى مرحلة النضج والعمق في التحليل والدراسة وبناء المدرسة الاستشراقية كما كانت في الغرب ولا تزال إلى الآن خاصة في إنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة.

5- الاستشراق الألماني

تختلف ظروف الاستشراق الألماني عن سواه من الاستشراق الأوروبي أو الأمريكي لأنه بالأساس لا يحتوي على ماض استعماري ثم موقفه من الدول العربية إلى جانب كراهية ألمانيا في بريطانيا وفرنسا في مرحلة الحرب العالمية الثانية التي حددت مواقف بعض المستشرقين من الاهتمام بالقضايا الإسلامية والعربية فيما بعد.

والاستشراق الألماني ليس فيه حيادي، البعض مع العرب والآخر ضدهم، فقد قام المستشرقون الألمان بالاهتمام بالمخطوطات وتحقيق قسم منها ووضع الكتب أمثال فلوجيل وإيفالد فاغنر. إلا أن أشهر المستشرقين الألمان هو من درس الأدب العربي في كتابه الشهير (تاريخ الأدب العربي) وهو كارل بروكلمان رغم بعض السلبيات التي أثيرت حوله. وهناك إنجازات ألمانية أخرى منها تأليف هانزفير العربي-الألماني كمعجم وظهور مركز ومعاهد لتعليم اللغة العربية ومعاهد استشراقية وترجمات من اللغة الألمانية لدراسة الأدب، لكنها وفق نظرة ذاتية تحاول نقل صورة غير صحيحة عن الاضطهاد والطعن بالإسلام والموقف الإسلامي من المرأة.

وظهرت مجلات عدة تهتم بالآداب العربية والإسلامية ومن أهمها (عالم الإسلام) للمستشرق شنيفان فشيلد تهتم بالتراث والحداثة في الإسلام ومجلة (المشرق) يترأسها أودوشتاين باخ تعنى بالأمور المعاصرة من العالم الإسلامي، ويمكن التعرف إلى أبرز الاتجاهات الاستشراقية في ألمانيا من خلال ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الأول، المهتمون بالتراث العربي الإسلامي حققوا ودرسوا وألفوا فيه منذ سنوات عدة أبرزهم بروكلمان وفرايتاغ وروكرت وسيمون فايل ومارتن هارتمان وأوغست فيشر ونولدكه وآدم ميتز وآنا ماري شيمد الحاصلة على جائزة السلام عام 1995 من رابطة دور النشر الألمانية.

والاتجاه الثاني، هم من المستشرقين في اختصاص التراث لا سيما أعضاء جمعية المستشرقين الألمان تأسست في عام 1845 وعقدت في نهاية عام 1998 مؤتمرها السابع والعشرين في بون بمشاركة 1500 عضو، وظهر من خلال هذا التوجه أعضاء شباب جدد يدعون إلى التجديد في الاستشراق، فضلاً عن الجيل الأول من هذا الاتجاه وهو فيلد ونويفيرت وفالتر ومونكا ومولبورك وكريمر وغيرهم.

والاتجاه الثالث، هو الاستشراق المعاصر الذي يهتم بالشرق الأوسط المعاصر من خلال (جماعة الاستشراق الألماني المعاصر دافو) التي تأسست عام 1994 في هامبورغ برئاسة أودوشتاين باخ، وتضم نحو500 عضو وعقدت مؤتمرها الخامس في نهاية عام 1988 ولها اهتمامات جديدة بعيداً عن الاتجاه الاستشراقي التقليدي مثل قضايا السياسة والدراسات الاجتماعية للبلدان الإسلامية والروابط الاقتصادية والنظم السياسية والعلاقات معها في الشرق وجغرافية العمران والإعلام، وتبتعد عن الاهتمام بالتراث نحو القضايا المعاصرة.

وهكذا فإن الاستشراق الألماني رغم قدمه منذ القرن الثاني عشر الميلادي إلا أن البداية الحقيقية تعود إلى عهد قريب، ونضج على أيدي كبار المستشرقين المهتمين بالفلسفة الإسلامية والشريعة والفلك والنحو والمعاجم، ولذلك فإن الجيل الجديد من المستشرقين باتوا غير مهتمين بالتراث بل بالقضايا المعاصرة في الشرق. ويبقى الاستشراق الألماني بمعزل عن الاستشراق الأمريكي والبريطاني والفرنسي له اتجاهاته ولم يتأثر بالتيارات المعادية للعرب والمسلمين في أوروبا والولايات المتحدة وأكثر إنصافاً وموضوعية تجاه الحضارة العربية الإسلامية.

ويكفي الإشارة إلى أدب غوته وتأثيراته الاستشراقية التي فتحت المجال أمام كتابات مستشرقين ألمان جدد وترجمة كتب عن الشرق العربي الإسلامي إلى الألمانية ودراسة الآداب العربية وخاصة خلال القرن العشرين، ويعتبر غوته أديباً وكاتباً مميزاً في الاستشراق الألماني والأدب الأوروبي.

الاستشراق: رؤية منهجية

خلاصة الأمر أن الاستشراق هو مظهر من مظاهر صلة الغرب بالشرق بلا شك، وهو نتاج طبيعي لهذه الصلة، لذلك فإن التنوع بين صلات الشرق بالغرب فرض تنوعاً في اتجاهات الاستشراق عبر المراحل التاريخية وخاصة في القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فظهر هناك استشراق سياسي يعبر عن مصالح الغرب السياسية الكولونيالية، واستشراق ديني يترجم دوافع التبشير، واستشراق أدبي يستلهم فيه بعض الأدباء سحر الشرق وغرائبيته، واستشراق أكاديمي جعل المعرفة همه الأساسي، ولذلك فإن أية محاولة من لدن المؤرخين لنقد الاستشراق ودراسته العلمية لا بد أن تأخذ في الاعتبار هذه الحقائق.

والمسألة الأخرى عند دراسة الاستشراق بعين تاريخية هي أن الموقف من الغرب أوجد أنماطاً متباينة من نقد الاستشراق، وأن الموقف من الاستشراق بواقع الحال هو الذي يحدد الموقف من صاحب الاستشراق ونقصد به الغرب ومستشرقيه. لذلك فبقدر تنوع الصلات والموقف من الغرب تنوعت المدارس الاستشراقية والمناهج التي تتباين في اتجاهاتها ونقدها للاستشراق، ويبدو أن السير وفق هذا المنهج أو ذاك أمر لا يحدده الهدف أو الغاية من العمل بقدر ما يحدده انتماء أصحابه لهذا الاتجاه أو سواه، وبهذا فإن المؤرخ العربي الاستشراقي يجب عليه في كل الأحوال ألا يبتعد عن الثوابت الإسلامية والحقائق التاريخية في الحضارة والتاريخ العربي الإسلامي مهما جذبته المادة الفكرية في الدراسات الغربية ورؤى المستشرقين لكي لا يذهب بعيداً وراء أفكار وتحليلات لآخرين لديهم قناعاتهم الذاتية ومزاجهم السياسي وميولهم الأدبية والفكرية والتي لا تتفق في غالب الأحيان مع الحقيقة التاريخية التي لا يمكن تغييرها حسب الأمزجة والأغراض السياسية.

مجلة آراء حول الخليج