array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 188

مرحلة ما بعد الانطلاقة تتطلب: إنشاء هيئة عليا ومركز تفكير للقوة الناعمة ودراساتها

الأحد، 30 تموز/يوليو 2023

لا شك أن هناك العديد من النماذج المميزة واللافتة لتوظيف الدول لمصادر دبلوماسيتها وقوتها الناعمة، غير أن النموذج السعودي لتوظيف القوة الناعمة يعتبر في رأيي أحد أكثر النماذج الراهنة على الساحة الدولية تميزًا وفرادة، وذلك من حيث ظروف انطلاقته، وثراء وتنوع مصادره، والتحديات التي واجهته وتواجهه.

مصطلح الدبلوماسية العامة الذي يعني "التواصل مع الشعوب لأجل تحقيق أهداف السياسة الخارجية، عبر توظيف مصادر القوة الناعمة للبلد"، هو مصطلح جديد نسبيًا بشكل عام، ولم يبدأ في الانتشار في السعودية إلا قبل سنوات ليست طويلة. وشهد عام2017م، قيام وزارة الخارجية السعودية بتأسيس وكالة متخصصة باسم "وكالة الوزارة لشؤون الدبلوماسية العامة". وبالرغم من حداثة هذا المفهوم في المملكة، إلا أن كثيرًا من الأنشطة والممارسات التي كانت تتم على مدى سنوات وحتى عقود ماضية، هي في واقع الأمر عبارة عن أنشطة دبلوماسية عامة حتى وإن لم تكن تسمى بذلك حينها، ولعل أحد أبرز تلك الأنشطة وأكثرها التصاقًا بالذاكرة هو "معرض المملكة بين الأمس واليوم" والذي بدأت فكرته عام١٩٨٥م،  تحت اسم "معرض الرياض بين الأمس واليوم"، والذي أقيم في مدينة كولون بألمانيا بتأييد من الملك سلمان بن عبدالعزيز (حفظه الله) حينما كان أميرًا للرياض، ‏وقد احتوى المعرض على مجسمات تحكي النهضة الحضارية التي شهدتها المملكة في كافة المجالات، وصورًا للمشاريع الرئيسة، وعددًا من أفلام الفيديو والشرائح والمطبوعات التي تروي قصة التطور في المملكة. وفي عام 1991م، تم افتتاح المعرض في مدينة مونتريال بكندا من قبل الملك سلمان "أمير الرياض آنذاك"، ورئيس مجلس الشيوخ الكندي جاك شاربونو، وبلغ عدد زواره 637 ألف زائر ‏من الشعب الكندي والجاليات العربية والأجنبية. ‏وبالإضافة إلى هذا المعرض، كانت هناك دوماً أنشطة وممارسات أخرى منها على سبيل المثال تبادل الوفود والزيارات الشبابية والتعليمية والبرلمانية، والمشاركة في المعارض والمنتديات والمؤتمرات الخارجية والفعاليات الرياضية، واستضافة بعضها في المملكة، كما أن ‏المملكة لم‏ تتوقف يومًا عن المساهمة بسخاء في تقديم المساعدات الإنمائية والإغاثية لمختلف دول العالم المحتاجة.

صحوة عملاق القوة الناعمة السعودية

وبالرغم من كل ما سبق من أنشطة وفعاليات، إلا أننا لا نبالغ عندما نقول بأن القوة الناعمة السعودية ظلت لحوالي أربعة عقود تعمل بالحد الأدنى من قوتها، بشكل لا يتناسب أبدأ مع مكانة المملكة العربية السعودية، وما تمتلكه من كنوز قوة ناعمة ضخمة، ناهيك عما تعرضت له من تحديات ومخاطر طوال تلك الفترة الزمنية، والتي كانت فيها في أمس الحاجة لكل دعم ومساندة لمواقفها، وتعزيز لصورتها. 

‏فالمملكة باعتبارها مهبط الوحي وأرض الحرمين الشريفين وقلب العالم الإسلامي، تأثرت كثيرًا نتيجة لما يسمى بفترة الصحوة التي اتسمت بالتشدد الديني الراغب في صبغ المجتمع عن بكرة أبيه بلون واحد لا يقبل سواه، ‏ومن الطبيعي أن يؤدي مثل هذا التوجه إلى خلق حالة من النفور لدى ‏الكثيرين، بشكل ينتج عنه خسارة المملكة لجزء هام لا يستهان به من جاذبيتها الدينية وقدرتها على التأثير. لقد شاهدنا ذلك التزمت الديني من خلال المبالغة في تحريم الكثير من الأمور، من وسائل الترفيه إلى الفنون والمسرح وتمكين المرأة، والمطالبة بتحريم ‏دراسة بعض التخصصات مثل الفلسفة، ووصف كل من يخرج عن هذا التفكير بالعلماني والليبرالي. ‏وقد كان الثمن الذي تم دفعه باهظًا لأنه ظل ينخر بصمت في القوة الناعمة للمملكة العربية السعودية، ومن ذلك قوتها العميقة وذات الجذور الراسخة بكونها قلب العالم الإسلامي ومهبط الوحي وأرض الحرمين الشريفين التي يتجه نحوها يوميًا للصلاة أكثر من مليار ونصف المليار مسلم، وتستقبل سنويًا ملايين المسلمين من حجاج ومعتمرين.

‏أما كنز التنوع البيئي والثقافي والتراثي الذي تتمتع به المملكة فكان أحد أكبر ضحايا تلك المرحلة، حيث تم حجب كثيرًا من عناصره، أو تقزيمها إلى درجة أفقدتها كثيرًا من قيمتها كقوة ناعمة جاذبة، تتيح للعالم -بل وحتى للسعوديين أنفسهم- رؤية هذا الوجه جميل الملامح الذي تتمتع به بلادنا، من جبال خضراء وهضاب وسواحل ساحرة، وصحاري بديعة، وتنوع مناخي على مدار العام نتيجة للمساحة الشاسعة للمملكة واختلاف طقس كل منطقة من مناطقها عن الأخرى صيفًا وشتاءً وربيعًا. ‏يضاف إلى كل ذلك، كنز التنوع التراثي والثقافي الذي تتمتع به مناطق المملكة ويشمل ذلك اللهجات والملابس والمأكولات والرقصات الشعبية، كما يشمل كنوز الآثار التاريخية الموجودة في كل منطقة والتي لم يكن بالإمكان زيارتها وفتحها للعالم لرؤيتها، فتكون من ناحية معالم سياحية تعود بالفائدة على البلد، ومن ناحية أخرى تتيح للعالم رؤية هذه الآثار التي تعبر عن تاريخ الأرض التي نحيا عليها والحضارة العميقة التي تتمتع بها. ‏التحجيم والتقزيم طال أيضًا خلال ما يسمى بفترة الصحوة الكثير ‏من أوجه الأدب والفنون، والتي طالتها الملاحقة وتصويرها بالمنكرات ونعت ممارسها بالفساد والانحراف.

ثمن الغياب.. ملامحنا الجميلة التي لم يرها العالم

‏ يمكن القول بأن الثمن الذي دفعته المملكة نتيجة لغياب وتحجيم الكثير من مصادر قوتها الناعمة لما يقارب 40 سنة، بأنه كان ثمنًا باهظًا. فعلى سبيل المثال، فإن الثقافة والآثار والأدب والفنون والمسرح والموسيقى بكافة أشكالها هي من ملامح المجتمعات الجميلة التي تتحدث لغة واحدة مفهومة من قبل جميع شعوب العالم دون الحاجة إلى مترجم، وهي تمنح تلك الشعوب الإحساس بأننا نتشارك معهم في كثير من السمات الإنسانية. وحجب تلك الملامح أو تقزيمها يجعل الآخر ينظر إلينا وكأننا من كوكب مختلف، بشكل يفقدنا تعاطفه وكسب مشاعره الودية، ويجعله دائم الحذر والتوجس منا.

من ناحية أخرى، وفي ظل ثورة المعلومات التي جعلت العالم قرية صغيرة، فإن عدم تمكن شعوب العالم لعقود طويلة من رؤية ملامحنا الجميلة، جعلهم أكثر قبولًا لتصديق أي حملات تشويه تقوم بها أطراف معادية، وأعطى تلك الحملات تأثيرًا ومصداقية أكبر، ومكنها من ‏رسم وجهنا الذي أخفيناه عن العالم بالشكل الذي يريدون، وهو غالبًا ما يكون وجهًا مشوهًا ومخيفًا.  ومع مثول هذا الوجه وهذه الصورة غير الحقيقية أمام الناس لسنوات طويلة متتالية، فإنها تَترسخ في أذهانهم بشكل يصعب تغييره. ‏وما تكرارنا المستمر لعبارات من قبيل "إنهم يكرهوننا"، "إنهم لا يفهموننا"، "إنهم يعادون ثقافتنا ويريدون تدميرها"، إلا انعكاسًا لتلك الصورة التي ساهمنا نحن أنفسنا في نقشها في أذهان الآخرين، عبر إخفاء وجهنا وملامحنا الجميلة عن العالم لعقود طويلة.

رؤية 2030.. تاريخ ميلاد الدبلوماسية العامة السعودية

من المنصف القول بأن إطلاق رؤية 2030 يمثل عيد ميلاد الدبلوماسية العامة السعودية، ورّد الاعتبار إلى قوتها الناعمة بعد غياب أو تحجيم لعدة عقود، ‏بشكل توقفت معه كثيرًا من جوانبها عن النمو بصورة شبه كاملة مثلما هو الحال مع الآثار التاريخية التي تم إغلاقها أو حتى تدمير بعضها، ‏أو أنه تم تقزيم جوانب أخرى منها، كما هو الحال مثلاً مع الفنون والموسيقى والمسرح، وغيرها. ‏

هذه الرؤية حررت مصادر القوة الناعمة السعودية من القيود التي كبلتها أو أعاقتها عن الحركة لمدة طويلة، ليس هذا فحسب، بل وفرت لها كل الدعم والإمكانات اللازمة التي تمكنها من التحليق والانطلاق بسرعة 300 كيلومتر في الساعة، حارقة معها المراحل بغية اللحاق بالركب وتعويض ما فاتنا في أقصر وقت ممكن. رؤية أحد ركائزها الأساسية الانفتاح على العالم لتوفير بيئة جاذبة للاستثمار والسياحة، وكل ما من شأنه تنويع مصادر الدخل، ونشر قيم التسامح والاعتدال.

فمنذ الإعلان عن تدشين الرؤية في 25 أبريل 2016م، بدأت المهمة الأصعب ضمن قائمة مهامها الكبيرة، ألا وهي مهمة التغيير الثقافي للمجتمع السعودي بعد أن طاله ما طاله على مدى عقود، فتغيير ما طال المجتمع من ثقافة سلبية مترسخة بعد كل تلك السنوات، هو أمر ليس بالسهل ‏ويتطلب الكثير من الوقت والجهد. لذلك عندما سئل الأمير محمد بن سلمان في لقائه مع برنامج 60 دقيقة الأمريكي، عن أصعب التحديات التي يواجهها لتنفيذ رؤية 2030، كانت إجابته هي "‏أن يؤمن الناس بما نقوم به". ‏ومن أجل ذلك قطعت الرؤية على ‏موقعها الرسمي، الوعد التالي المتعلق بالثقافة:

"تعدّ الثقافة والترفيه من مقومات جودة الحياة، وندرك أن الفرص الثقافية والترفيهية المتوافرة حالياً لا ترتقي إلى تطلعات المواطنين والمقيمين، ولا تتلاءم مع الوضع الاقتصادي المزدهر الذي نعيشه؛ لذلك سندعم جهود المناطق والمحافظات والقطاعين غير الربحي والخاص في إقامة المهرجانات والفعاليات، ونفعّل دور الصناديق الحكومية في المساهمة في تأسيس وتطوير المراكز الترفيهية ليتمكن المواطنون والمقيمون من استثمار ما لديهم من طاقات ومواهب. وسنشجع المستثمرين من الداخل والخارج، ونعقد الشراكات مع شركات الترفيه العالمية، ونخصص الأراضي المناسبة لإقامة المشروعات الثقافية والترفيهية من مكتبات ومتاحف وفنون وغيرها، وسندعم الموهوبين من الكتّاب والمؤلفين والمخرجين، ونعمل على دعم إيجاد خيارات ثقافية وترفيهية متنوّعة تتناسب مع الأذواق والفئات كافّة، ولن يقتصر دور هذه المشروعات على الجانب الثقافي والترفيهي، بل ستلعب دوراً اقتصادياً مهمّاً من خلال توفير العديد من فرص العمل".

‏نتائج كل ذلك أصبحت اليوم ملموسة وواضحة للعيان ويصعب حصرها، ومن أبرز ما تم بهذا الخصوص، إطلاق الاستراتيجية الوطنية للثقافة في 27 مارس 2019م، والتي ترتكز على إعطاء صوت جديد للثقافة السعودية ‏وتعزيز هويتها وحفظ إرثها الحضاري وتطوير القطاع الثقافي بشكل يساعد المبدع على صناعة منتج ثقافي يليق بمكانة وقيمة المملكة العربية السعودية.  ‏وتعتمد رؤية وزارة الثقافة الجديدة على ثلاثة أهداف رئيسة، هي: ‏تعزيز حضور الثقافة في المجتمع لتصبح نمط حياة، وتطوير المواقع الثقافية واستثمارها كمحرك للنمو الاقتصادي الوطني، وخلق فرص للتبادل الثقافي الدولي.

‏كما تحدد الرؤية الجديدة لوزارة الثقافة 16 قطاعًا، تم اختيارها باستخدام إطار اليونسكو، وهي تغطي مجموعة متنوعة من الجوانب الثقافية، منها العمارة والتصميم الداخلي، الكتب والنشر، التراث، الأزياء، المهرجانات والفعاليات، الأفلام والفنون المرئية، ‏الطعام وفنون الطهي، المكتبات، المتاحف، الموسيقى، التراث الطبيعي، الفنون الأدائية، الشعر، الفنون البصرية.

‏يضاف إلى ذلك على صعيد آخر، العديد من القرارات والبرامج الهامة، مثل برنامج خدمة ضيوف الرحمن وهو أحد برامج رؤية السعودية 2030 والذي أطلقه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في مايو 2019م. ويتمثل دور البرنامج في إتاحة الفرصة لأكبر عدد ممكن من المسلمين لأداء فريضتي الحج والعمرة على أكمل وجه، والعمل على إثراء وتعميق تجربتهم، من خلال تهيئة الحرمين الشريفين، وتحقيق رسالة الإسلام العالمية، وتهيئة المواقع السياحية والثقافية، وإتاحة أفضل الخدمات قبل وأثناء وبعد زيارتهم لمكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة، وعكس الصورة المشرِّفة والحضارية للمملكة في خدمة الحرمين الشريفين وضيوف الرحمن. ويشارك في تنفيذه أكثر من 32 جهة حكومية بالإضافة الى مئات الجهات من القطاع الخاص. ومن مبادرات هذا البرنامج، مبادرة طريق مكة التي تم إطلاقها عام 2017م، وتهدف إلى تيسير رحلة الحجاج من خلال إنهاء إجراءات الجوازات والجمارك والاشتراطات الصحية وفرز وتمرير الأمتعة في مطارات بلدانهم.

‏والجدير بالذكر أن هناك العديد من القرارات التاريخية الهامة التي ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تعزيز الدبلوماسية العامة السعودية، وفي تعزيز صورة المملكة وسمعتها، ومن ضمن ذلك، القرارات المختلفة الخاصة بتمكين المرأة، وهي قرارات تحدث عنها سمو ولي العهد في وسائل الإعلام قبل صدورها بفترة زمنية، حيث كانت محل دراسة وبحث عميقين من أجل أن يكون التطوير بما يتفق مع ثقافة المجتمع وعاداته، وهو ما نراه يتحقق يومًا بعد يوم بخطى ثابتة ومتسارعة. ‏تلك القرارات الخاصة بتمكين المرأة كانت دون شك داعم قوي للدبلوماسية العامة السعودية ولقوتها الناعمة. 

وبالنسبة للسياحة، فقد فتحت السعودية أبوابها اعتبارًا من سبتمبر 2019م، للزوار من مختلف أنحاء العالم عبر نظام التأشيرة الإلكترونية المخصصة لأنشطة السياحة والعمرة. وذكرت صحيفة "بلومبرغ" بأن الحكومة تعهدت بتطوير السياحة كجزء من خطة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان للتحول الاقتصادي، حيث يؤكد المسؤولون بأنه قطاع واعد يمكن أن يساعد في جذب أموال السياحة السعودية إلى داخل المملكة وجلب نوع جديد من الإنفاق الأجنبي. وتتضمن استراتيجية السياحة خططًا طموحة تشمل رفع مساهمة القطاع في الناتج المحلي إلى ما يزيد عن 10%، وتوفير مليون فرصة عمل إضافية، وجذب 100 مليون زيارة سنوية بحلول عام 2030. وتسير هذه الخطط بخطوات سريعة، ففي عام 2022م، بلغ عدد الزوار (داخليًا وخارجيًا) 93.5 مليون زائر، أنفقوا وفقًا للتصريحات الرسمية 49.3 مليار دولار.

وتمثل الرياضة مصدرًا هامًا من مصادر القوة الناعمة السعودية فائقة الجاذبية والتأثير، وهي تشهد تطورًا ونشاطًا كبيرًا في كافة النواحي، ومن ذلك على سبيل المثال استضافة العديد من الفعاليات الدولية الهامة مثل سباق الفورمولا إي، ورالي دكار، والسوبر الإسباني والسوبر الإيطالي، والاستحواذ على نادي نيوكاسل، وغيرها. وتم الإعلان مؤخرًا عن إطلاق مشروع الاستثمار والتخصيص للأندية الرياضية، والذي يأتي تحقيقًا لمستهدفات الرؤية في القطاع الرياضي، الرامية لتحقيق نتائج طموحة عديدة، من ضمنها تطوير كرة القدم، وذلك للوصول بالدوري السعودي لقائمة أفضل عشرة دوريات في العالم، وزيادة إيرادات رابطة دوري المحترفين، ورفع قيمته السوقية لأكثر من ثمانية مليارات ريال.

قوة ناعمة ذات أبعاد شمولية وإنسانية

وبجانب جميع ما سبق، توظف المملكة قوتها الناعمة القائمة على مكانتها كقائد للعالم العربي والإسلامي، وكلاعب محوري وأساسي على الساحة الدولية، وذلك لصياغة رؤى ومبادرات متقدمة ذات أبعاد شمولية تعود بالنفع للمنطقة العربية بكاملها، وليس للمملكة وحدها. فخلال رئاسة المملكة للقمة العربية 32 التي عقدت في مدينة جدة، حرصت على تبني العديد من المبادرات التنموية والاقتصادية والاجتماعية المستدامة التي ينتظر أن تستفيد منها الدول العربية على المديين المتوسط والطويل. وتزامنت هذه المبادرات مع نجاح المملكة اللافت في حسم العديد من الملفات العربية الشائكة ومن أبرزها عودة سوريا إلى الحضن العربي، والسعي لإيجاد حل للصراع في السودان، بالإضافة لخطوات تهدئة التوترات وتحسين العلاقات مع الدول الإقليمية، ومنها إيران وتركيا. ومن أمثلة تلك المبادرات التي من شأنها أن تسهم في الارتقاء بالعمل العربي المشترك ثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وبيئيًا، مبادرة استدامة سلاسل إمداد السلع الغذائية الأساسية لتوفير الأمن الغذائي للدول العربية، ومبادرة البحث والابتكار في صناعة تحلية المياه وحلولها، ومبادرة الثقافة والمستقبل الأخضر التي تهدف لرفع مستوى التزام القطاع الثقافي في الدول العربية تجاه أهداف التنمية المستدامة، والمساهمة في دعم الممارسات الثقافية الصديقة للبيئة وتوظيفها في دعم الاقتصاد الإبداعي في الدول العربية.

ولا يكتمل الحديث عن القوة الناعمة السعودية دون ذكر لقيام المملكة العربية السعودية على مدى عقود طويلة مضت بتقديم المساعدات الإنسانية والتنموية والخيرية بسخاء كبير إلى مختلف دول العالم المحتاجة دون تمييز بين لون أو دين أو عرق، حيث دأبت المملكة منذ أوائل خمسينات القرن الماضي على تقديم المساعدات لدعم الشعوب في الدول الهشة والتي تعاني من أزمات إنسانية، وتقديم القروض الميسرة والمنح للبلدان النامية منخفضة الدخل. فقد قدمت المملكة على مدى 70 عامًا مساعدات بقيمة 95 مليار دولار أمريكي، استفادت منها 160 دولة حول العالم. وتشير بيانات لجنة المساعدات الإنمائية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الصادرة في ديسمبر 2022م، إلى تصدُّر المملكة في تقديم المساعدات للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، حيث شكلت تلك المساعدات ما نسبته 1,05% من إجمالي الدخل القومي، وبذلك تكون المملكة قد تجاوزت بشكل ملحوظ الهدف الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في أن تخصص الدول المانحة نسبة 0,7% من دخلها القومي الإجمالي للمساعدات الإنمائية. ومن الأمثلة القريبة الأخرى لتلك المساعدات على سبيل المثال لا الحصر، التوجيه الملكي من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان بتسيير جسر جوي وتقديم المساعدات الطبية والإغاثية واللوجستية لمساعدة ضحايا الزلازل في تركيا وسوريا، وتنفيذ أكبر عملية إجلاء من السودان لآلاف الأشخاص المنتمين لحوالي 100 دولة شقيقة وصديقة.

ماذا بعد النهوض والانطلاق؟

مثّلت رؤية 2030 تاريخ ميلاد القوة الناعمة السعودية وانطلاقتها الفعلية بعد غياب وتحجيم لكثير من مصادر وكنوز تلك القوة امتد لقرابة أربعة عقود، وكانت تلك الانطلاقة متميزة بفكرها الراجح ونظرتها الحكيمة التي بدأت خطوتها الأكثر صعوبة من الداخل أولاً، وذلك بالعديد من الإجراءات والقرارات الحاسمة، وأهمها مهمة التغيير الثقافي للمجتمع السعودي بعد أن طاله ما طاله على مدى عقود من تغلغل الصحوة وفكرها المتشدد المقاوم للتغير والتطور، فتغيير ما طال المجتمع من ثقافة سلبية مترسخة بعد كل تلك السنوات، هو قطعًا أمر ليس بالسهل ‏ويتطلب الكثير من الوقت والجهد. ولم يطل الوقت حتى بدأت ملامح القوة الناعمة السعودية تتجلى وتبرز بقوة لافتة في كافة المجالات: الثقافة، الفنون، الرياضة، التعليم، السياحة، الطاقة.. إضافة للنشاط الدبلوماسي والاقتصادي غير المسبوق على الساحة الدولية.

وفي رأيي، فإن المرحلة التالية لما بعد هذه الانطلاقة القوية التي شاركت فيها العديد من الجهات ومنها وزارات: الخارجية، الثقافة، الإعلام، السياحة، الرياضة، الشؤون الإسلامية، مجلس الشورى، وغيرها، هي مرحلة تتطلب أمرين ضروريين: الأول، إنشاء هيئة عليا للدبلوماسية العامة (القوة الناعمة) تعمل على تنسيق كافة تلك الجهود تحت مظلة واحدة، بشكل يضمن التناغم ورسم الأولويات، وتقييم الأداء، وتجنب الازدواجية والهدر، وتحقيق أكبر قدر ممكن من التأثير.

أما الأمر الهام الثاني، فهو إنشاء مركز تفكير متخصص في شؤون القوة الناعمة ودراساتها، يساهم في دعم تلك المجهودات الضخمة التي تشهدها المملكة في هذا المجال، حيث أن حقل الدبلوماسية العامة والقوة الناعمة لا زال يشهد كثيرًا من التغيرات والتطورات المستمرة، ومن ثم فإن ممارساته ينبغي أن تقوم دومًا على أسس علمية وبحوث وخطط للتطوير، ومعايير واضحة للتقييم واستشراف المستقبل ودراسات التغيير.


مقالات لنفس الكاتب