array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

عندما "ترتكس" الحضارة تعود ظاهرة القرصنة

الأحد، 01 شباط/فبراير 2009

من مفارقات مطلع هذا القرن الحادي والعشرين ـ ومفارقاته في الواقع تتتابع منذ بدايته والظاهر أنها تتجه نحو التنامي يوماً بعد يوم ـ أن ظواهر عديدة، كان الكثيرون يحسبون أنها أضحت أثراً من الماضي لا سبيل لعودته إلى حياة الناس ولا وجه لعودة بعض الناس إليه، بدأت تحتل موقعاً متميزاً على صدر الصفحات الأولى من الجرائد وفي مطالع نشرات الأخبار المرئية والمسموعة.

كانت إحدى هذه الظواهر المستجدة مؤخراً، والتي تنم عن تنامي النزوع نحو الفوضى والخروج على مقتضيات النظام، هي ظاهرة القرصنة التي كان الناس إلى وقت قريب يحسبون أنه لم يعد لها وجود خارج أذهان كتاب صنف معين من الروايات وسيناريوهات الأفلام، فإذا هي تعود إلى واجهة الأحداث لتعيد الجميع إلى واقع يشهد على هشاشة التنظيمات الاجتماعية والسياسية الحديثة وضعف قدرتها على ضبط نزعة السطو وعجز سلطان القانون والسلاح معاً عن قمع غريزة السعي إلى وضع اليد على نصيب مما في أيدي الآخرين، تلك الغريزة التي لم تزل تحكم سلوك بعض الناس منذ القدم.

وتتوالى منذ أشهر عديدة أنباء الهجمات التي تشنها مجموعات من القراصنة انطلاقاً من البر الصومالي. تلك الهجمات التي بدأت باختطاف سفن صيد وسفن تجارية أوروبية وشملت اختطاف باخرة أوكرانية محملة بالأسلحة، وامتدت أخيراً لتطال ناقلة نفط سعودية، كشفت عن المردود الاقتصادي الذي يبدو أن هذا النشاط بات يدره على ممارسيه ما شجعهم ووفر لهم الوسائل اللازمة لتنفيذ المزيد من العمليات بقدر أكبر من الجرأة والفاعلية في ظل عجز الأساطيل الغربية التي تمخر مياه المنطقة عن توفير الحماية للسفن التي تجوبها وتقصير المجتمع الدولي في مساعدة الصومال على الخروج من حالة الفوضى التي يعيشها منذ نحو عقدين، وهي الحالة التي تمثل السبب الأول لانتشار هذه الظاهرة الخطيرة.

إن الأحداث التي تدور الآن في مياه المحيط الهندي ليس من الوارد استبعاد أن تمتد قريباً إلى بحار وصحارى أخرى وربما تبرز ظواهر شبيهة في المحطات والمطارات وعلى الطرق السيّارة في مناطق أقل تصحراً وأكثر ارتباطاً بمظاهر (الحضارة)، ذلك أن الأسباب التي أنتجت الأوضاع الراهنة في القرن الإفريقي لا يعدم المرء لها مثيلاً في بقاع عديدة من العالم، حيث تستعر الحروب الأهلية، ويتفاقم ضعف سلطان الدولة، ويتنامى نفوذ العصابات وشركات الخدمات الأمنية، وتحاك المؤامرات حول مواقع النفوذ والمصالح. وهي نفسها العوامل التي أدت إلى حالة الفوضى التي تغذي الآن ظاهرة القرصنة التي استشرت قرب سواحل الصومال المفكك الأوصال المنهك بالصراعات العبثية والاقتتال المدمر.

إن ظاهرة القرصنة إذن لا تمثل المظهر الوحيد لنكوص الإنسانية، في هذا الطور المتقدم من أطوار نهضتها المادية والتنظيمية، عن القيم الأساسية للحضارة والتعايش السلمي بين البشر، فهي تندرج ضمن سلسلة من الظواهر تبدأ باللجوء الواسع إلى استخدام المرتزقة وانتشار الصراعات والحروب على أسس عرقية وطائفية ولا تنتهي بتسويغ الحروب الوقائية والعدوان على الشعوب والجماعات وانتهاك حرمة أرواحها وسيادة بلدانها تحت ذريعة مكافحة الإرهاب أو نشر قيم الحرية. وكلها نزعات تكشف عن ارتكاس في القيم من شأنه إذا اطرد على النحو الحاصل الآن أن يحمل البشرية إلى مستقبل أشبه ما يكون بأحلك فترات ماضيها وأكثرها تعبيراً عن حالة الجهل والتخلف.

المجتمع الدولي قصّر في مساعدة الصومال في الخروج من حالة الفوضى التي يعيشها 

لقد كان دانيال ديفوي على حق عندما أكد في مطلع القرن الثامن عشر في كتابه التاريخالعامللقراصنة أن المقاتلين البحريين زمن الحروب هم بذرة القراصنة أيام السلم، معتبراً أنه حيث إن (العادة تمثل طبعاً مضافاً فلا غرابة أن يلجأ الإنسان عندما تضيق أمامه سبل العيش الكريم إلى تحصيل رزقه باستخدام وسائل تشبه تلك التي كان قد اعتاد عليها). ومن يتابع مشاهد الحروب الأهلية في إفريقيا وآسيا وتصاعد نفوذ الجماعات المسلحة في أمريكا اللاتينية واللجوء المتزايد من طرف القوى العظمى إلى التعاقد مع الشركات الأمنية الخاصة التي يمثل المرتزقة قوامها وإقحام هذه القوى لجيوشها في حروب احتلال وهيمنة لا مبرر لها من قانون أو أخلاق، يدرك من ذلك كله حجم المخاطر التي تتربص بالمجتمعات مستقبلاً عندما تنتهي المهمات الحالية لهذه الجيوش الجرارة المؤلفة من أناس لم يعرفوا لأنفسهم مهنة غير القتل ولا دوراً سوى التدمير.

لم تكن القرصنة في يوم من الأيام ممارسة على تلك الصورة من الرومانسية التي حاول أن يرسمها (ستيفنسون) عبر شخصية القرصان الكاريبي الأعرج جون لونغ سيلفر في رواية جزيرة الكنز، وقد لا يكون في عالم القرصنة الحقيقي أي ظل من شخصية الأمير ساندوكان ذلك المقاوم الأسطوري الذي تحدث عنه اميليو سالجاري في رواية (نمر ماليزيا). لكن يمكن القول بالقدر نفسه من اليقين إن القرصنة، على ما تحيل إليه من معاني الخسة والسقوط إلى درك اللصوصية، ليس من الوارد اعتبارها أشد بشاعة من كثير من الممارسات التي تهيئ المناخ الملائم لنشأة هذه الظاهرة، وفي مقدمة تلك الممارسات تكالب الأمم القوية على الضعيفة وجور بعضها على بعض وتوفير أسباب تردي الشعوب المغلوبة على أمرها في مهاوي الفتن العمياء وانزلاقها نحو الفوضى.. وكلها تمثل سمات لما يبدو أن البعض يريد أن يسوق إليه البشرية في قابل أيامها.

إننا حين نصرف أنفسنا عن متعة مطالعة تلك الروايات الرائعة فعلاً لنتابع أنباء الهجمات المتتالية للقراصنة الصوماليين، ونفتح عيوننا على واقع القرصنة بكل ما تعنيه من ردة عن الحضارة وارتكاس إلى مظاهر بدائية من صراع الإنسان ضد أخيه الإنسان، يجب أن نتذكر دائماً ونحن نشمئز من فعال القراصنة، ونشفق على ضحاياهم أنهم ليسوا وحدهم رمز الوحشية في هذا العالم الذي يراد له أن يحث الخطى في اتجاه حكم شريعة الغاب. إن كل خطط مكافحة القرصنة ستمنى بالفشل ما لم تندرج ضمن توجه يسعى إلى وضع حد لهذا النزوع المتزايد نحو العدوان، ويعمل على تحقيق العدل وتأمين الاستقرار في بقاع معينة من العالم أراد لها البعض ألا تعرف غير الفوضى والاضطرابات. 

مقالات لنفس الكاتب