array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 148

سيناريوهان لعلاقات الطاقة : استمرار الوضع الحالي أو انسحاب واشنطن التدريجي

الأربعاء، 29 نيسان/أبريل 2020

يشكل التغير في ميزان الطاقة الأمريكي من دولة مستوردة إلى دولة مكتفية بمواردها الطاقوية، بل ومصدرة للطاقة، تحولاً استراتيجيًا مهمًا ليس فقط على صعيد الميزان العالمي للطاقة، وإنما أيضًا على صعيد السياسة الدولية، خصوصًا بالنسبة لعلاقات الولايات المتحدة مع دول مجلس التعاون الخليجي بشكل عام ومع المملكة العربية السعودية بشكل خاص. فمنذ بدء الاهتمام الأمريكي بمنطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، أواسط الخمسينات من القرن الماضي، كانت واردات الطاقة من النفط والغاز الطبيعي تشكل عاملاً مهمًا في هذا الاهتمام، على الأقل من وجهة نظر قطاع عريض من دوائر السياسة والأعمال الأمريكية والغربية، رغم أن اهتمام واشنطن بدول هذه المنطقة يتعدى الحصول على واردات الطاقة إلى قضايا سياسية واستراتيجية أخرى.

فإذا أخذنا بوجهة النظر هذه وافترضنا أن الطاقة كانت العامل الأساس في تحديد مسار العلاقات الأمريكية ـ الخليجية طوال العقود الماضية، يثير الاكتفاء الذاتي لواشنطن من الطاقة التساؤلين التاليين: هل ستتغير السياسة الأمريكية تجاه منطقة الخليج العربي مستقبلاً بعد "استقلالها الطاقوي" وزوال حاجة واشنطن لواردات الطاقة من هذه المنطقة خلال المدى المنظور؟ وكيف سيكون تأثير ذلك على مستقبل العلاقات الخليجية – الأمريكية بشكل عام والعلاقات السعودية – الأمريكية بشكل خاص؟

قبل الإجابة على هذين التساؤلين، ينبغي الإشارة إلى ثلاثة اعتبارات رئيسية، وهي:

1-   تعد الطاقة أحد الجوانب المهمة للغاية فيما يتعلق بالأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة. حيث يعتبر تأمين مصادر الطاقة بكميات كافية وبأسعار معقولة لكل المواطنين الأمريكيين في كافة أنحاء البلاد أمرًا أساسيًا للمحافظة على القوة الاقتصادية الأمريكية، التي تمكنها من لعب دور قيادي على مستوى العالم.

2-   تؤثر الطاقة على كافة مناحي الحياة الأمريكية، وخاصة السياسية، والتنموية، والأمنية، واستقرار البيئة، وبالتالي تلعب الطاقة دورًا محوريًا في تشكيل المصالح القومية الأمريكية، وفي رسم علاقاتها مع دول العالم الأخرى. وفي ضوء ذلك، كانت زيادة فرص الحصول على مصادر الطاقة وتأمينها، بأسعار معقولة، سواء للداخل الأمريكي أو للحلفاء في الخارج، من المصالح العليا للولايات المتحدة منذ فترة طويلة. كما كان تأمين الحصول على إمدادات مستقرة وآمنة من مصادر الطاقة عاملاً مهمًا في الاهتمام الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط منذ أواسط الخمسينات من القرن الماضي[1].   

3-   كان السعي إلى تحقيق الحلم الأمريكي في "الاكتفاء الطاقوي" نهجًا متبعًا في الولايات المتحدة منذ "صدمة البترول الأولى" أثناء حرب أكتوبر عام 1973م، ومنذ إعلان الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون عن برنامج "استقلال الطاقة" في 7 نوفمبر 1973م، للتقليل من الاعتماد على واردات الطاقة من منطقة الشرق الأوسط[2]. إلا أن هذا الحلم بدأ يأخذ مسارًا آخر بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية، وما أعقبها من تطورات سياسية واقتصادية ومالية، خاصة مع تنامي العجز المالي الأمريكي منذ عام 2008م، بسبب الارتفاع المهول في فاتورة واردات الطاقة بعد زيادة أسعار النفط العالمية إلى قرابة 150 دولارا للبرميل. فهذا العجز الكبير خلق نوعًا من التحدي لصانعي القرار في واشنطن من أجل تحقيق "الاكتفاء الطاقوي" والاستغناء عن الواردات من الخارج تمامًا، وليس من منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط فقط. وفي هذا السياق، قامت الإدارات الأمريكية المتعاقبة باتباع العديد من السياسيات الجديدة، منها تشجيع التقنيات الجديدة لاستخراج النفط والغاز الطبيعي، والحث على اكتشاف حقول نفط جديدة في الولايات المتحدة نفسها، ورفع الحظر عن بعض المحميات ومنح مناطق كبيرة للاستكشافات النفطية، والتي كان ممنوع فيها عمليات الاستكشافات في السابق، مما سمح باكتشاف حقول نفطية كبيرة في المياه الإقليمية للولايات المتحدة في خليج المكسيك وبالقرب من ولاية كاليفورنيا، وتكثيف الإنتاج من محميات ألاسكا، ومد خطوط أنابيب جديدة. كما زادت الاستثمارات في مشروعات الطاقة الجديدة والمتجددة بشكل ملحوظ.

وفي ضوء هذه الاعتبارات الثلاثة، نحاول في السطور التالية تفهم الوضع الحالي للطاقة في الولايات المتحدة، ثم نستعرض أهم التداعيات المحتملة "للاكتفاء الطاقوي " الأمريكي على مستقبل العلاقات الخليجية الأمريكية بشكل عام والعلاقات السعودية – الأمريكية بشكل خاص.

 

أولاً: حالة الطاقة الأمريكية

تحتل الولايات المتحدة موقعًا بارزًا على الخريطة العالمية للنفط والغاز الطبيعي، باعتبارها واحدة من أكبر الدول المنتجة والمستهلكة في العالم[3]. حيث أدت ثورة الزيت الصخري Shale revolution، التي تعتمد على تكنولوجيا التكسير الهيدروليكي Hydraulic Fracturing والحفر الأفقي، إلى زيادة غير مسبوقة في الإنتاج، مما جعل واشنطن أكبر منتج للنفط والغاز في العالم[4]. في عام 2018م، شكلت الولايات المتحدة 13 % من إجمالي الإنتاج العالمي من النفط الخام و20 في المائة من الغاز الطبيعي. وقفز إنتاجها من النفط الخام إلى 15.5 مليون برميل يوميًا، بزيادة ملحوظة بلغت 124 % مقارنة بعام 2008م. وفي نفس الفترة الزمنية (2008 – 2018م)، شهد الإنتاج الأمريكي من الغاز الطبيعي نموًا ملحوظًا، حيث ارتفع بنسبة 40 % ليصل إلى 760.4 مليار متر مكعب (الشكل-1).

 

الشكل -1: إجمالي إمدادات الطاقة الأولية حسب المصدر في الفترة من 1973 إلى 2018

 

وبفضل هذا النمو في إنتاج النفط الخام والغاز الطبيعي، حققت الولايات المتحدة درجة عالية للغاية من الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة. حيث بلغ الإنتاج المحلي الأمريكي من الطاقة حوالي 98 % من إجمالي إمدادات الطاقة الأولية Total Primary Energy Supply (TPES) في عام 2018م. ويسيطر الوقود الأحفوري بشدة على قطاع الطاقة الأمريكي. حيث يمثل النفط أكثر من ثلث إجمالي إمدادات الطاقة الأولية وحوالي نصف إجمالي الاستهلاك النهائي (TFC). بينما يعد الغاز الطبيعي ثاني أكبر مصدر للطاقة في الولايات المتحدة، حيث بلغ في عام 2018 حوالي 32 % من إجمالي إمدادات الطاقة الأولية و23 في المائة من إجمالي الاستهلاك النهائي في عام 2017م، حسبما يوضح (الشكل – 2).

الشكل -2: الإطار العام لمنظومة الطاقة الأمريكية من حيث الوقود والقطاعات في عام 2018

وفي ضوء ذلك، توقعت وكالة الطاقة الدولية في عام 2018م، أن تصبح الولايات المتحدة مصدرًا صافيًا للطاقة بحلول عام 2020 م، لأن نمو إنتاج النفط الخام والغاز الطبيعي وسوائل الغاز الطبيعي سوف يتجاوز الاستهلاك. وكانت آخر مرة تحقق فيها الولايات المتحدة وضع الدولة المصدرة الصافية للطاقة في عام 1953م، ويعزى هذا التحول المهم إلى التغير المتوقع في وضع الولايات المتحدة كمصدر صاف للمنتجات البترولية ابتداءً من عام 2020م، بعدما تحولت واشنطن إلى مصدر صافي للغاز الطبيعي منذ عام 2017م، (الشكل – 3).

الشكل-3: التجارة الأمريكية في النفط الخام والمنتجات النفطية في الفترة من 2000 إلى 2017

وفي هذا الصدد يشار إلى أن الاعتماد الأمريكي على استيراد النفط، كنسبة من إجمالي إمدادات الطاقة الأولية قد واصل الانخفاض من أكثر من 60 % إلى أقل من 20 % في العقد الماضي، حسبما يوضح (الشكل-4).

الشكل-4: نسبة الواردات في مصادر الطاقة المختلفة خلال الفترة من 1973 إلى 2018

ورغم التقدم الملموس في الإنجازات التي حققتها الولايات المتحدة في مجال الاكتفاء الذاتي من الطاقة، يتشكك عدد من المراقبين في التوقعات المتفائلة بشأن قدرة الولايات المتحدة على تحقيق "حلم الاكتفاء الطاقوي" الكامل في المدى المنظور، وبالتالي تخليها النهائي عن الاعتماد على واردات الطاقة من الخارج بشكل عام، ومن دول الخليج العربي بشكل خاص. ويرى هؤلاء أن تحقيق هذا "الحلم" على أرض الواقع ليس سوى "سراب"، خاصة وأنه ليس جديدًا وإنما ظهر منذ فترة طويلة. فصانعي القرار في واشنطن، منذ صدمة النفط الأولى خلال حرب أكتوبر 1973م، يبذلون مساع حثيثة ومستمرة لإيجاد بدائل عن الطاقة المستوردة من الخارج (تشمل الشمس والرياح والطاقة النووية وطاقات متجددة أخرى)، ولكن دون نجاح كبير، لسبب رئيس وهو ارتفاع تكلفة هذه البدائل مقارنة باستيراد النفط والغاز الطبيعي من الخارج. ومن جهة أخرى، يواجه الإنتاج الواسع للنفط المحكم والغاز الصخري في الولايات المتحدة تحديات كبيرة قد تمنع واشنطن من الوصول إلى الاكتفاء في مجال الطاقة في السنوات القادمة. ومن أهم هذه التحديات، على سبيل المثال، أنها تستخدم كميات كبيرة جدًا من المياه، وتلوث الأحواض الجوفية للمياه، وتتسبب في هزات أرضية مما يثير معارضة قوية من المنظمات البيئية ذات النفوذ المتزايد في الدوائر السياسية والإعلامية الأمريكية. ومن ناحية أخرى، لن يشجع الانخفاض الحالي في الأسعار العالمية للنفط الخام والغاز الطبيعي على إنتاج الغاز الصخري والنفط المحكم في الولايات المتحدة، خاصة بعد تباطؤ الاقتصاد العالمي في ظل انتشار فيروس كورونا منذ بداية عام 2020م، وفي هذا السياق، توجد العديد من التقديرات التي تشير إلى أن النطاق السعري المقبول لاستمرار ثورة إنتاج النفط المحكم والغاز الصخري في الولايات المتحدة يتراوح بين 44 و68 دولارًا لبرميل النفط الخام في السوق العالمية. وإلى جانب كل ذلك، يوجد تحد آخر لا يقل أهمية عما سبق، وهو ردود الفعل المحتملة من جانب الدول المصدرة للنفط إزاء زيادة إنتاج الغاز الصخري والنفط المحكم في الولايات المتحدة. حيث أوضحت منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)، وروسيا، بجلاء أنها تراقب الطفرة النفطية والغازية الأمريكية بتوجس. ويرى عدد من الخبراء أنه مع تزايد إنتاج الولايات المتحدة من النفط الخام والغاز الطبيعي، ستكون دول أوبك وروسيا مضطرة إما إلى تقييد النمو المتوقع في إنتاجها -سواء عن طريق تأجيل الاستثمار في طاقة إنتاجية جديدة أو وقف الطاقة الزائدة غير المستغلة-وإما إلى القبول بسعر أقل بكثير عما هو سائد حاليًا.

ثانيًا: التداعيات المحتملة "للاكتفاء الطاقوي" الأمريكي على مستقبل العلاقات الخليجية الأمريكية والعلاقات السعودية – الأمريكية

تبدو مسألة "الاستقلال الطاقوي" في الولايات المتحدة (بمعنى إلغاء الاعتماد على الواردات) واحدة من القضايا الأكثر تأثيرًا على مستقبل العلاقات الأمريكية ـ الخليجية. وأمام الشكوك المذكورة أعلاه في التوقعات المتفائلة بشأن قدرة الولايات المتحدة على تحقيق "الاكتفاء الطاقوي" في المدى المنظور، نجد أنفسنا أمام سيناريوهين محتملين لمستقبل العلاقات بين واشنطن والعواصم الخليجية.

السيناريو الأول يفترض بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، بمعنى أن واشنطن ستواصل، وإن كان بشكل أقل نسبيًا، الاعتماد على واردات الطاقة من الخارج بشكل عام، ومن دول الخليج العربي بشكل خاص. وفي ظل هذا السيناريو، سوف تستمر واشنطن، باعتبارها قوة عظمى تسعى إلى استقرار النظام العالمي، في جهودها السياسية والاقتصادية والعسكرية الراهنة للحفاظ على الأمن والاستقرار في منطقة الخليج العربي، وعلى تدفق واردات الطاقة منها إلى حلفائها في أوروبا وآسيا في المدى المنظور. ونتيجة لذلك، سوف ينشأ، على الأرجح، تعاونًا مكثفًا بين واشنطن ودول الخليج العربي، وفي مقدمتها السعودية، من أجل المساهمة بفعالية أكبر في حل عدد من الأزمات الإقليمية المعقدة، والتي يأتي في مقدمتها أزمة البرامج النووية والصاروخية لدى إيران وتدخل طهران في الشؤون الداخلية لدول الجوار، وحل القضية الفلسطينية، وتسوية الأزمة السورية، وإعادة الاستقرار إلى العراق، ومواجهة الإرهاب من جانب التنظيمات المتطرفة كالقاعدة وداعش.

ويعزز من هذا السيناريو (المتفائل) التنامي الملحوظ في علاقات التعاون السعودية الأمريكية منذ قدوم الرئيس ترامب إلى السلطة في عام 2017م، وهو الأمر الذي برز في العديد من المجالات مثل استمرار مبيعات الأسلحة الأمريكية، والتعاون الأمني المرتبط باليمن، والمواقف المشتركة تجاه إيران والتنظيمات الإرهابية المتطرفة مثل القاعدة وداعش[5]. وفي هذا السياق، اقترحت إدارة الرئيس ترامب على الكونجرس في مايو 2019م، بيع أسلحة إلى المملكة العربية السعودية بقيمة أكثر من 28 مليار دولار. كما يعزز من هذا السيناريو أيضًا أن واشنطن تدرك جيدًا من جانبها أهمية المملكة الاستراتيجية والسياسية نتيجة نفوذها العالمي الواسع وكونها منبع الدين الإسلامي الحنيف وبفضل إشرافها على الأماكن الإسلامية المقدسة في مكة والمدينة المنورة وبفضل احتياطات النفط الهائلة، التي تجعلها الأكبر عالميًا في هذا المجال. وتجاريًا، تعد المملكة العربية السعودية ثاني أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، بعد إسرائيل. ففي عام 2019م، وصل إجمالي التجارة البينية بين الدولتين إلى حوالي 27.7 مليار دولار، وفقًا لإدارة التجارة الدولية الأمريكية. وبلغت قيمة الواردات الأمريكية من المملكة حوالي 13.4 مليار دولار (بانخفاض عن 24.1 مليار دولار في عام 2018م). بينما بلغت قيمة الصادرات الأمريكية إلى المملكة 14.3 مليار دولار (ارتفاعًا من 13.6 مليار دولار في عام 2018م). وكان معظم الصادرات السعودية من المواد الهيدروكربونية بينما كانت غالبية الواردات السعودية من الأسلحة والآلات والسيارات. وفي يناير 2020م، كانت المملكة العربية السعودية ثالث أكبر مصدر لواردات الولايات المتحدة من النفط الخام بعد كندا والمكسيك، حيث وفرت الرياض حوالي 368 ألف برميل يوميًا من إجمالي الواردات الأمريكية من النفط الخام، والتي بلغت حوالي 6.57 مليون برميل يوميًا. وفي نفس الوقت، يتطلع رجال الأعمال الأمريكيون إلى فرص الاستثمار الواعدة في المملكة. حيث يشير تقرير مناخ الاستثمار لعام 2019 م، الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، إلى أن الرياض اتخذت عدة خطوات مهمة لتسهيل المشاركة الأجنبية في القطاع الخاص بالمملكة تنفيذا لرؤية 2030، مثل إنشاء وتعزيز المؤسسات العاملة على تسهيل الاستثمار في القطاعات الاقتصادية الجديدة، وزيادة مشاركة المرأة السعودية في القوى العاملة، وتحسين البنية التحتية وغيرها. كما أشاد كثير من المسؤولين الأمريكيين بالخطط الطموحة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان لتحويل اقتصاد المملكة وتوفير فرص العمل للشباب السعوديين وتعزيز مصادر الإيرادات غير النفطية للدولة.

ومن جهتها، يعتقد كثير من صانعي القرار في العواصم الخليجية عدم وجود بديل عن دور مؤثر وفاعل من جانب الولايات المتحدة لحل العديد من أزمات المنطقة المعقدة. فواشنطن وحدها هي التي تملك القدرة على التأثير على إسرائيل للدفع باتجاه اتفاقية تنقذ حل الدولتين، بما يؤدي إلى ظهور دولة فلسطينية قادرة على البقاء. كما أن الدور الأمريكي النشط في كبح جماح إيران سيوفر أيضًا الفرصة الأمثل لإيجاد حل لبرامجها النووية والصاروخية، ولإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، ولوقف تدخلها في الشؤون الداخلية لدول الجوار.

أما السيناريو الثاني (والمتشائم) فيستند على أن اكتفاء الولايات المتحدة في الطاقة سيدفع واشنطن إلى الانسحاب التدريجي من المنطقة، وبالتالي تراجع الأهمية النسبية لتعزيز علاقاتها التعاونية مع العواصم الخليجية، وفي مقدمتها الرياض. ويستند هذا السيناريو على أن الاكتفاء (النسبي) في الطاقة، سوف يمكن صانعي القرار في واشنطن من التحرر من تاريخ طويل شكلت فيه الطاقة عبئًا اقتصاديًا وأمنيًا عليهم. وبالتالي، سيوفر هذا الاكتفاء طمأنة لواشنطن من أجل توجه أكثر انعزالية عن التورط في القضايا العالمية الساخنة، خاصة في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط.[6]

ويفترض هذا السيناريو أن تتزايد قدرة الولايات المتحدة على مساعدة حلفائها في أوروبا وآسيا في مجال الطاقة، بعيدًا عن ضمان التدفق الآمن والمستقر لواردات الطاقة من منطقة الخليج العربي. فمن الممكن أن تذهب صادرات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة إلى بعض دول الاتحاد الأوروبي واليابان، لموازنة أية انقطاعات في هذه الواردات. وفي ضوء ذلك، يتوقع أنصار هذا السيناريو أن يتراجع التزام الولايات المتحدة بحماية طرق تصدير النفط من منطقة الخليج العربي إلى أوروبا وآسيا، مشيرين إلى أن دور واشنطن سيتراجع أيضًا في حل الأزمات المتفاقمة في منطقة الشرق الأوسط. خاصة وأن التطورات الأخيرة في المنطقة جعلت من هيمنة الولايات المتحدة على المنطقة بالطريقة القديمة أمرًا غير معقول، أو حتى مرغوب في المنطقة.

ورغم قناعة أنصار هذا السيناريو بأن الاهتمام الأمريكي بمنطقة الخليج العربي والشرق الأوسط يقترب من نهايته نتيجة اكتفائها من الطاقة وتحولها إلى مصدر للطاقة، يرى أنصار هذا السيناريو أنه لا ينبغي الخلط بين ذلك والقول إن واشنطن لن تدافع عن مصالحها في هذه المنطقة. فالولايات المتحدة ستظل محتفظة بقواعد عسكرية كبيرة في المنطقة. كما أنها، جنبًا إلى جنب مع حلفائها، سواء الأوروبيين أو الآسيويين، سوف تستمر في محاولة منع منطقة الخليج العربي من أن يصبح مهيمنًا عليها من جانب أية قوة معادية.

خطورة هذا السيناريو تتمثل في أن انسحاب واشنطن "الجزئي" أو "النسبي" من منطقة الخليج العربي سوف تقود إلى حالة من حالات "فراغ القوة". وهذه الحالة قد تستفيد منها دول، مثل إسرائيل وإيران، وربما تركيا أيضًا. فهذه الدول قد تسعى للسيطرة على موارد الطاقة الخليجية بشكل أو آخر لزيادة نفوذها الإقليمي، أو للإسراع بظهور المهدي المنتظر ونهاية الزمان، أو لتمويل مشروع إحياء الخلافة الإسلامية. وكل هذه الاحتمالات سوف تزيد من عدم الاستقرار والفوضى في منطقة هي مضطربة أصلاً. كما أن خطورة هذا السيناريو تبرز أيضًا من إمكانية أن تميل واشنطن في الفترة القادمة إلى افتعال الأزمات في منطقة الشرق الأوسط من أجل تحجيم واحتواء الصعود الاقتصادي والعسكري للصين، لأن أي صراع ينشب في المنطقة سوف يبقي الصين دون مصادر للطاقة، وبالتالي إمكانية "تركيعها" سياسيًا واقتصاديًا، بل وعسكريًا أيضًا.

وفي النهاية، وبغض النظر عن مدى دقة هذين السيناريوهين، يمكن القول إن الاكتفاء الأمريكي في الطاقة يجب أن يقرع أجراس الإنذار والحذر في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط. فهذا الاكتفاء، إن حدث، سوف يؤثر بشدة على مستقبل العلاقات الأمريكية مع دول المنطقة، وعلى نفوذ واهتمام واشنطن تجاه العديد من الملفات الساخنة. كما أن التوازنات الحالية بين دول المنطقة، والتي ترعاها واشنطن أو تؤثر فيها، ستتغير أيضًا مع زوال مؤثر الطاقة في تشكيل خريطة العلاقات بين الجانبين الأمريكي والخليجي. وهنا قد تحتاج دول المنطقة، خاصة مصر والمملكة العربية السعودية، لأن تبني تحالفات ومنظومة دفاعات جديدة تأخذ في حسبانها الاهتمام المتناقص لواشنطن بالمنطقة، وبروز لاعبين جدد قد يدخلون في تفاعلات الساحة الخليجية والشرق أوسطية، بما في ذلك الصين وروسيا والهند واليابان، تأمينًا لمصالحهم المتنامية فيها ومستفيدين من تراجع الاهتمام الأمريكي بها.

 

[1]Daniel Yergin, The Quest: Energy, Security, and the Remaking of the Modern World. Penguin Books; Upd Rev Re edition (2012) and  Daniel Yergin, The Prize: the Epic Quest for Oil, Money, and Power. Free Press; Reissue edition (2008)

[2] استخدم العرب "سلاح النفط" لإجبار الولايات المتحدة والغرب على وقف دعمهم لإسرائيل، مما أسفر عن حدوث انقطاع في إمدادات الطاقة وارتفاع كبير في أسعارها واضطراب مذهل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في كثير من دول العالم.

[3]The U.S. Energy Information Administration (EIA), Energy in Brief: How dependent are we on foreign oil?  http://www.eia.gov/energy_in_brief/article/foreign_oil_dependence.cfm

[4] عملية التكسير الهيدروليكي Hydraulic Fracturing Process هي تقنية جديدة تسمح بإنتاج النفط المحكم والغاز الصخري عن طريق استخراجهما من الصخور في باطن الأرض عبر تهشيمها بشلالات مائية ممتزجة بالرمال ومتدفقة بضغط عال جدا، وهما موردان مهمان للطاقة في الولايات المتحدة كان يعتقد لوقت طويل أن استخراجهما بالأساليب التقليدية بالغ الصعوبة وعالي التكلفة. وقد استخدمت هذه التقنية منذ عام 1947، وقد بدأت الجهود الرامية إلى تكييف هذه التقنية مع الغاز الصخري في تكساس في أوائل الثمانينيات. ولكن لم يتم التوصل إلى إتقان هذا النمط المحدد من التكسير للغاز الصخري، جنبا إلى جنب مع الحفر الأفقي، إلا في أواخر التسعينيات. وفي عام 2008 بدأ تأثير هذه التقنية على إمدادات الطاقة في الولايات المتحدة يصبح ملحوظا. ومنذ ذلك الوقت سجلت هذه الصناعة نموا سريعا، وأصبح الغاز الصخري حاليا يشكل نسبة ملموسة من إجمالي إنتاج الغاز الطبيعي في الولايات المتحدة. انظر:

Carl T. Montgomery and Michael B. Smith (December 2010). "Hydraulic fracturing. History of an enduring technology" (PDF). JPT Online (Society of Petroleum Engineers): 26–41.

[5] أولت المملكة علاقاتها مع الولايات المتحدة اهمية خاصة، منذ نشأة هذه العلاقات، للحصول على التكنولوجيا والأسلحة فضلا عن الحصول على مساعدة الأمريكيين في تطوير الموارد الطبيعية والبشرية لبلادهم ومواجهة التهديدات الأمنية على مدار السبعين عاما الماضية، بدءا بالاتحاد السوفيتي، وانتهاء بإيران، والجماعات الاسلامية المتطرفة. ومن جانبهم، عزز القادة الأمريكيون من التعاون مع الرياض في مجالات الأمن ومكافحة الإرهاب وسعوا للحفاظ على التدفق الآمن وغير السياسي لموارد الطاقة السعودية إلى الأسواق العالمية، واستثمار رأس المال السعودي في الأسواق العالمية.

[6] تعتبر منطقة الخليج العربي، منذ أمد بعيد، ذات أهمية للسياسة الخارجية الأمريكية؛ ولذلك فقد انطلقت السياسة الأمريكية تجاهها من ضرورة حمايتها من أي منافس للولايات المتحدة من شأنه تهديد المصالح الأمريكية هناك، ولاسيما الحصول على النفط بأسعار منخفضة لها والى حلفائها. ولهذا فقد أعلن الرئيس كارتر في خطابة لحالة الاتحاد في 1980، أن أي محاولة من القوى الخارجية للسيطرة على الخليج سيمثل تهديدا للمصلحة الأمريكية والذي يستدعي التدخل بالقوة لحماية المصلحة الأمريكية، وبالتالي حماية دول منطقة الخليج من التدخل الخارجي. وكان المقصود بالقوى الخارجية في حينه الاتحاد السوفيتي السابق. كما كان لدى إداراتي كارتر وريجان خوف من قوى إقليمية ساعية إلى السيطرة على الخليج، لاسيما إيران الإسلامية الراغبة في لعب دور محوري في منطقة الخليج والسيطرة على منابعه النفطية. والتي كانت أيضا أولوية إدارة كلينتون حيث تضمنت وثيقة الأمن القوي في عام 1996 أن أي تهديد لمنطقة الخليج العربي يمثل تهديداً للمصالح الأمريكية؛ مما يتطلب استخدام القوة المسلحة. وقد ظهر هذا جلياً إبان العدوان العراقي على دولة الكويت في بداية التسعينيات حيث انتفضت واشنطن لقيادة تحالف دولي للدفاع عن دولة الكويت، رغم عدم وجود تحالف رسمي بين الدولتين قبل مهاجمة العراق الكويت.

مقالات لنفس الكاتب