array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 162

إصلاح الحكم في مالي وطرد المتمردين يعتمد على التدخل الدولي ودرجة انخراط الجزائر

الأحد، 30 أيار 2021

تواجه منطقة الساحل الإفريقي تحديات كثيرة بسبب عوامل الجغرافيا الديمغرافيا وهياكل الدولة الهشة، وعلى مدار التاريخ المسجل، تسببت تقلبات المناخ في حدوث دورات جفاف، وكوارث طبيعية أخرى، أحدثت آثاراً اجتماعية واقتصادية عميقة في منطقة الساحل. مع اعتماد معظم سكان المنطقة على الزراعة المطرية، ويؤدي الجفاف إلى ضعف المحاصيل، مما أوجد أزمات غذائية، ووضع الملايين في فقرٍ مُدقع، وتعرضهم لخطر الجوع وسوء التغذية والأمراض. وكان الجفاف المستمر والشديد من أكثر أسباب المعاناة شيوعاً في هذه المنطقة، وعادة ما يرتبط بكل أشكال الأضرار البيئية والأعداد الكبيرة من النازحين داخلياً واللاجئين خارجياً. وقد أدى ضعف الدولة في منطقةٍ كان يسكنها البدو تاريخياً إلى إنشاء حدود مرنة يسهل اختراقها، تنتشر فيها الأشكال التقليدية لممارسة السلطة، التي تزيد من حدة النزاعات، ولا سيما العرقية. الأمر الذي حَدَّ من قدرة الحكومات على ممارسة السلطة والسيادة على جميع أجزاء أراضيها. لم تؤد حدود الدولة، وأدى الافتقار إلى البنية التحتية الأمنية، والتعاون الأمني ​​العابر للحدود، إلى حركة واسعة النطاق للمهاجرين واللاجئين، وأدت أيضاً إلى توسع الأنشطة غير القانونية عبر حدود الدولة.

وفي تقرير بعثة التقييم بشأن تأثير الأزمة الليبية على منطقة الساحل، من 7 إلى 23 ديسمبر 2011م، ونُشِرَ في 27 يناير 2012م، ورد أنّ الأزمة في ليبيا، التي بدأت بمظاهراتٍ سلمية، في 15 فبراير 2011م، سرعان ما تحوّلت إلى نزاعٍ داخلي بعد قمع الاحتجاجات في الشوارع بعنف من قبل الحكومة. وحينها أطلق المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، عدة مبادرات دبلوماسية في محاولة لإنهاء الأزمة بسرعة. غير أن تلك الجهود لم تنجح في منع التصعيد، مما أوصل ليبيا إلى حافة كارثة إنسانية كبرى، وإزاء هذه الخلفية، اتخذ مجلس الأمن القرارين 1970 (2011) و1973 (2011م)، اللذين أذنا، مع جملة أمور، باستخدام "جميع التدابير اللازمة" لحماية السكان المدنيين، بعد أشهر من الاشتباكات العنيفة، التي قوضت نظام معمر القذافي، وانتهت بقتله في سرت في 20 أكتوبر 2011م. وبينما ترددت أصداء تأثير الأزمة الليبية في جميع أنحاء العالم، تحملت البلدان المجاورة؛ مثل، السودان ومصر والجزائر وتونس وموريتانيا وتشاد ومالي والنيجر، وطأة التحديات بشكلٍ أكثر حدة. وكان على حكومات هذه البلدان، ولا سيما تلك الموجودة في منطقة الساحل، مواجهة تدفق مئات الآلاف من العائدين المصابين بصدمات نفسية، وكذلك تدفق أعداد غير محددة وغير قابلة للقياس من الأسلحة والذخيرة من الترسانة الليبية الضخمة، التي فاقمت في زيادة الوضع الهش والضعيف بالفعل لبعض هذه البلدان.

لقد شكّل الربيع العربي تحديات متنوعة لبلدان منطقة شمال إفريقيا. بينما انتقلت مصر وتونس إلى أنظمة حُكم جديدة، شهدت المغرب وموريتانيا والجزائر احتجاجات لم تُترجم إلى تغييرات جذرية في هياكلها الحكومية. وقد أطلقت الأزمة الليبية على وجه الخصوص العنان لعواقب غير متوقعة على دول الساحل في غرب إفريقيا؛ مالي والنيجر ونيجيريا وموريتانيا، بعد تدفق أسلحة وذخائر ومقاتلين مسلحين إلى شمال مالي، شجع على إحياء تمرد خامل للطوارق، واستيلاء الجماعات المسلحة على شمال مالي في معركة من أجل الحكم الذاتي. كما واجهت نيجيريا عنفاً مُتزايداً من قبل جماعة بوكو حرام المسلحة. وعلى الرغم من أن النيجر وموريتانيا لم تشهدا تمرداً داخلياً، إلا أنّهما أُجبرتا على فتحِ حُدودِهما أمام اللاجئين بسبب الأزمة الأخيرة في مالي وساحل العاج. وفي سياق هذا المقال، من المهم ملاحظة أنّ مُعظم التحديات، التي تواجه هذه المنطقة سابقة لثورات الربيع العربي، وقد تفاقمت أكثر في أعقابِ ما حدث في ليبيا بشكلٍ أخص.

الجرأة على الحلم:

أعرب الليبيون، الذين يعيشون بين أنقاض المعارك الماضية، التي أعقبت الثورة على العقيد معمر محمد أبو منيار القذافي، عن أمل جديد لبلدهم الممزق، بعد أن وافق اجتماع البرلمان على أول حكومة وحدة وطنية منذ سنوات. ومصدر الأمل أنّ هذه الخطوة السلمية تدعمها الأمم المتحدة، وفق خطة تعمل على توحيد الأطراف المتحاربة في ليبيا خلف حكومة مؤقتة وإجراء انتخابات وطنية في نهاية العام. وقد رحبت كل من الفصائل الشرقية والغربية المتنافسة، التي تعتزم حكومة عبد الحميد دبيبة الجديدة دمجها واستبدالها، إنهما مستعدتان لتسليم سلطاتهما. بينما أبدت بعض الدول الأجنبية المتورطة في الحرب بموافقتها علناً، وتبحث أخرى عن معالجات، أو "مخارجات" تحفظ ماء الوجه.

لقد انزلقت ليبيا إلى الصراع بعد فترة وجيزة من الانتفاضة، التي أطاحت بمعمر القذافي قبل أكثر من عشر سنوات. ومنذ ذلك الحين، كان لديها حكومتان متنافستان، إحداهما في طرابلس الغرب، والأخرى في بنغازي الشرق، وكلاهما مدعوم بتحالفات فضفاضة من الألوية المسلحة والمتمردين السابقين، وغير قليل من الدول والحركات المسلحة الأجنبية. في حين استغلت جماعات متطرفة؛ مثل، تنظيم الدولة الإسلامية وعناصر من القاعدة، الفراغات الأمنية الموجودة لدى الطرفين؛ طرابلس وبنغازي،​​ لإرساء موطئ قدم لها في ليبيا، وسيطرت من قبل على عدة مناطق، من بينها مدينة سرت، وهددت بالتمدد من هناك إلى غيرها. لذا، تداعت الحكومات العربية والغربية لحث الفصائل الليبية على دعم حكومة الوحدة الوطنية الجديدة حتى تتمكن من البدء في مواجهة كل أشكال التهديدات، واستدعاء الدعم الدولي عند الحاجة، لأنّ رحلة السلام والوحدة للشعب الليبي تتطلّب تضافُر كُل الجهود الداخلية والخارجية.

صحيح أن ليبيا غالباً ما تطغى عليها مجموعة من الأزمات والتحديات الأخرى، التي تتطلب اهتمام دول الساحل الإفريقي والاتحاد الإفريقي بها، لكن لا تزال البلاد مكاناً يتمتع بإمكانيات كبيرة ومرونة، وهي تؤثر على المصالح الإفريقية بما يتجاوز تهديد الهجرة والإرهاب، الذي تسببه القوة المتزايدة للجماعات المسلحة المفترسة والشبكات الإجرامية، وإمكانية إعادة ظهور التشدد الراديكالي، على سبيل المثال لا الحصر. وقد تفاقم هذا التهديد نتيجة لضعف المؤسسات الحاكمة، وتدهور الخدمات الأساسية، وما تعرض له الاقتصاد الوطني من نهب، مما خلق حافزاً ومبرراً للجهات الفاعلة المحلية؛ مثل، زعماء الميليشيات لملء الفراغ، يضاف إلى ذلك، ما أشرنا إليه، الانقسام السياسي الواسع، على المستوى الوطني، وتدخل الدول الخارجية في الشأن الداخلي للبلاد. ففي حين أنّ مكافحة الهجرة والتطرف والإرهاب مسائل مهمة في ليبيا، لا ينبغي أن تكون هذه هي القضايا الوحيدة، التي ينبغي أن ينظر الاتحاد الإفريقي من خلالها إلى البلاد. وهذا يتوقّف على التقدم على الجبهة السياسية، وعلى اكتمال بناءات المصالحة الوطنية، التي يمكن للاتحاد أن يلعب دوراً دبلوماسياً قوياً، لا سيما في إقناع دول المنطقة بدعم خارطة الطريق، التي تقودها الأمم المتحدة، وهو أمر حاسم لمنع المفسدين من تعطيل العملية.

المؤكد هو أن الإدارة الجديدة، برئاسة رئيس الوزراء المؤقت عبد الحميد دبيبة، تواجه مهمة ضخمة. فخطوات الاندماج ما تزال بطيئة، والأمن لم يستقر، والسلاح منتشر بأيدي الناس، والمليشيات ما زالت تتحدى إعادة تنظيم ترتيبات الاستقرار، والمقاتلون الأجانب يتلكؤون في المغادرة إلى حيث أتوا، والدول المتنافسة تجتهد في تعظيم مصالحها قبل الخروج المشرف، والجوار الجنوبي، كما أظهرته أحداث تشاد الأخيرة، مضطرب، والاقتصاد الليبي في طريق مسدود؛ إذ تراجعت قيمة الدينار، وارتفعت أسعار العقارات بشكل كبير، وانقطاع التيار الكهربائي يحدث بشكل يومي. ولكن، رغم كل ذلك، ينتظر الليبيون بفارغ الصبر لأن تعود الحياة إلى طبيعتها. الأمر الذي يوجب على الحكومة أن تتعامل مع الأزمات، التي يواجهها المواطنون، وأن تُعطي الأولوية لمعالجة الأحوال الأمنية، ولحل مشاكل انقطاع التيار الكهربائي ونقص السيولة، وحملة التطعيم ضد فيروس كورونا، الذي لا يعرف أحد المعلومات الحقيقية عن مدى انتشاره في البلاد.

المبعوثان:

لا شك أنه قد كُتب لليبيين أمل جديد وسط أنقاض ما خلفته سنوات الصراع والاحتراب. ولنا أن نسأل: لماذا يوجد هذا الأمل الآن؟ وبعض الإجابة في رواية اثنين من كبار مبعوثي الأمم المتحدة السابقين إلى ليبيا، وهما غسان سلامة (2017-20)، وسيفاني ويليامز، نائب الممثل الخاص للأمم المتحدة للشؤون السياسية (2018-20)، والممثل الخاص بالنيابة للأمين العام (2020-2021)، في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. إذ لاحظا سابقاً كيف أنّه لأول مرة ساعد تفكُك النظام الدولي في تدمير دولة ممزقة بالفعل، وكيف يمكن أن يُساعد الإجماع الدولي المُتجدد على استعادة الحياة الطبيعية في ليبيا. وأقرا بأنه لأول مرة منذ سنوات عديدة، يحتفل الليبيون بشهر رمضان المبارك بسلام نسبي، حتى الآن، وأن البنادق صمتت. وهناك حكومة وطنية موحدة نتجت عن انتقال سلمي للسلطة، والتسليم بها من قبل الحكومتين المتنافستين، اللتين حكمتا البلاد منذ عام 2015م، ومن ثم الإجماع على إجراء الانتخابات الوطنية المقررة في ديسمبر المقبل.

ومما ذكره المبعوثان؛ سلامة وويليامز، وهو أقرب لاعتراف من لم يكملا المهمة، أنّ التحديات، التي تنتظر الجميع كثيرة، "لكننا لم نكن نتخيّل مثل هذه التطورات في الأيام المظلمة، بين أبريل 2019 ويونيو 2020م، عندما كُنا نعمل في الأمم المتحدة". ويستحضران أنّ أحد التواريخ المهمة يستحق أن يتذكراها لأنّه استحوذ على الحالة المزاجية لتلك الفترة المضطربة، هو ما كان في وقت متأخر، بعد ظهر يوم 19 يناير 2020م، في برلين، واصفين له أنه بعد يوم طويل من الخطب الرسمية في المستشارية الألمانية، وبعد خمسة أشهر من الاجتماعات على مستوى كبار المسؤولين في البلدان والمنظمات المشاركة، قاما، ومضيفيهم الألمان، بإعداد مؤتمر برلين، بحضور كوكبة من قادة العالم، بما في ذلك من البلدان، التي تدخلت بشكل مباشر في الصراع الليبي. وقالا إنّ الجميع بحضور الجانبين الليبيين المدعوين للحضور في اللحظة الأخيرة، كانوا مستعدين للمراجعة والموافقة على البيان المؤلف من 55 نقطة، والذي تمت صياغته بشقِ الأنفس في العديد من الاجتماعات التحضيرية، إلّا أنّ الجنرال خليفة حفتر، الذي يحملانه المسؤولية في انهيار جهودهما، أبى.

إنّ رواية سلامة ووليامز تدور حول ميلاد ما أصبح يُعرف باسم عملية برلين، إذ كانت ألمانيا خياراً منطقياً لقيادة العملية. فقد اعتبرها الليبيون جهة فاعلة محايدة وامتنعوا لامتناعها عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي (1973)، الذي تم تبنيه في مارس 2011م، وشكّل الأساس القانوني للتدخُل العسكري الدولي اللاحق. وفي عام 2019م، كانت ألمانيا أيضاً عضواً في مجلس الأمن وترأس لجنة العقوبات الخاصة بليبيا. وكانت ميركل زعيمة ذات مبادئ وحازمة، وكانت ألمانيا دولة ذات علاقات وثيقة مع الجهات الفاعلة الإقليمية، التي كانت تتدخل بشكل مباشر في الصراع الليبي. على الرغم من التشكك والسخرية، اللذين أبداهما العديد من المراقبين والمحللين الليبيين، فقد أثبتت عملية برلين أنّها جديرة بالاهتمام. وبدا واضحاً أنّ ذلك دليل على أنّ "الروح" الدولية مستعدة لفعل الشيء الصحيح، حتى لو كان "الجسد" الوطني ضعيفًا. وثبت ذلك جلياً في تدوين البيان الموقع في برلين في قرار مجلس الأمن رقم 2510، الذي اعتمده مجلس الأمن في فبراير 2020م.

ولمصلحة استمرار ونجاح اتفاق حكومة الوحدة الوطنية، يُوصي ويليامز وسلامة، اللذان يوثقان تجربتهما حول ليبيا في كتاب قادم، بأنّه يجب أن يكون الحفاظ على هذا التجمُع الدولي أولوية قصوى للأمم المتحدة والجهات الفاعلة الدولية الرئيسة. فقد وفَّرَ مظلة للأمم المتحدة لإطلاق المسارات الثلاثة؛ العسكرية والسياسية والاقتصادية، بالإضافة إلى مسار ٍشاملٍ يُركِّز على حقوقِ الإنسان والقانون الإنساني الدولي. لقد ألزمت عملية برلين المجتمع الدولي بدعم العملية الشاملة على جميع المستويات، من خلال آلية متابعة مدروسة للعمل مع كبار المسؤولين، والوزراء. إذ أنّها لا تزال واحدة من المنتدياتِ الدولية الوحيدة، التي سيجتمع فيها الإماراتيون والمصريون مع الأتراك. ويجب على حكومة الوحدة الوطنية أن تحترم العقود والتعهدات، التي وقعتها، للمساءلة أمام الشعب الليبي والمجتمع الدولي، وذلك باحترام خارطة الطريق، التي وافقت عليها في تونس. وعلى مجلس الرئاسة التركيز على المصالحة الوطنية، وعودة النازحين، والعدالة الانتقالية، وأن تكون حماية ثروة الشعب الليبي "عائدات النفط في البلاد" من خلال حوكمة فعّالة وشفّافة، وأن تكون محاربة الفساد على جميعِ المستويات أولوية قصوى حتى لا يفقد أولئك الذين هم في هذه الحكومة، مثل أسلافهم، ثقة المحكومين.

 

ارتدادات على الساحل:

على مدار الأعوام الماضية، شهد العالم إعادة رسم للخريطة الجيوسياسية لمنطقة الساحل الإفريقي، خاصة ما شهدته وتشهده دول؛ مثل، مالي والنيجر وتشاد من حركات تطرف وتمرد وانفلات أمني، التي تؤثر سلباً على المسؤولية القُطرِيَّة والجماعية عن الأمن والاستقرار الإقليميين. وقد اعتمدت منظومة الساحل والصحراء على دعم الاتحاد الإفريقي وبعض الحكومات الغربية، ذات النفوذ الاستعماري، على أنظمة الحكم في المنطقة لتضمن استقرارها كحالات انتقالية، إلّا أنّ القوى الاجتماعية والاقتصادية المضطربة في ليبيا، بعد سقوط القذافي، كانت سبباً في صعود الميليشيات القوية، التي ملأت الفراغ الأمني ​​في ليبيا وجوارها. وفي ظل غياب النفوذ السياسي والاقتصادي للدولة المركزية القوية، فإنّ ليبيا وجيرانها كانوا على أهبةِ الاستعداد للانجراف في خطر اندلاع موجات من العنف والصراع الأهلي والتدهور الاقتصادي والأمني.

في كل من المناطق الريفية والحضرية، أدى انعدام الأمن الاقتصادي الناجم عن الأزمات المزمنة والافتقار إلى البنية التحتية والوصول إلى الخدمات الأساسية إلى الفقر والبطالة مما دفع الناس إلى البحث عن سُبلِ عيشٍ بديلة في معظم الحالات، يقول برينسي مارين جورج، الباحث في معهد دراسات الدفاع والتحليل، نيودلهي، الهند، في دراسة له نُشِرَت في 14 أغسطس 2012م، إن هذا يؤدي إلى المشاركة في أنشطة غير مشروعة واسعة الانتشار. لقد مكّنت المناطق غير المنظمة، أو "الرمادية"، لا سيما في منطقة الساحل الغربي، من انتشار الشبكات الإرهابية والجريمة المنظمة وتهريب الأسلحة والبشر والماس والأسلحة. غسل الأموال نتيجة الاتجار بالمخدرات هو أيضاً مصدر قلق كبير. من المعروف أنّ كارتلات المخدرات في أمريكا اللاتينية تستخدم المنطقة لنقل المنتجات بما في ذلك الكوكايين والهيرويين والميثامفيتامين، على طول الطرق السرية القائمة في غرب إفريقيا وعبر الأراضي غير الخاضعة للرقابة في موريتانيا ومالي والنيجر، من بين أمور أخرى. باستخدام المنطقة لنقل المنتجات إلى أوروبا الغربية، أوجدت الكارتلات طلباً جديداً في المنطقة نفسها. من أجل تأمين طرقهم وحماية أعمالهم، يوظف مهربو المخدرات المحترفون أشخاصاً محليين على دراية بالمنطقة. وتُسهِّل المنطقة أيضاً حركة المهاجرين غير الشرعيين من أجزاء من إفريقيا إلى أوروبا، مما يؤدي إلى انتشار المتاجرين بالبشر.

شهدت البلدان المجاورة تدفقاً للاجئين والمهاجرين لأسباب اقتصادية عائدين من ليبيا. بالإضافة إلى استثمارات ليبيا الكبيرة ودعمها الاقتصادي المباشر لبلدان مثل تشاد ومالي والنيجر خلال التسعينيات، اجتذب الاقتصاد الليبي القوي أيضاً العمال من هذه البلدان. بعد سقوط حكومة القذافي، تجاوز عدد العائدين من ليبيا 209030، منهم 95760 في النيجر، و82433 في تشاد، و11230 في مالي، و780 في موريتانيا. إن تدفق العائدين المصابين بصدمات نفسية وفقرًا لم يخل بالهياكل الاجتماعية في البلدان المستقبلة فحسب، بل أثّر أيضاً على الوضع الإنساني في البلدان، التي تواجه بالفعل أزمات الغذاء، والفقر، والبطالة، ومحدودية الوصول إلى الخدمات الاجتماعية، ومؤسسات الدولة الضعيفة، والأمراض والأوبئة، وآثار الكوارث الطبيعية مثل الجفاف. كانت هجرة اليد العاملة إلى ليبيا بمثابة مصدر رئيس للدخل لتنمية المجتمعات المجاورة، وأدّى فقدان التحويلات إلى أثرٍ سلبي على هذه البلدان.

الطوارق ومالي :

سعى الطوارق إلى الحكم الذاتي في منطقة الساحل، منذ أوائل القرن العشرين، حيث وقع التمرد الأول في شمال النيجر ضد الحكم الاستعماري الفرنسي، خلال الفترة من 1916 إلى 1917م، وتكرّرت بعده الصراعات بين الفرنسيين والطوارق. وحدثت ثلاثة صراعات رئيسة بين الطوارق في النيجر وما هو الآن شمال مالي، في الفترة من 1962 إلى 1964، و1990-1995، و2007-2009م. أحدث مثال على نضالهم من أجل الاستقلال هو القتال المتجدد ضد الحكومة المالية من قبل المجموعة المسماة الحركة الوطنية لتحرير أزواد ابتداءً من يناير 2012م، وكان قد تم تشكيلها، في أواخر عام 2011م، ويقودها بشكل أساسي أعضاء من أقلية الطوارق في مالي، وكثير منهم كانوا في السابق جزءاً من الجيش الليبي خلال عهد القذافي، أو قاتلوا كمرتزقة في الانتفاضة، التي أطاحت بحكومة القذافي. وتزعم الحركة الوطنية لتحرير أزواد أنّها حركة علمانية أيديولوجية ومؤيدة للديمقراطية تُقاتل من أجلِ دولة ٍمستقلة معترف بها دولياً تُسمى أزواد؛ وهو اسم الطوارق للمناطق الثلاث: تمبكتو وغاو وكيدال في شمال مالي.

لقد كان شمال مالي بمثابة حالة أولية من الارتدادات غير المتوقعة لثورات الربيع العربي، إذ أدّى تدفق الطوارق المسلحين جيداً إلى هذه المنطقة في أعقاب سقوط حكومة القذافي إلى تعزيز الحركة الوطنية لتحرير أزواد، وسمح لها بمواجهة الجيش المالي السيئ التجهيز في شمال البلاد في يناير 2012م. ومع اشتداد الاشتباكات، فإن سوء إدارة الحكومة المتصورة من حالة الطوارق في الشمال قاد مجموعة ساخطين من الجنود لتدبير انقلاب والاستيلاء على السلطة في باماكو. وتخلّى عدد من ضباطِ الجيش الشباب عن مواقعهم في الشمالِ المُضطرب وانتقلوا إلى الجنوب لدعم الانقلاب في باماكو، فتقدّمت الحركة الوطنية لتحرير أزواد بسرعة للاستيلاء على المناطق، التي تخلّى عنها الجيش. بحلول أول أبريل 2012م، سيطرت الحركة الوطنية لتحرير أزواد على مدن جاو وتمبكتو وكيدال، وأعلنت استقلال أزواد وعاصمتها جاو. ورفض الاتحاد الإفريقي، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، ودول أخرى في المنطقة هذا الإعلان. 

تداعيات متوقعة:

إن عواقب الاضطرابات والأحداث في ليبيا على الأمن الإقليمي والدولي وخيمة، وتحتاج إلى وقتٍ طويل، بعد تثبيت حكومة الوحدة الوطنية لعرى الاستقرار، لمحو آثارها في منطقة الساحل. بالإضافة إلى الهجرة كنتيجة مباشرة لبدايات الثورة الليبية، أجبرت الأزمة المالية اللاجئين والسكان المحليين على الفرار إلى الدول المجاورة. وأشارت التقديرات الأولية إلى تدفق أكثر من 250 ألف مواطن مالي إلى موريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر والجزائر، مما زاد الضغط على المجتمعات المحلية، التي تعاني بالفعل من الجفاف الشديد ونقص الغذاء. وقد ارتفع هذا الرقم بسرعة بسبب قمع الجماعات المسلحة، التي سيطرت على شمال مالي للسكان الأصليين. كما أنّ وجود شبكات إجرامية غير وطنية في منطقةِ الساحل الغربي قد سهّل على الأرجح دخول جماعات عنيفة جديدة، وتحوّلت المنطقة إلى أرضٍ خصبة للجماعات المسلحة والإرهابية. إنّ الإرهاب، مثله مثل زيادة النشاط غير القانوني، لا يُشكِّل تهديداً للأمن فحسب، بل يُمثِّل أيضاً تهديداً اقتصادياً؛ على سبيل المثال، أدى الاختطاف من قبل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من أجل الحصول على فدية إلى خفضِ السياحة وإلحاق الضرر بالاقتصادات المحلية.

لقد كان التعاون الأمني ​​الإقليمي بين الدول، بما في ذلك الجزائر ومالي والنيجر ونيجيريا وموريتانيا، مُجزأ على الرغم من التداعيات الخطيرة للجرائم عبر الوطنية والإرهاب. لقد تجاوزت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا تفويضها لتعزيز التكامل الاقتصادي بين دول غرب إفريقيا، ولعبت دوراً لا غنى عنه كمفاوض في الأزمات السياسية الأخيرة في المنطقة، وعالجت لفترة طويلة قضايا الأمن وحفظ السلام في هذه المنطقة. وفي حين أنّ مالي والنيجر ونيجيريا أعضاء في المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، فإنّ موريتانيا المجاورة ليست كذلك. إنّ الدور المحتمل لتجمع دول الساحل والصحراء "سين صاد"، الذي تأسس كاتحاد اقتصادي إقليمي، واتحاد المغرب العربي، في تخفيف عدم الاستقرار في المنطقة يستحق الاستكشاف. بالنظر إلى الظروف الاقتصادية والسياسية خاصة في مالي والنيجر وموريتانيا، ستكون المساعدة الإقليمية والدولية شرطاً أساسياً لإلغاء تهديد الإرهاب، وإدارة عواقب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.

الخاتمة:

إنّ التحدي الأساسي لحكومة الوحدة الوطنية الليبية المكوّنة حديثاً، ودول الساحل الإفريقي، هو مواجهة الميليشيات القوية، التي تنامت بسرعة بعد ثورة فبراير 2011م، والتي تشكّلت خلال السنوات الماضية خارج نطاق الجغرافيا والديموغرافيا الليبية. رغم أنّ الانقسام المتزايد بين الجماعات المسلحة والحكومة في جمهورية مالي على وجه الخصوص سيستمِر في تشكيل تحدٍ من أجلِ الاستقرار السياسي في البلاد. ويُنظر إلى الأزمة الحالية في مالي على نطاق واسع ليس فقط على أنها تداعيات الأزمة الليبية، واضطرابات ما بعد الثورة وما يترتب عليها من فراغٍ في السلطة، ولكن أيضاً نتيجة التقاء الجريمة المنظمة والفساد، الذي تغلّغل في الحكومة المالية قبل وقت طويل من انقلاب مارس 2012م، وكانت الأرباح، التي تم جنيها من الاختطاف من أجل الفدية مسألة أساسية في صعود القاعدة في بلادِ المغرب العربي والجماعات الإرهابية الأخرى العاملة في شمال مالي. لذا، فإنّ إصلاح الحُكم والسلطة والشرعية للحكومة في العاصمة المالية؛ حتى في حالةِ نجاح التدخل الدولي في طردِ الحركات المتمردة في الشمال، سيكون تحدياً طويل الأمد. إذ يعتمد نجاح أي تدخُل دولي في مالي بشكلٍ كبير على طبيعة هذا التدخُل ودرجة انخراط الجزائر، التي تفُضِّل الحل السياسي الداخلي. وعلى الرغم من الانقسام العميق في كل إقليم الساحل، فإنّ تشجيع الاتحاد الإفريقي، والمنظمات شبه الإقليمية الأخرى، لتطور المجتمع المدني، وانخراط السكان في العملية السياسية، قد يسمح ببعض التفاؤل للتوصل إلى حلٍ نهائي للاضطرابات الحالية في المنطقة.

مقالات لنفس الكاتب