array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 163

السعودية تقود مع مراكز الفكر بالدراسات معرفة تداعيات متغيرات قطاع الطاقة العالمي

الثلاثاء، 29 حزيران/يونيو 2021

شهد سوق النفط العالمي، خلال السنوات الخمس الأخيرة، الكثير من التحديات الصعبة، مرورًا من تخمة في المعروض النفطي وامتلاء المخزونات في كثير من الدول الكبرى المستهلكة والمستوردة له، إلى النمو المستمر الذي تشهده بدائل النفط، نتيجة الارتفاع في أعداد السيارات الكهربائية، وأخيراً انهيار الطلب على النفط مع تفشي جائحة كوفيد 19 في العام الماضي، مما أدى إلى تراجع أسعار النفط العالمية إلى مستويات منخفضة غير مسبوقة، بل وبلوغها مستويات أقل من الصفر (لأول مرة في تاريخ أسواق عقود النفط الآجلة) في سابقة لم يكن للعقل إمكانية تصورها من قبل. وخلال الفترة الأخيرة، تذبذبت رحلة أسعار النفط العالمية (خام برنت القياسي) بين أعلى نقطة لها عند 87 دولاراً في أواخر 2018م، وأقل نقطة لها عند 19 دولاراً في مارس من العام الماضي.

 

شكل يوضح تطور سعر النفط (خام برنت) في الخمس سنوات الأخيرة

ورغم مواصلة أسعار النفط مكاسبها حتى تجاوزت 72 دولاراً للبرميل، للمرة الأولى منذ مايو 2019م، في 14 يونيو الماضي، وقت كتابة هذه السطور، بفضل انضباط إمدادات العرض من جانب تحالف "أوبك+" وتعافي الطلب في كثير من مناطق العالم، في ظل تكثيف حملات التطعيم ضد فيروس كوفيد 19، وعودة النشاط الاقتصادي إلى طبيعته في كثير من الدول والقطاعات، إلا أن هناك الكثير من المستجدات، التي يتوقع الخبراء أن يكون لها تأثير كبير في زيادة "الغموض والضبابية" بشأن مستقبل سوق النفط العالمية خلال الفترة المقبلة. ولعل من أبرز هذه المستجدات، التي طرأت منذ بداية العام الحالي، ما يلي:

تطورات غير مسبوقة

أولاً: تولي إدارة أمريكية جديدة، بزعامة الرئيس جو بايدن، لمقاليد السلطة في البيت الأبيض في 20 يناير الماضي. وتتبني هذه الإدارة توجهًا يؤكد على عزم الولايات المتحدة العمل على إنقاذ كوكب الأرض من الآثار الكارثية المدمرة للتغير المناخي العالمي. وتنفيذاً لوعد انتخابي قطعه الرئيس بايدن ولقرار تنفيذي وقعه في اليوم الأول من عهده في البيت الأبيض، عادت واشنطن رسمياً، في 19 فبراير 2021م، إلى اتفاقية باريس لمواجهة التغير المناخي، التي كان الرئيس السابق دونالد ترامب انسحب منها في ظل شعاره "أمريكا أولاً". فعلى عكس ترامب، الذي نظر إلى جهود مكافحة التغير المناخي العالمي باعتبارها "ذريعة واهية" لـ"تدمير الصناعة الأمريكية وتقليص حجم الدخل القومي وأرباح الشركات الأمريكية"، يعتقد بايدن أن التغير المناخي يهدّد الأمن القومي الأمريكي، من زاوية ارتباط العديد من حالات غياب الاستقرار حول العالم، وفي المحيط الإقليمي للولايات المتحدة، وداخلها، بالظواهر المناخية المتطرفة كحالات الجفاف القاسية، وحرائق الغابات، والعواصف الموسمية التي تزداد تكراراً وشدة. وقد أشاعت عودة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ نوعاً من الزخم العالمي لشعارات "ضرورة تقليل استخدام النفط من أجل إنقاذ الأرض من التغير المناخي"، خاصة وأن الرئيس بايدن تعهد بجعل قطاع الطاقة الأمريكي خالياً تماماً من التلوث بحلول عام 2035م، والتحوّل إلى اقتصاد خالي تماماً من الانبعاثات بحلول عام 2050م، وهو ما يمثل الخطة الأكثر طموحاً في تاريخ الولايات المتحدة لمكافحة التغير المناخي. كما أعلن الرئيس الأمريكي الجديد أيضًا عن سلسلة من الإجراءات لمواجهة التغير المناخي العالمي. فمن ناحية، قام بايدن بتعيين وزير الخارجية الأسبق جون كيري مبعوثاً شخصيًا له لشؤون التغير المناخي وعضواً في مجلس الأمن القومي الأمريكي، في دلالة واضحة على الأهمية القصوى للسياسة الأمريكية المقبلة. كما عين بايدن أيضاً حاكمة ميتشجان السابقة جينيفر جرانولم وزيرة للطاقة، والنائبة ديب هالاند وزيرة للداخلية مسؤولة عن الأراضي العامة، وبيت بوتيجيج وزيراً للنقل. وقد أثار اختيار هؤلاء المسؤولين الأربعة حماسة كثير من دعاة حماية البيئة في العالم، والذين يرون أن هؤلاء المسؤولين سيلعبون دوراً رئيسياً في كبح جماح أنشطة استخراج النفط والغاز ونشر استخدام السيارات الكهربائية والطاقة النظيفة داخل الولايات المتحدة وخارجها. ومن ناحية ثانية، استضاف الرئيس بايدن، الذي شارك بفاعلية في التوصل إلى اتفاقية باريس للمناخ وجمع أكبر عدد من الدول للتوقيع عليها عندما كان نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما، قمة للمناخ في 22 أبريل الماضي بالتزامن مع يوم الأرض، مشيراً إلى أنه سيكلف مبعوثه للمناخ جون كيري بتقديم خطة لتعزيز جهود تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون حول العالم. ومن ناحية ثالثة، اتخذ بايدن عدة أوامر تنفيذية تعكس تطلعاته لتقليص الانبعاثات الكربونية في الاقتصاد الأمريكي إلى الصفر بحلول عام 2050م، مثل إنشاء مجلس استشاري للعلوم والتكنولوجيا لوضع الاعتبارات المناخية كعنصر أساسي في السياسة الخارجية والأمن القومي، والتوسع في تصنيع السيارات الكهربائية عديمة الانبعاثات، وتوجيه الحكومة الفيدرالية لشراء هذه السيارات التي يتم تصنيعها في الولايات المتحدة. كما طلب أيضاً إيقاف العمل في خط أنابيب النفط الكندي "كي ستون" المتوجه من ولاية البرتا الكندية عبر الولايات المتحدة إلى خليج المكسيك بطاقة 830 ألف برميل يومياً.

ثانيًا: زاد الغموض بشأن مستقبل صناعة النفط في العالم إلى مستوى جديد كليًا، بعدما قامت وكالة الطاقة الدولية، في 18 مايو الماضي، بإصدار تقريرها المفاجئ، حول "خريطة الطريق نحو صفر انبعاثات 2050". وقد أكد هذا التقرير على ضرورة تغيير المشهد العالمي للطاقة بشكل شبه كامل، في اتجاه التخلي عن مصادر الطاقة التقليدية، ومنها النفط، مقابل رفع الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، كطاقة الرياح والشمس وغيرها، من أجل تحقيق الحياد الكربوني. وفي هذا السياق، أقترح التقرير، الذي جاء في 224 صفحة، عدم القيام بأية استثمارات جديدة في مجال النفط والغاز، وعدم بيع أية سيارة تعمل بمحرك حراري جديدة بعد عام 2035م، إذا ما كان العالم يريد أن يصل إلى انبعاثات كربونية صفرية صافية بحلول عام 2050م، وقد أثار هذا التقرير الكثير من الاعتراضات، نظراً لتسرعه باقتراح التوقف عن تطوير حقول النفط والغاز فورًا. حيث تساءل الكثير من الخبراء والمسؤولين عن إمكانية تقليص إمكانات الصناعة النفطية والغازية في الوقت الذي تعترف فيه الوكالة في تقريرها نفسه بأن نحو نصف الطاقات المستدامة المتوقع استعمالها بحلول نصف القرن لا تزال في مراحل التجربة.

ثالثًا: اشتعلت التكهنات بشأن دخول صناعة النفط العالمية في نفق طويل مظلم خلال الفترة القادمة في ضوء ما طرأ على عمالقة شركات النفط العالمية خلال شهر مايو الماضي. حيث صوتت الجمعيات العمومية لأكبر شركتين لإنتاج النفط في الولايات المتحدة، وهما إكسون موبيل وشيفرون، لصالح ضرورة اهتمام الشركات أكثر بقضية مواجهة تغير المناخ العالمي، مما يضمر خفض الاستثمارات الموجهة للنشاط التقليدي لهذه الشركات في المستقبل. كما تلقت شركة عملاقة، هي شل، هزيمة في المحكمة بهولندا بإصدار حكم يجبر الشركة على خفض الانبعاثات الكربونية الصافية لها بمقدار 45 في المائة بحلول عام 2030م، ويرى خبراء الطاقة أن ما حدث في اجتماع الجمعيات العمومية للشركات الأمريكية من المحتمل تكراره في شركات أخرى، كما من الممكن أيضًا تكرار الأحكام القضائية لإلزام شركات النفط العملاقة بخفض أنشطتها التقليدية، وهو ما سيؤثر، دون شك، في الاستثمارات المستقبلية الموجهة لقطاع النفط، وبالتالي توجيه ضربة عنيفة لصناعة النفط العالمية خلال الفترة القادمة.

رابعًا: سادت مخاوف متزايدة، منذ بداية العام الحالي، من استمرار تراجع الأسعار العالمية للنفط في المدى المتوسط والبعيد، رغم انتعاشها النسبي في الشهور الأخيرة، مع إمكانية عودة مشكلة تخمة المعروض بسبب عدد من العوامل، مثل احتمالية تدهور حالة الاقتصاد العالمي نتيجة احتمالات وجود موجة ثانية من انتشار فيروس كورونا (في الهند والبرازيل وغيرها)، والدخول في مرحلة انكماش وكساد وتراجع الاستثمارات العالمية، مع إمكانية عدم تجديد اتفاق "أوبك بلس" واتجاه الدول المنتجة للنفط إلى الإنتاج بأقصى طاقة بسبب التحسب لمنافسة مصادر الطاقة النظيفة والطاقة المتجددة للنفط وإمكانية تراجع دوره في مزيج الطاقة العالمي، خاصةً مع توقع معظم شركات النفط أن يبلغ الطلب ذروته بين عامي 2030 و2035م، حينما يتم استبدال سيارات البنزين بالسيارات الكهربائية.

التداعيات المتوقعة على اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي

الغموض المتزايد بشأن مستقبل النفط في العالم نتيجة، المستجدات الأربعة المذكورة أعلاه، يدفع كثير من المراقبين إلى توقع حدوث الكثير من التداعيات المهمة والخطيرة على اقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي في الفترة المقبلة، لعل من أبرزها التوجهين التاليين:

التوجه الأول: صعوبة حصول بعض هذه الدول على التمويل مستقبلا، في ضوء المطالبة والضغط على المصارف العالمية لعدم تقديم قروض للمشاريع الموجهة إلى قطاع النفط والغاز. فرغم أن أمن الطاقة في العالم يتطلب استمرار ضخ كميات هائلة من النفط والغاز الطبيعي يومياً، إلا أنه من المتوقع تراجع الاستثمارات الموجهة إلى قطاعي النفط والغاز الطبيعي خلال السنوات العشر إلى العشرين القادمة، نتيجة عزوف أكبر المصارف العالمية وصناديق الثروة والصناديق السيادية عن تمويل المشروعات الجديدة في هذين القطاعين. ليس ذلك فحسب، بل إن الأمر قد يمتد أيضًا للإقراض وتمويل السندات في هذه الدول. وإذا ما تواصلت الأمور بهذا الشكل فسوف تتأثر خطط معظم دول مجلس التعاون الخليجي للتنويع الاقتصادي بعيدًا عن النفط مستقبلاً، لكونها في حاجة إلى تمويل كبير لتحقيق مستهدفاتها.

التوجه الثاني: زيادة الاهتمام في دول مجلس التعاون الخليجي بمشروعات ومبادرات التحول إلى الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة. ورأينا هذا واضح من خلال دخول المملكة العربية السعودية في سوق الهيدروجين بمختلف ألوانه (الأخضر والأزرق)، وتبنيها لمبدأ الاقتصاد الدائري للكربون، وتوسعة إنتاج الطاقة المتجددة، والمشاريع المستدامة الكبرى مثل مشروع نيوم ومشروع البحر الأحمر. كما أعلن ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان، في نهاية شهر مارس الماضي، عن مبادرة "الشرق الأوسط الأخضر"، والتي تهدف إلى مواجهة التحديات البيئية في المنطقة والعالم. وتشمل هذه المبادرة في قسمها المحلي الذي يحمل عنوان "السعودية الخضراء" عددًا من المشاريع الطموحة، أبرزها زراعة 10 مليارات شجرة داخل المملكة، ورفع نسبة المناطق المحمية إلى أكثر من 30 في المائة، ومجموعة من المشاريع لحماية البيئة البحرية والساحلية.كما تستهدف هذه المبادرة أيضًا إلى تشجيع مشاريع الطاقة المتجددة التي ستوفر نصف إنتاج الكهرباء داخل البلاد بحلول 2030م، وتخفيض الانبعاثات الكربونية بمقدار 130 مليون طن سنويًا، وكذلك استرجاع المواد والطاقة من النفايات بنسبة طموحة تصل إلى 94 في المائة، فلا يذهب إلى المطامر أكثر من 6 في المائة منها.أما إقليمياً، فتسعى مبادرة "الشرق الأوسط الأخضر" إلى زراعة 40 مليار شجرة إضافية بهدف استصلاح نحو 200 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة، وخفض انبعاثات الكربون العالمية. كما ستتضمن المبادرة نقل المعرفة وتبادل الخبرات للمساهمة في خفض انبعاثات الكربون من قطاع النفط في المنطقة بأكثر من 60 في المائة. ومن جهتها، تضع دولة الإمارات العربية المتحدة خططًا مشابهة. حيث تتضمن مشروعات شركة "أبو ظبي الوطنية للطاقة" زيادة الإنتاج من مصادر الطاقة المتجددة (الطاقة الشمسية وطاقة الرياح) إلى 30 في المائة خلال العقد المقبل. وتمتلك الشركة واحدة من أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم بـ "أبو ظبي" وهي في طور الإعداد لبناء أخرى أكبر.

 

التداعيات المتوقعة على علاقات دول مجلس التعاون الخليجي بالدول الكبرى

تزايد الضبابية بشأن مستقبل النفط في العالم مع الزخم المتنامي، من جانب الدول الغربية وشركات النفط العملاقة، للالتزام بسياسات مناخية لعالم بلا انبعاثات كربونية، يفتح الباب أمام مسارات متنوعة في العلاقات الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي.

فمن ناحية، قد تجد هذه الدول فرصًا هائلة وكبيرة للتعاون مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والصين في مشروعات الطاقة الجديدة وكفاءة الطاقة، أو فيما يسمى "بالاستثمارات الخضراء، أو الصديقة للبيئة"، نظرًا لما تتمتع به الدول الخليجية من وفرة في مصادر الطاقة المتجددة، خاصة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. ومما قد يدعم من هذا التوجه التعاوني أن كثيرًا من العواصم الخليجية قد حققت تقدمًا ملموسًا، خلال الآونة الأخيرة، في الاهتمام بمشروعات الطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة من قبيل وضع الأنظمة القانونية والمالية واللوائح التنظيمية وتوفير الكوادر البشرية المؤهلة لمثل هذه المشروعات.

وفي المقابل، قد تتوتر العلاقات الخليجية مع بعض الدول الغربية، إذا ما استمرت هذه الدول في اتباع سياسات وتوجهات "عدائية" تطالب بتقليص إنتاج وتصدير النفط والغاز الطبيعي، أو بفرض رسوم جمركية أو ضرائب جديدة على النفط ومشتقاته، أو بتطبيق عقوبات على الدول المنتجة للنفط والغاز في العالم، أو المطالبة بتعويضات نتيجة الآثار المناخية السلبية بسبب حرق الوقود الأحفوري. ولعل الوصف الذي أطلقه وزير الطاقة بالمملكة العربية السعودية الأمير عبد العزيز بن سلمان على خريطة الطريق التي أعلنتها وكالة الطاقة الدولية شهر مايو الماضي، بأنها الجزء الثاني لفيلم هوليوود الشهير "لا لا لاند"، من المؤشرات الدالة على إمكانية تصاعد مثل هذا التوتر في المستقبل.

ومن ناحية ثانية، قد تميل دول مجلس التعاون الخليجي إلى تعزيز العلاقات مع الدول الآسيوية، التي من المتوقع أن تصبح بالتدريج الأسواق الرئيسية لصادراتها النفطية والغازية، خاصة مع التقديرات السائدة بشأن حدوث ارتفاع كبير في الطلب على النفط والغاز في دول مثل الصين والهند ودول جنوب شرق آسيا. فوفقًا لتقرير صدر عن شركة الاستشارات العالمية وود ماكينزي، في يوليو 2020م، سوف يتزايد الطلب على النفط في آسيا المطلة على المحيط الهادي باستمرار لفترة طويلة من الزمن، رغم الانخفاض الذي لحق به بحوالي 1.8 مليون برميل يوميًا على أساس سنوي في عام 2020م، نتيجة لانتشار فيروس كوفيد 19. فمع حلول عام 2040م، من المتوقع أن يزيد الطلب على النفط في دول آسيا-المحيط الهادئ بمقدار 25 في المائة (9 مليون برميل يوميًا) ليصل إلى 44.8 مليون برميل يوميًا مقارنة بالمستوى الذي كان عليه في عام 2019م، مدفوعًا بالنمو الهائل في قطاع البتروكيماويات وقطاع تكرير النفط. وسوف يكون الإقليم مسؤولًا عن أكثر من نصف نمو الطلب العالمي على النفط في عام 2040م.

وفي هذا السياق، قد تصبح الصين من أكثر الدول الآسيوية التي سوف تهتم العواصم الخليجية بتطوير العلاقات معها لمواجهة الضبابية المحيطة بمستقبل النفط في العالم. حيث تعتبر بكين ثاني أكبر المستهلكين للنفط والغاز في العالم بعد الولايات المتحدة. وتستورد الصين 40 في المائة من احتياجاتها من النفط من الخليج، وسط تقديرات للوكالة الدولية للطاقة بأن يذهب نحو ربع صادرات دول مجلس التعاون الخليجي من النفط والغاز الطبيعي إلى الصين في 2040. وكانت الرياض أكبر مورد للنفط الخام إلى الصين في عام 2020م، (بحوالي 1.69 مليون برميل يوميًا)، مما دفع الرئيس التنفيذي لشركة "أرامكو" السعودية إلى التأكيد، خلال كلمته أمام منتدى التنمية الصيني مؤخرًا، عن إعطاء الأولوية لأمن طاقة الصين "خلال عشرات السنوات القادمة". وإلى جانب السعودية، من المنتظر أن تعتمد الصين أيضًا على قطر في الحصول على حاجتها من الغاز الطبيعي المسال، خاصة بعدما وقعت شركة "قطر للبترول"، في 22 مارس 2021م، اتفاقية طويلة الأمد مع مؤسسة الصين للنفط والكيماويات "سينوبيك"، لتزويدها بمليوني طن سنوياً من الغاز الطبيعي المسال، بدءًا من يناير 2022م، ومما قد يعزز من ميل الدول الخليجية إلى تعزيز علاقاتها المستقبلية مع الصين، حرص بكين، منذ سنوات، على التفاوض من أجل التوصل إلى عقد اتفاقية للتجارة الحرة مع دول الخليج؛ بهدف زيادة حجم التبادل التجاري بين الجانبين، خاصة بعدما وصل هذا التبادل إلى 190 مليار دولار في عام 2019م، كما توفر مبادرة الصين "حزام واحد وطريق واحد" من ناحية واحتياطيات دول مجلس التعاون الخليجي الهائلة من النفط والغاز من ناحية ثانية، قاعدة قوية ومفيدة لتعزيز التعاون بين الجانبين في المستقبل.

ومن ناحية ثالثة، ومع الاتجاه السياسي الغربي العام نحو التخلي عن النفط والغاز بأسرع وقت في إطار جهود مواجهة التغير المناخي العالمي، من المرجح أن تتعزز العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي وروسيا الاتحادية. حيث من المتوقع أن يكون لدى الجانبان الخليجي والروسي مصلحة مشتركة في مقاومة الضغوط الغربية فيما يتعلق بالتحرك بعيدًا عن الاستثمارات في النفط والغاز، كما أن الشركات الخليجية والروسية قد يكونوا أيضًا من أكبر الفائزين في المستقبل جراء النشاط الحالي لنشطاء المناخ ضد شركات النفط الكبرى. وربما يكون نجاح التعاون بين الرياض وموسكو في إطار تحالف أوبك+ أحد العوامل المشجعة على هذا التعاون في المستقبل.

المستقبل: تحديات صعبة

على أية حال، ليس من المؤكد بعد أن تتحول التكهنات السائدة بتراجع الطلب العالمي على النفط في السنوات المقبلة إلى حقيقة واقعة. فالتوجه الراهن والمتزايد نحو التخلي على النفط والغاز لإنقاذ الأرض من التغير المناخي تواجهه تحديات وعقبات صعبة، سواء على الصعيد الداخلي الأمريكي أو على الصعيد العالمي. أمريكيا، لا يعني الطموح الشديد لدى إدارة بايدن لمواجهة التغير المناخي العالمي، إمكانية تنفيذ جميع التعهدات والسياسات التي أعلنتها في هذا المجال، حيث توجد الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، والتي تستطيع أن تعطل وترفض تنفيذ العديد من هذه التوجهات. وهناك أيضاً أنصار الرئيس السابق ترامب في مجالس البلديات وفي عدد لا يستهان به من الولايات الأمريكية. وكل هؤلاء تتوافر لديهم الصلاحيات في الموافقة أو الرفض في منح الرخص لمشاريع بيئية عدة، منها منع السيارة المستعملة للبترول في مناطقهم أو القوانين البيئية التي يتوجب على المصانع ومحطات الكهرباء الالتزام بها. وبالإضافة إلى ذلك، ترتفع كثير من الأصوات المعارضة لتوجهات بايدن الرامية لمواجهة التغير المناخي، مشيرة إلى أن هذه التوجهات ستكلف الولايات المتحدة نحو 2 تريليون دولار، وبالتالي سوف تضعف قدرة الشركات الأمريكية التنافسية في عالم تحتدم فيه المنافسة مع لاعبين أقوياء، مثل الصين. كما يشير هؤلاء أيضاً إلى أن مواجهة ظاهرة التغير المناخي تحتاج أولاً إلى تحديد علمي أكبر وأدق لدور العوامل غير الطبيعية في هذه الظاهرة، قبل الحديث عن إجراءات بشرية للحد منها. ويستندون في ذلك إلى آراء بعض الأبحاث العلمية المحافظة التي تقول إن ظاهرة الاحتباس الحراري هي ظاهرة طبيعية دورية، لا علاقة للإنسان أو حرق النفط والغاز بها. بل إن البعض من هؤلاء المعارضين ينسب هذا الإصرار "العلمي" على تحميل النشاط البشري وحرق النفط والغاز المسؤولية، لنظريات مؤامرة كونية ومحلية داخل الولايات المتحدة من أجل إضعاف الاقتصاد الأمريكي لصالح الصين، التي تعتبر أكبر مُلوِّث للبيئة في العالم.

ورغم هذه التحديات الصعبة أمام إمكانية التخلي على النفط والغاز مستقبلاً في العالم، يمكن القول إن صناعة النفط في العالم، ومعها اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي التي تعتمد عليها كجزء رئيس في موازناتها العامة، قد أصبحت بالفعل في مفترق طرق خطير، نتيجة التوقعات المتنامية بأن يميل الطلب العالمي على النفط إلى الانخفاض مع تزايد الالتزامات الدولية بسياسات مناخية لعالم بلا انبعاثات كربونية، وسيكون لذلك تداعيات مهمة وطويلة الأمد على العواصم الخليجية، سواء على صعيد تنفيذ توجهاتها التنموية الطموحة أو على صعيد علاقاتها المستقبلية مع دول العالم المختلفة. وربما يكون إحدى التوصيات المهمة في هذا الإطار هي ضرورة الاستمرار في إجراء مزيد من الدراسات المتخصصة لمعرفة التداعيات المتوقعة لهذا التغير الجذري في قطاع الطاقة العالمي، بالتعاون مع مراكز الفكر المتخصصة. وهذا التوجه تقوده السعودية، ودول قليلة أخرى، أما باقي الدول فالنفق أمامها قد يكون مظلمًا ولا نور في نهايته.

مقالات لنفس الكاتب