array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 167

تحالف الضرورة ظهر بعد 18 شهرًا من المباحثات السرية بين 3 عواصم

الخميس، 28 تشرين1/أكتوير 2021

حدثان مهمان وقعا في أجزاء مختلفة من العالم خلال شهرى أغسطس وسبتمبر يصفان بدقة السياسة الخارجية الأمريكية الحالية: الخروج من أفغانستان وإطلاق الاتفاقية الأمنية الثلاثية "أوكوس" مع المملكة المتحدة وأستراليا. بينما ركز العديد من المعلقين على تداعيات هذه الاتفاقية على العلاقات الأمريكية ـ الفرنسية، فقد فاتهم أن الولايات المتحدة منشغلة بإعادة هيكلة قوتها في الساحة العالمية ولن تسمح لأي طرف، حتى الشركاء المقربين، بالوقوف في طريقها.

تعود جذور التطورات الحالية إلى السياسة الأمريكية طويلة المدى التي تركز على مواجهة الصين في عالم أصبح متعدد الأقطاب. جميع المشاريع الأخرى، مثل "الحروب الأبدية" التي كانت تهدف وفقًا للدعاية الأمريكية في البداية إلى تعزيز بناء الدولة الديمقراطية وتغيير الأنظمة وتأمين تواجد عسكري وقواعد وضمان تدفق البترول والغاز في مناطق ساخنة مثل الشرق الأوسط، تم التخلي عنها إلى حين؛ وهناك واقع جديد يفرض علينا قراءة مختلفة لكل الملفات.

في الأول من أكتوبر الماضي توجه وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكين إلى العاصمة الفرنسية محاولاً نزع فتيل الأزمة التى نشبت بين واشنطن وباريس في أعقاب الإعلان المفاجىء عن تحالف دفاعي ثلاثي استراتيجي يضم أستراليا والمملكة المتحدة وأمريكا، في البداية لبناء فئة من الغواصات التي تعمل بالدفع النووي، ولكن أيضًا للعمل معًا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ حيث يُنظر إلى صعود الصين هناك على أنه التهديدِ المتزايد. وهو الأمر الذي ترتب عليه إنهاء أستراليا عقدًا مع فرنسا، لبناء 12 غواصة تعمل بالديزل والكهرباء لتحل محل أسطولها الحالى من الغواصات Collins.

هذه الصفقة، هي الأولى التي تشارك فيها واشنطن تكنولوجيا الدفع النووي مع حليف غير بريطانيا حيث لم يسبق لواشنطن أن خرقت معاهدات الانتشار النووي إلا مع بريطانيا عام 1958م، والآن مع أستراليا بتزويدها بـ 8 غواصات تعمل بالطاقة النووية. يوجد في العالم منها 129 غواصة نووية تملك أمريكا منها 68 غواصة، وتملك روسيا 29 والصين 12، وبريطانيا 11 وفرنسا، 8 والهند 1.

وقال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس، إن "بلينكن والفرنسيين ناقشوا الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأزمة المناخ والانتعاش الاقتصادي بعد كورونا والعلاقة عبر الأطلسي والتعاون مع الحلفاء والشركاء لرفع التحديات واغتنام الفرص على المستوى العالمي". بينما وصف وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، الاتفاق بأنه "طعنة من الخلف".

ويبدو جليًا لمن يراقب تطور الأحداث أن أمريكا لا تثق بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تعاطيه مع الملف الصيني، فقد ذكر في أكثر من مناسبة أنه يريد توجيه مسار وسط بين قوتين عظميين، متحدثًا عن أوروبا المستقلة التي تعمل إلى جانب أمريكا والصين.

فرنسا كانت الدولة الوحيدة في أوروبا التى تبني استراتيجية للمحيط الهندي والهادئ في 2018م، حيث استمرت في إقناع ألمانيا والاتحاد الأوروبي بأسره بأن يحذو حذوها، لذلك استبعاد فرنسا من الترتيبات الأمريكية لا يتسبب في تداعيات اقتصادية تطال قطاع الصناعات الدفاعية الفرنسية فقط، بل يصل لمجمل السياسات الدفاعية لفرنسا ونظرتها لمحيطها الغربي وشبكة تحالفتها الاستراتيجية. 

"عقيدة أوستن" وإدارة المنافسة مع الحلفاء والأعداء

في سبتمبر 2020م، أجرت الولايات المتحدة مناورات تجريبية لمحاكاة معارك المستقبل. ووفقًا لسيناريو تلك المحاكاة فإن الصين تتصدر كتهديد وعدو تزداد خطورته على الأمن القومي الأمريكي؛ يتصور العسكريون الأمريكيون صراعات القرن الحادي والعشرين كحروب شبكية تشن على الأرض وفي الجو، وكذلك في الفضاء والفضاء الإلكتروني، بالتوازي مع إعادة التفكير في مسارح العمليات والانتشار والخروج من مناطق صراع تراجعت أهميتها الاستراتيجية وفقًا لأولويات فرضها التهديد الصيني المتصاعد على كافة الجوانب الاقتصادية والعسكرية.

وفي أول كلمات له كوزير دفاع أمريكى في إدارة الرئيس جو بايدن؛ حذر لويد أوستن من التهديدات الإلكترونية والفضائية الناشئة، إلى جانب احتمال نشوب حروب أكبر بكثير في مسارح عمليات قريبة. وقد عبرت تلك التصريحات وغيرها عن مخاوف من تنامي التحدي العسكري للصين. ودعا لويد إلى "رؤية جديدة" أو "عقيدة جديدة" للدفاع الأمريكي، محذرًا من أن النزاعات المستقبلية لن تشبه "الحروب القديمة". ودعا إلى حشد التقدم التكنولوجي وتحسين دمج العمليات العسكرية و"بناء التحالفات" على الصعيد العالمي من أجل "الفهم المشترك واتخاذ القرار والعمل بشكل أسرع". أوستن في تلك الكلمات السريعة يقفز فوق كل الكلاسيكيات؛ ويشير إلى مستقبل يتجاوز التصور التقليدي للمعارك وللأعداء ولطبيعة مسارح العمليات والتكتيكات والأسلحة المستخدمة. وبناء عليه؛ سحب أوستن ما لا يقل عن 11 بطارية صواريخ باتريوت وثاد من العراق والكويت والأردن والسعودية، ويسعى لسحب وإعادة إنتشار عدد كبير من القوات والمعدات منذ بداية إدارة بايدن.

وفي الإطارذاته؛ يُفسر ما أعلنه وليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية في 7 أكتوبر الماضى، عن إنشاء وحدة متخصصة في قضايا الصين باسم "مركز مهمة الصين"، معتبرًا في بيان رسمي بأن الصين أهم تهديد "جيوسياسي" تواجهه الكتلة الغربية في القرن الواحد والعشرين، ما يستدعي ضرورة تعزيز العمل الجماعي وبناء التحالفات عبر هذه الوحدة.

لقد أصبحت أمريكا في عهد جو بايدن وبريطانيا في عهد بوريس جونسون يركزان أكثر على المخاطر التي تتعرض لها مصالحهما من قوة الصين المتصاعدة، وتوافق هذا مع سعي أستراليا للأمن. وهكذا، على هامش قمة كورنوال G7 في يونيو الماضى -تم الاتفاق وإعتماد عناصر الخطة الجديدة والمضي في الإعلان عن تحالف "أوكوس" بعد محادثات سرية استمرت 18 شهرًا بين العواصم الثلاثة بهدف رسم واقع جيوسياسى جديد في المنطقة.

على جانب آخر؛ في 24 سبتمبر الماضي؛ احتضن البيت الأبيض، قمة مجموعة "كواد" (الحوار الأمني الرباعي)، بحضور الرئيس الأمريكي، ورؤساء وزراء أستراليا، والهند، واليابان. وحسب الإعلان الرسمي عن القمة، فإنها تهدف "مواجهة التحديات الرئيسية الراهنة، من كوفيد-19 إلى المناخ إلى التكنولوجيات الناشئة". وصنفت القمة على أنها محاولة جديدة لتحجيم النفوذ الصيني في منطقة "الإندو-باسيفيك"، والتضييق على مصالحها السياسية والتجارية في آن واحد. وتأتى ضمن الترتيبات الأمنية التي تقودها الولايات المتحدة لمواجهة الصين في أهم منطقة نفوذ لها وهي منطقة "الإندو-باسيفيك"، على اعتبار أن هذه المنطقة هي أساس ومحرك الاقتصاد العالمي، وترتبط اقتصاديًا بالاتحاد الأوروبي بشكل أساسي، وبالتالى فالولايات المتحدة تخطط لخنق الصين بمعادلة أمنية واقتصادية في آن واحد.

وجاء الإعلان عن صفقة الغواصات وسط حالة من التوتر والترقب تسيطر على العلاقات العسكرية الأمريكية ــ الصينية خلال السنوات الأخيرة إلا أن زيادة إيقاع الحركة والإصرار الصيني ساهم في التعجيل بإعلان التحالف الثلاثي. ففي يوليو الماضي، كشفت صور الأقمار الصناعية عن بناء حظائر جديدة غربي الصين، ومنها يمكن إطلاق صواريخ نووية عابرة للقارات، وقامت الصين بإنشائها في سرية تامة وبعيدًا عن أي رقابة. ويفسر خبراء عسكريون الخطوة الصينية بأنها دليل على تصميم بكين لتحديث ترسانتها النووية بسرعة، وعلى نطاق غير مسبوق.

إقليميا؛ أثار تحالف "أوكوس" مخاوف دول مثل ماليزيا، وإندونيسيا، والفلبين وفيتنام، وتايلاند، وكمبوديا، والتى ترى في حصول أستراليا على أسرار تكنولوجيا إنتاج وتشغيل المفاعلات النووية، وتشغيل الغواصات بالوقود النووي، مصدر تهديد إقليمي جديد، ويثير القلق بشأن التبعات البيئية لاستخدام الغواصات النووية. وردًا على "أوكوس"، أصدرت وزارة الخارجية الإندونيسية بيانًا قالت فيه أنها "قلقة للغاية بشأن استمرار سباق التسلح وإبراز القوة في المنطقة". هذه التصريحات تلقي الضوء على كيفية تأثير التطورات الجديدة باتفاقية "أوكوس" على محيطها الإقليمي. كما علق إندونيسيا تعاونها العسكري مع أستراليا، وألغت اجتماعًا كان مقررًا بين وزيري دفاع البلدين، بينما رحبت اليابان بالخطوة التى ترى فيها تحجيم لنفوذ الصين في المناطق المتاخمة لأمنها القومي.

رد الفعل الصيني والروسي

يبدو أن بكين مع إدراكها لحجم التواجد الفعلي للأسلحة والقوات في منطقة بحر الصين الجنوبي والانتشار في منطقة المحيطين الهندي والهادي والذى سبق الإعلان عن تحالف "أوكوس" ترفض أن تنجر إلى مواجهات عسكرية مباشرة مع أي طرف وخاصة أمريكيا؛ وترى أن ميدان تفوقها هو التنافس الاقتصادي والتجاري مع دول العالم وإقليم الجوار؛ وأن هذا الميدان بشكل عام يحقق لها قفزات في سبيل احتلال مكانة متقدمة عالميًا ويقلل جوانب المخاطرة والمغامرة؛ لذا كان رد فعل بكين على إعلان التحالف محسوبًا رغم ما أتهمت به التحالف والمعسكر الغربي الليبرالي بأنه إنعكاس لـ "عقلية الحرب الباردة" محذرة كل الدول من خارج الإقليم من التدخل في شؤونه وأنها تكتفي بمراقبة الوضع عن كثب.

وكان الرد المبدئي تحركًا إقتصاديًا؛ حيث تعد الصين الشريك الأكبر لجميع جيرانها وهى خارج كتلة تجارية رئيسية واحدة فقط في المنطقة، (أتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ CPTPP التي وقعت عليها عام 2016م، كل من أستراليا، وبروناى، وكندا، وتشيلى، واليابان، وماليزيا، والمكسيك، ونيوزيلندا، وبيرو، وسنغافورة، وفيتنام، إضافة إلى الولايات المتحدة التي قرر رئيسها ترامب سحب التوقيع عام 2017)؛ فتقدمت بكين صباح اليوم التالي لإعلان تحالف "أوكوس" بطلب إنضمام لـ CPTPP  تحديًا لاي محاولات حصار وعزلة تفرض عليها.

في جنوب آسيا، يمكن لبكين أن تعقد صفقة من نوع "أوكوس" خاصة مع باكستان مثلًا، التي لديها تعاون مكثف في المسائل النووية. سيكون هذا بمثابة رد من بكين لمواجهة الهند، التي حاولت واشنطن، على مدى السنوات القليلة الماضية، جاهدة الدخول معها في تحالف مناهض للصين. قد يؤثر هذا على توازن القوة التقليدى بين باكستان والهند، ويمكن أن يجبر نيودلهى على تغيير عقيدتها النووية.

في العام الماضي، ألمح وزير الدفاع الهندي راجناث سينغ إلى أن بلاده قد تغير سياسة عدم المبادأة باستخدام الأسلحة النووية. إذا حدث هذا، فقد يؤدى إلى سباق تسلح نووى متجدد في جنوب آسيا. حتى أنه قد يجبر بكين على تغيير سياسة عدم الاستخدام الأول، مما يؤدى إلى إحداث تأثير الدومينو الذي من شأنه أن يؤثر على الحسابات الاستراتيجية لجميع الدول الحائزة للأسلحة النووية. لطالما حاولت الهند التحوط بين الولايات المتحدة والصين. وأرسلت قوات إلى مناورات زاباد العسكرية التي أجرتها روسيا مؤخرًا في بيلاروسيا وهي عضو كامل العضوية في منظمة شنغهاى التي تقودها الصين، إلى جانب باكستان. ومع ذلك، إذا استجابت بكين لـ "أوكوس" بالمثل من خلال دعم الجيش الباكستاني، فقد يجبر هذا نيودلهي على تعزيز تحالفها مع الولايات المتحدة بشكل أكبر.

انضم بعض المسؤولين الدبلوماسيين الروس إلى نظرائهم الصينيين في التعبير عن مخاوفهم من أن تطوير أستراليا لغواصات تعمل بالطاقة النووية (بمساعدة أمريكية وبريطانية) من شأنه أن يقوض معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية و"يسرع سباق التسلح" في المنطقة. السيناريو الأكثر دراماتيكية، يمكن لروسيا والصين تشكيل تحالف بحري مضاد لمواجهة القوة العسكرية المشتركة لاتفاق "أوكوس". فضلاً عن ذلك ستسعى موسكو وبكين إلى التنسيق في ما بينهما لملء كل "مساحات الفراغ" التي تنشأ عن الإنسحاب الأمريكي من بعض المناطق خاصة الشرق الأوسط وإفريقيا إقتصاديًا وعسكريًا.

الانفلات النووي

أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إنها ستحقق في أمر تحالف "أوكوس"، ومدى إختراقه للقواعد والضوابط المستقرة مع الآخذ في الأعتبار أن هناك ست دول تستخدم بالفعل هذه التكنولوجيا لتشغيل غواصاتها.

إن اتفاق "أوكوس"، الذي ينص على توفير غواصات تعمل بالطاقة النووية إلى أستراليا من خلال نقل التكنولوجيا من قبل بريطانيا والولايات المتحدة، يستخدم ثغرة نادرًا ما تستخدم في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT). يسمح هذا للدول غير الحائزة للأسلحة النووية بتحويل المواد الانشطارية بعيدًا عن تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية إذا تم استخدامها لأغراض "سلمية"، مثل استخدام الوقود النووي في دفع الغواصات. معظم الدول التى تمتلك أسلحة نووية اليوم طورت القدرة تحت الذريعة الأولية للأغراض السلمية، مثل توليد الكهرباء، والبحوث.

تبلغ الكمية النموذجية لليورانيوم عالي التخصيب اللازم لصنع سلاح نووى واحد حوالي 25 كيلوجراماً. الكمية المحتمل أن يتم تحويلها إلى أستراليا لتشغيل غواصاتها سيكون ما بين 100 و200 ضعف تلك الكمية. وهذا سيكون خارج مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وهو الأمر الذي يثير رغبة الطامحين النوويين المحتملين مثل الأرجنتين والبرازيل، كندا، إيران، اليابان، وكوريا الجنوبية، من أنهم ينبغي أن يكونوا قادرين على بناء مفاعلات نووية بحرية. والخوف هو أن تلك الدول، بعد حصولها على وقود المفاعل بحجة أنها ستستخدمه فقط لتشغيل الغواصات، ربما تنقلب وتستخدم الوقود لصنع قنبلة نووية، وتحتفظ بالوقود النووي خارج رقابة الوكالة الدولية. وربما تزيد روسيا مبادلاتها التكنولوجية مع الهند، والصين من المحتمل أن تقدم تقنياتها في مجال المفاعلات النووية لباكستان. والبرازيل ربما تجد بمزيد من السهولة سوقًا لمشروعها المتعثر لبناء مفاعل غواصة نووية.

لقد غضت واشنطن الطرف عن سعي حلفائها الدائم وراء التكنولوجيا النووية، واتبعت نهج "المعايير المزدوجة" بشأن الصادرات النووية واستخدامها، ففي الثمانينيات منعت أمريكا كلاً من فرنسا وبريطانيا من بيع غواصات نووية لكندا بحجة خطر الانتشار النووي، واليوم تمنحها لأستراليا. هذا فضلاً عن عدم الضغط للكشف عن القدرات النووية الإسرائيلية الحقيقية والتى ستسعى بدورها للحصول على غواصات تعمل بالدفع النووي على غرار الحليف الأسترالى.

التداعيات على الشرق الأوسط والخليج

أشارت إدارة بايدن إلى أنها تسعى لتقليل مشاركتها العسكرية في "الشرق الأوسط الكبير"؛ وهو مفهوم جيوسياسي يتطابق مع نطاق عمل القيادة المركزية الأمريكية الذي يبدأ من كينيا والقرن الإفريقى وحتى باكستان مرورًا بالمنطقة العربية ويشمل أفغانستان بسبب التداخل الجغرافي والسياسي.

وركزت الأشهر الستة الأولى لإدارة بايدن في الشرق الأوسط على الحد من التدخل الأمريكي المباشر في المنطقة، وبدلاً من ذلك أعطت الأولوية للاستجابة لوباء كوفيد 19 والأزمة الاقتصادية في الداخل مع البدء في معالجة التحديات العالمية الرئيسية مثل تغير المناخ والمنافسة مع الصين وروسيا. وذلك إتساقًا مع العقيدة السياسية الشائعة بين بعض أعضاء فريق الشرق الأوسط في إدارة بايدن؛ وهو: "لا مزيد من التدخل في الدول الفاشلة" وعدم التورط في "الحروب الأبدية"، مما يشير إلى أهداف وعملية لسياسة واشنطن في المنطقة.

هذا الأمر دفع قادة دول الشرق الأوسط إلى بدء حوار يهدف إلى الانفراج والإنفتاح على كل الملفات دون شروط مسبقة، بدلاً من الاعتماد على الغرباء وقرروا فتح كل الملفات والقنوات المباشرة وغير المباشرة مع كل عدو وصديق في الجوار الإقليمى إدراكًا منهم بأن الثقل والأمن الإقليمى سيتحقق بقدر ما للدولة من تحالفات وعلاقات إقتصادية قوية داخل الإقليم.

بدأت قنوات الحوار بين إيران والسعودية في التطرق إلى نقاط الخلاف والصدام حول اليمن وسوريا والعراق ولبنان ومساحات الحركة والتقاطع بين المصالح ووضع التهديدات المباشرة وغير المباشرة على الطاولة. كما تحاول الإمارات العربية المتحدة ومصر، على طرفي نقيض لتركيا وقطر في الحرب الأهلية الليبية وغيرها من الملفات، إصلاح العلاقات. والعراق، الذي يكافح من أجل البقاء كدولة موحدة، يحاول القيام بدور الجسر الإقليمي عندما استضاف قمة جمعت كل خصوم المنطقة.

وقد عبر أنور قرقاش؛ مستشار رئيس الإمارات للشؤون الخارجية عما يدور في أذهان قادة المنطقة وطواقم العمل السياسي والأمني من حولها بشأن التحولات الاستراتيجية الناجمة عن الانسحاب الأمريكي "أو إعادة الانتشار" من بعض المناطق وإعلان تواجدها وأهتمامها بمناطق أكثر حيوية لها عندما صرح بأن بلاده تحاول إدارة التنافس الدائر منذ فترة طويلة مع إيران وتركيا عن طريق الحوار لتجنب أى مواجهات جديدة في المنطقة. وأرجع قرقاش ذلك في تصريح له في مؤتمر السياسة العالمية الذي عقد في الثانى من أكتوبر إلى: "أن هناك عدم تيقن بشأن مدى التزام الولايات المتحدة تجاه المنطقة ومخاوف من "حرب باردة وشيكة" بين واشنطن وبكين... سنرى في الفترة المقبلة حقيقة ما سيحدث فيما يتعلق بالوجود الأمريكي في المنطقة...لا أعتقد أننا نعرف بعد، لكن أفغانستان كانت اختبارًا بالتأكيد، وصراحة كان اختبارًا مقلقًا للغاية...جزء مما يتعين علينا القيام به هو إدارة منطقتنا بشكل أفضل، هناك فراغ وكلما كان هناك فراغ ظهرت المشكلات".

من جانبها؛ وللتعامل مع تلك التحديات وفي وقت مبكر، سعت إدارة بايدن إلى رفع شعار الدبلوماسية بديلاً عن التورط في نزاعات الشرق الأوسط عسكريًا؛ بداية من خلال العمل مع الشركاء الأوروبيين والقوى العالمية الأخرى لإعادة إشراك إيران في المحادثات الدبلوماسية الهادفة إلى إحياء الاتفاق النووي لعام 2015م. كما عينت أيضًا مبعوثين خاصين مكلفين بإنهاء النزاعات في اليمن وليبيا ومعالجة القضايا المتعددة في القرن الإفريقي. شاركت جميع هذه الجهود لاعبين إقليميين مثل السعودية، مصر، قطر، والإمارات. واستضاف بايدن هذا الصيف قادة الأردن والعراق وإسرائيل. بالإضافة إلى ذلك، بدأ وزيرا الخارجية والدفاع في إدارة بايدن وفرق الشرق الأوسط التابعة لهما في إشراك القادة والمسؤولين في إسرائيل ومصر والسعودية وشركاء رئيسيين آخرين لتنسيق نهج جديد في المنطقة. كما أشارت إدارة بايدن إلى نيتها إعادة التوازن إلى الموقف العسكري الأمريكي في "منطقة عمليات القيادة المركزية" أثناء إجرائها مراجعة عالمية للوضع وكي لا تكرر أخطاء الإنسحاب من أفغانستان.

وحتى مع سعي إدارة بايدن لإعادة التوازن في نهجها، فقد شنت ضربات عسكرية ضد خصوم يهددون القوات الأمريكية والدول الشريكة في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك ضربات ضد الميليشيات المدعومة من إيران في العراق وسوريا. ودفعت اشتباكات مايو 2021م، بين إسرائيل وحماس الولايات المتحدة بشكل مباشر إلى القضية الإسرائيلية الفلسطينية أكثر مما خططت له إدارة بايدن في البداية حيث أدى الجمود السياسي المطول في إسرائيل والانقسامات المستمرة بين الفلسطينيين إلى تبني هذه الإدارة نهجًا إلى حد ما منضبطًا يتضمن تجديد بعض المساعدات الأمريكية التى أوقفتها الإدارة السابقة واستئناف الاتصالات الدبلوماسية مع قادة السلطة الفلسطينية. تلعب الولايات المتحدة دورًا يتمثل في العمل مع الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية مثل مصر لاتخاذ إجراءات عملية لإنهاء الصراع؛ لكن البيئة الحالية على الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية لا تزال تواجه تحديات من الثغرات الرئيسية في الأمن البشري الأساسي، بما في ذلك الوباء المستمر.

ستستفيد إيران من "أوكوس" لتعزيز أهدافها النووية. لأنه إذا كان بإمكان أستراليا امتلاك المزيد من المواد النووية، فيمكن لإيران أيضًا أن تجادل. وستشرع طهران في الترويج لدعاية مكثفة لتبرير زيادة تخصيب اليورانيوم. وقد انتقد وزير الخارجية الإيرانى السابق جواد ظريف بالفعل الولايات المتحدة وبريطانيا لاستثناء أستراليا، التى مثل إيران من الدول الموقعة على معاهدة حظر الانتشار النووي. كما بدأ أعضاء البرلمان الإيرانى أيضًا في التشكيك في مصداقية الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التى تراقب (عندما تستطيع) التزام طهران باتفاقية ضمانات معاهدة حظر الانتشار النووي وخطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، والمعروفة أيضًا باسم الاتفاق النووي الإيراني.

في ظل النظام المتشدد الحالى، قد تنسحب إيران ببساطة من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، كما فعلت كوريا الشمالية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهذا التصعيد النووي الإيراني قد يؤدي إلى مواجهات إيرانية إسرائيلية في عدد من مسارح العمليات في المنطقة تشارك فيها الأذرع الإيرانية في سوريا ولبنان والعراق واليمن وقطاع غزة بما تمتلكه من صواريخ وطائرات مسيرة قادرة على تجاوز قدرات القبة الحديدية الإسرائيلية لو تزامنت هجماتها.

سيؤدي هذا السيناريو إلى انهيار كل ما تبقى من الاتفاق النووي ويدمر أي فرصة ضئيلة لحدوث انفراج كبير ظهر في قمة الشرق الأوسط الأخيرة التي عقدت في بغداد وحضرتها جميع دول المنطقة تقريبًا عدا سوريا. إذا بدا أن انسحاب أمريكا من الشرق الأوسط للتركيز على محورها في آسيا من شأنه أن يجلب ما يشبه السلام إلى المنطقة، يبدو الآن أنه مع اتفاق "أوكوس"، يمكن أن يكون العكس هو الصحيح.

التوازن في الخليج العربي

يعمل القادة في دول الخليج على ابتكار استراتيجيات دقيقة للتعامل مع الحقائق الجيوسياسية الجديدة التي أوجدتها "الحرب الباردة" الجديدة في واشنطن وبكين.

لقد أدى الاتفاق الأمني ​​"أوكوس" إلى تصعيد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، أحدهما ضامن تقليدى للأمن في الخليج، والآخر، قوة صاعدة في المنطقة. كان قبول إيران في منظمة شنغهاي للتعاون كعضو كامل العضوية، والذي حدث بعد فترة وجيزة من الكشف عن "أوكوس"، تطورًا مهمًا من شأنه أن يقوض جهود الولايات المتحدة لعزل طهران قدر الإمكان. في المقابل؛ فإن قيام بكين بإدخال المملكة العربية السعودية إلى منظمة شنغهاي للتعاون كـ "شريك حوار" مؤشر على نوعية التوازن الذي يشكل السياسة الخارجية الصينية في الخليج.

هناك عدم ثقة متزايد بين دول مجلس التعاون الخليجي عندما يتعلق الأمر بأمريكا. والاتجاه هو منح فرص أكبر للاقتراب من الصين والابتعاد تدريجيًا عن الارتباط بالولايات المتحدة بعد الأحداث الكارثية الأخيرة في أفغانستان والعديد من اللحظات الكارثية الأخرى في السياسة الخارجية للولايات المتحدة طوال هذا القرن قد دفعت الدول الخليجية إلى النظر إلى تنوع العلاقات الأمنية على أنه ضروري بشكل متزايد. خاصة بعد فترة الرئاسة الفوضوية لدونالد ترامب، وكيف ردت إدارة ترامب سلبيًا على هجمات ضد أرامكو السعودية في سبتمبر 2019م، وصولاً لفك شفرة كل الرسائل التي صدرت عن إدارة جو بايدن والتي لا تقل في مجملها عن فوضوية فترة ترامب.

وتدرك الدول الخليجية أن الصين لا تنوي ولا ترغب في استبدال الولايات المتحدة كضامن لأمنها. لكنهم يدركون أيضًا أن المزيد من الصعود الجغرافي الاقتصادي للصين أمر حتمي عمليًا وأي شىء يفعلونه لدعم جهود واشنطن لإبطاء أو عكس هذا الارتفاع من شأنه أن يضعهم في مواجهة مع بكين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*خبير علاقات عربية وإقليمية -المركز المصرى للدراسات الإستراتيجية ــ زميل كلية الدفاع الوطني بأكاديمية ناصر العسكرية العليا

مقالات لنفس الكاتب