array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

دور النخب الأكاديمية بعملية الإصلاح في دول الخليج العربية

الجمعة، 01 نيسان/أبريل 2011

لقد ظلت دول الخليج العربية الأعضاء في منظومة مجلس التعاون الخليجي طوال الثلاثين سنة الماضية النموذج الأبرز في العالم العربي، والأكثر انفتاحاً ونمواً وتطوراً عن بقية الدول العربية، حتى أصبحت بمثابة المثل الرنان والرمز الأبرز الذي ينظر إليه الجميع بإعجاب وتقدير، فقد كانت تلك الدول تتقدم عن بقية نظيراتها العربيات في كافة المؤشرات التنموية والمبادرات الإنسانية. هذه الحالة من التنمية والتقدم ساعدت على تحييد كل الضغوط الداخلية والخارجية التي كان يمكن أن تبرز كتحد للنظام السياسي الحاكم في المنطقة الخليجية.

بات الإصلاح السياسي القضية الأكثر حضوراً في النقاش الداخلي الخليجي وطنياً وإقليمياً. هذه القضية ليست جديدة بحد ذاتها إلا أن الجديد هو اتساع السجال الدائر أفقياً ورأسياً. بمعنى امتداده إلى شرائح كبيرة من المجتمعات الخليجية، وتعمق مضمونه وسقفه وأفقه. وهذه مسألة تحسب لشعوب المنطقة ونخبها.

نظرية البحث تعتبر إحدى نظريات المرحلة الانتقالية ما بين التقليدية والسلوكية 

إن حديث الإصلاح يجب ألا يتم استغراقه وإجهاده في سجال مفاهيمي، كما يجب عدم تشويشه بالقول إن دول المنطقة عليها البدء بالإصلاح الاقتصادي والثقافي ثم الانتقال إلى ما هو سياسي. ونحن هنا في المنطقة شهدنا يوماً ما سجالاً شبيهاً بما يدور الآن، وكنا في ذلك مرآة عكست مناخاً عربياً أوسع. فقد كان الحديث في الخمسينات والستينات، واستتباعاً في العقد السابع من القرن الماضي، يدور حول ما إذا كانت وحدة العرب يجب أن تسبق حريتهم أو العكس. وما إذا كانت التنمية يجب أن تسبق الحرية أو العكس. ونخلص إلى القول إن الدعوة إلى تقديم الإصلاح الاقتصادي والثقافي على الإصلاح السياسي هي دعوة لوضع العربة أمام الحصان.

وثمة مقولة سجالية أخرى تثير الكثير من التشويش على حديث الإصلاح في المنطقة، هذه المقولة مفادها هل يجب أن يكون الإصلاح نابعاً من الداخل ومطالبه أم مستجيباً للخارج وضغوطه؟

إن هذا السجال أكثر خطورة على المنطقة من سابقه، ذلك أنه يلغي ضمناً حقيقة أن الإصلاح مطلب قديم بقدم الإنسان نفسه. وليس ثمة من يقول إن على الأمم أن تتجمد وتراوح مكانها. ومن نافل القول إن ثنائية الأصالة - المعاصرة ثنائية زائفة يجب عدم الوقوع في شراكها. ذلك أن التزام الأمم بقيمها لا يعني امتناعها عن الأخذ بمعطيات العصر وضروراته. كما أن على مثقفي المنطقة عدم إضاعة وقتهم في التصدي للدعوات الدولية إلى الإصلاح، فهذا تموضع أيديولوجي في غير مكانه وغير زمانه، لأن العالم تداخلت مصالحه على نحو كبير، وأن ثنائية الداخل - الخارج تضاءلت إلى أبعد الحدود.

لكن اليوم وبعد الأحداث الشعبية والتطورات السياسية المتعاقبة في المنطقة العربية فإن مستقبل الدول الخليجية ليس من المتوقع أن يبقى على ما هو عليه، بل سيتغير من أجل أن يتمكن المواطن والقيادة السياسية الخليجية من استعادة إحساسهم بأن بلدانهم لا تزال في مستوى الريادة والتقدم في المستويات كافة عن بقية الشعوب العربية.

ولعل بداية الضغط على الدول الخليجية ستكون من نجاح النموذج الديمقراطي البحريني في الإصلاح. فنجاح المطالب الشعبية في إحداث إصلاحات سياسية هناك سيشجع شعوب الدول الأخرى القريبة من التركيبة السكانية البحرينية على المطالبة بمثل تلك الإصلاحات.

لكن التحركات لن تكون شبيهة بالتي حدثت في الدول العربية الأخرى التي اعتمدت أسلوب التظاهر الشعبي الكبير، بل ستكون هناك مطالب داخلية من فئات مجتمعية مختلفة ستمثل ضغطاً على الحكومات الخليجية لإحداث إصلاحات في هذا المجال، أي إن الإصلاح الخليجي والمطالبة به ستكون أكثر هدوءاً من الإصلاح والمطالبة التي تمت أو تتم في الدول الأخرى من العالم العربي.

لذلك فإن خير وسيلة هي اتباع سياسة الاستباق أي استباق الأحداث، بحيث تصبح الدول الخليجية في مضمار سباق مع الأحداث حتى لا تتمكن الأحداث من أن تسبقها. لقد كانت هذه هي السياسة المتبعة من قبل الدول الخليجية طوال السنوات الماضية، ونجحت فيها نجاحاً بارزاً، فلقد تفاعلت دول الخليج كافة مع الأحداث وأبدت بعضها إدخال تعديلات اقتصادية إيجابية تصب في خدمة المواطن.

ونعتقد أنها خطوة مهمة سيكون لها بالغ الأثر في استمرار حالة الأمن والاستقرار في دول هذه المنطقة. وهذا بالطبع ما نصبو إليه جميعاً، لكن وتيرة الأحداث لا تتطلب التوقف عن إحداث تغيرات اقتصادية وحسب، بل إن التغيرات التي لا بد أن تحدث في الدول الخليجية بحاجة إلى أن تشمل إدخال فكر اجتماعي جديد يعزز المواطنة.

دول الخليج تتفاوت في مقدار خطوات الإصلاح السياسي التي أقدمت عليها 

كما أن التغيرات لا بد أن تشمل التطوير السياسي من خلال إشراك المواطن في عملية صنع القرار وعدم تهميش دوره وتركيز عملية صنع القرار في فئة معينة من دون غيرها، فالحريات السياسية التي سيتمتع بها المواطن العربي في العديد من الدول العربية جراء التطورات السياسية فيها ستجعل المواطن الخليجي يحس بدرجة من التراجع بعد أن كان ينظر إليه على أنه أكثر تقدماً عنهم في هذا.

ومن هذا المنطلق سوف يتم الاقتراب من نظرية النخبة لتحديد معطياتها وإمكاناتها المنهجية التي يمكن أن تسهم في فهم وتفسير الظاهرة السياسية في الواقع العربي وذلك من خلال الخطوات التالية:

أولاً: المعطيات المنهجية لنظرية النخبة

تعتبر نظرية النخبة واحدة من نظريات المرحلة الانتقالية ما بين التقليدية والسلوكية، وإن كانت قد استطاعت الاستمرار والحفاظ على الحيوية المنهجية والاقتدار التحليلي طوال المرحلة السلوكية وما بعدها، وذلك لما تتميز به من إصابة في تحديد المدخل المناسب لفهم النظم السياسية وتحليلها. وذلك عبر النقاط التالية:

1- تبعية الظاهرة السياسية وعدم استقلاليتها: تنطلق نظرية النخبة- مثل التحليل الطبقي ونظرية الجماعات- من افتراض أن الظاهرة السياسية ظاهرة تابعة لظواهر أخرى ومن ثم فإنه لا يمكن فهمها في ذاتها وإنما يتم فهمها من خلال تحليل الظواهر المستقلة التي أوجدتها، لأن النظام السياسي متغير تابع للنظام الاجتماعي.

2- التقسيم الأفقي التراتبي للمجتمع: يقترب منظور النخبة- مثل رواد التحليل الطبقي- من المجتمع على أساس أنه بنية (هيراركية) مقسمة أفقياً إلى مراتب أو طبقات أو درجات بناء على معايير معينة قد تكون اقتصادية أو غير اقتصادية، لكنها في الحالات كافة لا تعترف بالتقسيم الرأسي إلى أعراق وأجناس وأديان وجماعات إثنية وأقاليم.

3- تركز القوة في يد أقلية وعدم انتشارها في المجتمع، حيث تعتبر النخبة والتعددية طرفي نقيض من الناحية المعرفية، فالنخبة ترى أن القوة في المجتمع مركزة في جماعة واحدة، بينما ترى التعددية توزع القوة وانتشارها وتشتتها بين الأفراد.

4- هناك دائماً أقلية مسيطرة على قمة الدولة والمجتمع، حيث يجمع مختلف مثقفي النخبة على أن هناك دائماً أقلية أو جماعة صغيرة تسيطر على البناء السياسي للمجتمع، وإن اختلفوا حول المفاهيم التي توصف بها هذه الجماعة وحول عددها وتكوينها الداخلي، وحول مصادر قوتها وكيفية حفاظها على بقائها واستمرارها.

غياب الإصلاح يؤدي إلى عرقلة وتخلف الخدمات المقدمة للمواطنين

5- دور القائد السياسي في تأسيس النخبة والحفاظ عليها: فقد تأسست نخبة عربية متعددة في فترات زمنية مختلفة اعتماداً على شخصية الزعيم ودوره، حيث أصبح هو محور ارتكازها ومبرر وجودها والمحافظ على استمرارها.

6- التعايش بين النخبة والنخبة المضادة، مما يعني أن الاقتصار في التحليل على النخبة الحاكمة قد لا يؤدي إلى تمام الفهم والتفسير، فنظراً إلى طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع في الواقع العربي، والأزمات التي عانت منها النخب العربية والتي تمثلت في (ضعف المصداقية لاتباع شعارات مخالفة ومناقضة للأفعال والفشل والهزائم المتتالية لبعض النخب العربية وضعف الثقة بين الشعوب والنخب) كل ذلك أدى إلى عدم استقرار شرعية معظم هذه النخب وبروز نخب مضادة تنازعها الشرعية سواء بوسائل سلمية أو عنيفة.

7- صعوبة الوصول إلى المعلومات المتعلقة بفهم وتحليل النخبة في النظم السياسية العربية نظراً لطبيعة هذه النخب وما تحيط به نفسها من سرية تضفيها على معظم المعلومات المتعلقة بها.

 دور النخبة

من البديهي أن الظواهر الاجتماعية والسياسية لا يستطيع الباحث الإمساك بها في ذاتها، وتقليبها أمام عينيه لفحصها، وإنما يتم التعامل معها من خلال وسائط معينة تتمثل في المفاهيم، والمناهج والنظريات.

والحال هكذا يصبح من الضروري أن يحيط الباحث بنظريات حقله المعرفي حتى يفهم إمكانات كل نظرية وحدودها ومواطن قوتها وضعفها، وقدراتها التفسيرية، ثم لا بد بعد ذلك من تحقيق قدر من الفهم لأهم ملامح ومحددات الواقع الاجتماعي والسياسي الذي توجد فيه الظواهر موضع الدراسة.

محاولات الدمقرطة السياسية بحاجة إلى تأمل وحرص من اللاعبين السياسيين 

إن التغيرات والإصلاحات الاقتصادية هي الأهم في اللحظة الحالية كخطوة استباقية أولى في معظم الدول الخليجية باستثناء البحرين بالطبع التي لا بد أن تبدأ بالإصلاح السياسي باعتباره مطلباً ضرورياً في المرحلة الراهنة، إلا أنه بالنسبة للدول الخليجية الأخرى فإن الإصلاح الاقتصادي لن يكون كافياً بعد فترة من الزمن، لذلك لا بد من التفكير الجدي من الآن في العمل على إدخال إصلاحات اجتماعية وسياسية في المجتمعات الخليجية تعيد إليها بريقها الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من أن يتم تجاوزه من مجتمعات عربية كانت في السابق في ذيل القائمة. وفي اعتقادنا أنها سوف تنجح لأن الواقع يثبت أن أنظمة الدول الخليجية غير جامدة بل صاحبة فكر مرن قابل للتطور.

والآن لنطرح السؤال التالي: أي إصلاح سياسي نريد وننشد؟

يمكن القول إن المشاركة الشعبية هي جوهر أي إصلاح سياسي، وأي خطوة لا تنتهي بتحقيق هذا الغرض لن تكون سوى قفز في الهواء.

وعلى دول المنطقة وهي تسعى إلى ذلك ألا تستغرق في الوسائل والأدوات بحيث تستنفد طاقاتها قبل الوصول إلى الهدف، إذ الاستغراق في النقاش القانوني والمفاهيمي وإطالة السجال حول المصطلحات والمسميات أمر لا جدوى منه، إنه يفوت على المنطقة وقتاً وجهداً هي بأمسّ الحاجة إليهما.

إن القوانين الانتخابية في دول المنطقة يجب تنظيمها بحيث تعكس الحقائق القائمة على الأرض لا أن تقفز عليها. كما أن شعوب المنطقة يجب أن تتعايش فيما بينها بعيداً عن كافة أشكال التخندق الطائفي والقبلي. وينبغي علينا المراهنة على وعي مجتمعاتنا وتطور حس المواطنة لديها، هذه المواطنة التي ترى في الوطن قاسماً مشتركاً بين الجميع. وغني عن القول إن مفهوم المشاركة لا مكان فيه لمنطق الغلبة.

وإذا انتقلنا من الأدوات إلى الأطر، فإن المؤسسات المنتخبة يجب أن تعكس إرادة الناخبين، وخلاف ذلك فإن هذه المؤسسات تنتفي عن كونها مؤسسات تمثيلية. وإذا قررت دول المنطقة إقامة برلمانات فيجب أن تعطى صلاحيات تشريعية ورقابية كاملة وإلا فالأجدر الاستغناء عنها من الأساس.

وفي سياق مواز، يبرز الإصلاح الإداري كضرورة من ضرورات الإصلاح السياسي نفسه، لأن غياب هذا الإصلاح يقود بالضرورة إلى عرقلة وتخلف الخدمات المقدمة للمواطنين، والإطاحة بمؤشر المعايير أو تشويشه، وإيجاد بيئة طاردة لفرص الاستثمار الاقتصادي.

وتبرز قضية إصلاح التعليم باعتبارها قضية مرتبطة هيكلياً بالإصلاح الإداري نفسه، إلا أنها تتجاوزه على مستوى المدلول والمغزى.

إن إصلاح التعليم بالنسبة إلى دول المنطقة يمثل اليوم البعد الأكثر مركزية في مهمة نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، هذه الثقافة التي تقع موقع القلب من عملية الإصلاح السياسي ذاتها.

 لم يحظَ موضوع الإصلاح السياسي في دول الخليج العربية سوى باهتمام قليل من قبل المهتمين والباحثين. وجرت العادة - خاصة في الدراسات الأكاديمية الغربية - النظر إلى تلك الدول من زاوية اقتصادية بحتة، كمنتج للنفط ومستهلك للبضائع الأجنبية، ومدى تأثيرها في الاقتصاد العالمي وإلى حد ما دورها (أو دور بعضها) في حركة السياسة الإقليمية. لذا فإن الكتابات حول طبيعة النظم السياسية في الخليج وعلاقتها بعامل الاستقرار الداخلي والمنطقة قلّما بُحثت، وفي أكثر الأحوال يتم التعاطي مع المنطقة كما لو كانت مجرد بئر نفط بحاجة إلى حماية أجنبية من أطماع دول الجوار، وأن شعوبها متخلفة عن الركب الحضاري وتقتات على ثقافات وانتماءات عفا عليها الزمن.

وإذا كان ينظر إلى التنمية بمفهومها العام على أنها عملية شاملة ذات مضامين اقتصادية واجتماعية وسياسية، أي إنها عملية لا تقبل التجزئة،  وأن أي تحوّل في أحدها يقود دون مناص إلى تحوّل وتغيير في البقية، وهذا ما استقر على تعريفه معظم الباحثين، فإن التنمية الاقتصادية والاجتماعية في دول الخليج لم تبحث سوى في إطارها الاقتصادي والاجتماعي كالتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية وإيجاد قاعدة صناعية وتوزيع الثروة وما أشبه. لكن التنمية السياسية كنشاط يقوم به المواطن العادي من أجل التأثير في صناعة القرار الحكومي، ظلت الغائب الأكبر لدى صانع القرار، ولدى الباحثين والكتّاب، الأمر الذي أدى إلى التشكيك في حتمية (شمولية) التنمية، بالنسبة إلى بعض الدول.

وهناك من يجادل بأن التنمية في دول الخليج لا تستدعي بالضرورة تضمين الجانب السياسي، أي أنها لا تقترن بالضرورة مع المشاركة الشعبية في صنع القرار ولا مع تحويل الأنظمة السياسية فيها من أنظمة تقليدية تعتمد في شرعيتها وبقائها على معايير وقيم غير متوائمة مع متطلبات الدولة الوطنية الحديثة، إلى أنظمة تحظى من خلال الاختبار والاختيار الشعبيين بدعم جمهورها، وتشرعن نفسها عبر صناديق الاقتراع وإشراك المواطنين في العملية السياسية.

ولا شك في أن هناك تماثلاً يصل في بعض الأحيان إلى حد التطابق بين دول الخليج في توصيف أنظمتها والنسيج الاجتماعي فيها، كما لا شك في أن دول الخليج في مجملها تختلف عن بقية البلدان العربية في ما يتعلق بموضوع التنمية السياسية، لكن هذه الفوارق الناشئة من طبيعة الأنظمة نفسها ومن القيم الحاكمة في مجتمعاتها لا تجعلها تصل إلى حد اعتبارها نسيجاً خاصاً وحده لا تنطبق عليها موازين التغيير وسنن الكون.

وهناك ثلاث مقاربات لموضوعة التنمية السياسية: أولها يربط التنمية السياسية بمقدار ما يتحقق من إنجاز في مجالي التنمية الاقتصادية والاجتماعية. أي إن التنمية السياسية تبدو هنا كما لو كانت ناتجاً أو مخرجاً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. فالتطور الاقتصادي والاجتماعي وفق هذا الرأي سيؤدي إلى تطور في التنمية السياسية والممارسة الديمقراطية. أما المقاربة الثانية فتربط مؤسسات النظام السياسي بالتنمية السياسية، فبناء الأمة (Nation-Building) وتطور الهيكل الإداري للدولة من جهة الانسجام بين المطواعية تجاه التغيير وتحقيق قدر من الاستقلال لأجزائه وانسجامها مع بقية المؤسسات، مؤشران إلى إمكانية تطور في الممارسة والتنمية السياسية. في حين يربط أصحاب الرأي الثالث بين التنمية السياسية والقيم السياسية السائدة في مجتمع ما.

وبقدر ما يتعلق الأمر بدول الخليج فإن أول ما يتبادر إلى الذهن الجدل حول طبيعة دور (الدولة الريعية) وقدرتها على تقليص هامش إمكانية الإصلاح والتنمية السياسيين. فقد لعبت الدولة الريعية في الخليج والجزيرة العربية دورين متناقضين، فمن جهة سلبية، ساعدت الثروة على تعزيز جهاز السلطة الأمني والعسكري، وعززت مركزية اتخاذ القرار، وتأميم قنوات التعبير. كما أسهمت الثروة في إشغال المواطنين الخليجيين عن الموضوع السياسي والمشاركة في صناعة القرار بالجملة. ومن جهة إيجابية ثانية، كان لا بدّ لدول الخليج التي خاضت بعمق آفاق التنمية الاقتصادية والاجتماعية أن تواجه آثارها في ميدان السياسة أيضاً، والتي يمكن ملاحظتها في الميادين التالية:

1- قادت عملية التنمية (أو التحديث) إلى تطوير في ميدان التعليم، وأوجدت نخباً متعلّمة كانت في أشد الحاجة إليها في جهازها البيروقراطي الذي كان في طور النمو السريع. وربما يمكن القول، إن النخب في الخليج التي كانت، وربما لا تزال، أقل تمظهراً في نشاطها السياسي من مثيلاتها في الدول العربية.

2- إن التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي في الغالب عملية غير متوازنة. فبعض المناطق وبعض الطبقات الاجتماعية والجماعات الإثنية أو الدينية/ المذهبية تكون مهيّأة أكثر من غيرها لاستثمار العملية التنموية والإفادة منها، وهي بالتالي أكثر إلحاحاً على المشاركة السياسية، إمّا لكونها قد سبقت غيرها في ميدان التعليم والنمو الاقتصادي والخدمات الاجتماعية فتكونت لديها الحاجة ونما عندها التطلّع وتهيأت لاستثمار الفرص المتاحة أمامها نحو المشاركة السياسية.

3- أيضاً فإن عملية التنمية أثرت بشكل كبير في علاقة الدين بالدولة، وجعلت من الدين البوابة الواسعة التي يمكن أن يأتي عبرها أو بسببها الإصلاح السياسي. ومن الواضح أن أنظمة الخليج السياسية، وخاصة في السعودية، حريصة كل الحرص على عدم إقحام الجمهور في الشأن السياسي، رغم الحاجة الملحة إليه في أحيان كثيرة. فالسياسة شأن خاص، لكن الدين شأن عام، والمؤسسة الدينية - كما هي في السعودية - ومن الناحية النظرية لا تمثل جهازاً من أجهزة الدولة، ومشرعنة لنظام الحكم فيها فحسب، بل هي من الناحية النظرية (شريك سياسي). مثل هذه المؤسسة تطورت وتوسع دورها بسبب عملية التحديث المتواصلة، وصارت لها جامعاتها وإعلامها الخاص بها، بالإضافة إلى سلطاتها القضائية والرقابية والأمنية.

4- رافقت عملية التنمية ثورة في الاتصالات والإعلام الجماهيري، وقد استفادت دول الخليج من ذلك في عملية التأطير الذهني والثقافي لمواطنيها، وكانت إلى وقت قريب قادرة على التحكّم في ما يسمع وما يشاهد، الأمر الذي أضاف إليها قوّة غير عادية، لكن ثورة الاتصالات والمواصلات والإعلام، بدأت منذ عقد تميل إلى غير صالح التوجّهات السياسية والثقافية الحكومية. 

ومع أن التصويت على أسس إثنية أو قبلية أو مناطقية أو دينية أو عرقية أمرٌ مشهود في كل ديمقراطيات العالم ولا يحتاج إلى إثبات، كما أنه ليس مدعاة للاحتجاج، يضاف إلى أنه لا يعني بالضرورة تهديد وحدة الدولة وسيادتها، لكن ما يهدد وحدة الدولة هو غياب المشروع السياسي الحافظ لوحدتها، ومركزية الدولة الشديدة، واستئثار الجهوية بالحكم على قاعدة الانتماءات غير الوطنية. نعم، ربما تؤدي العملية الديمقراطية إلى تعزيز تلك الانتماءات في بداية التجربة، وقد تستمر معها، لكن الذي يبقى هو الهوية الوطنية والإجماع الوطني والانتماء الكبير.

يقال وهو صحيح إلى حد بعيد أن سبب غياب التنمية السياسية أو ضعفها في دول الخليج، يعود في جذره الأهم إلى أن الضغط الآتي من القاعدة الشعبية ضئيل، إما لافتقاد مبرراته عند البعض أو لشعور طاغ بالخوف من السلطات أو لغياب أو ضعف في الثقافة السياسية الصحيحة التي لا تفصل بين المواطنة الحقيقية والمشاركة السياسية، وسيادة رأي يميل إلى الأخذ بنخبوية ممارسة السياسة، وشرعية حكم الغلبة. ولهذا السبب وغيره بقيت دعوات الإصلاح محصورة في قطاع صغير من النخب الخليجية.

وهناك رأي آخر يتحفظ على التنمية السياسية بأنها تفسح المجال والفرصة لظهور العنف المحلّي، فالاختلافات بين الجماعات الدينية والسياسية والفكرية ستطفو على السطح وربما تفضي إلى صراع علني حاد بين هذه الجماعات، الأمر الذي يعزز الانقسام الداخلي بدل أن يلحمه، وقد يدفع بعضها إلى الاحتكام للسلاح لتعويض خسارتها في الشارع.

وبالمحصلة لم تسفر التجارب الخليجية والعربية مجملاً عن انفجار العنف وتمزيق للوحدة الوطنية بمجرد أن ولجت باب الإصلاح السياسي. صحيح أن محاولات الدمقرطة السياسية في بداياتها بحاجة إلى تأمل وحرص عليها من قبل اللاعبين السياسيين، من أجل إنجاح التجربة في بداياتها، والتعود على ممارستها، وإضعاف دعاة التشدد من قبل الحرس القديم الذي يقف بالمرصاد أمام التحول الجديد. هذه المرحلة الانتقالية خطيرة للسبب ذاته. وحتى الآن، في ما يتعلق بالبحرين والكويت كنموذجين حيين، لا نرى في التحولات السياسية الديمقراطية إلاّ تقوية للنظام السياسي، وتعزيزاً للحمة الاجتماعية الداخلية، وبعداً عن العنف الاجتماعي. رأينا كيف تحولت شعارات المتظاهرين في شوارع البحرين من النقيض إلى النقيض، أي من شعارات مناهضة للحكومة إلى مؤيدة لها. ولهذا كله، فإن التنمية السياسية حلّ للعنف القائم أو المتوقع، وليست مصدراً له.

 مقاربات ومقارنات

تتفاوت دول الخليج في مقدار خطوات الإصلاحية السياسية التي أقدمت عليها، كما تختلف المقاربات في ما يتعلق بكل دولة تقريباً. وتشذّ الكويت عن بقية دول الخليج في كونها أول بلد خليجي اعتمد دستوراً دائماً للبلاد، ووسّع المشاركة الشعبية في الحكم عبر الانتخابات، وأكثر بلد خليجي أفسح المجال لحرية التعبير وتشكيل التجمعات والنقابات وأخيراً الأحزاب. ويصل عمر التجربة الكويتية إلى أربعة عقود من الزمن، أي منذ السنوات الأولى للاستقلال. فتجربتها السياسية التي تعد أنضج تجربة خليجية حتى الآن، لم تكن فيما يبدو نتاجاً طبيعياً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ومن غير الواضح إن كانت تلك التنمية ودور الدولة الريعية قد دعّما أو أعاقا تطوّر التجربة السياسية الكويتية، والأمر الثابت هو أن عمر التجربة الكويتية عزّز استقرار البلاد الداخلي، وضمن بقاء العائلة الحاكمة بسلطات غير قليلة، وأن هذه التجربة كانت نتيجة طبيعية لنشأة الدولة الكويتية وتشكلها الحديث والتفاهمات التي كانت قائمة بين العوائل القاطنة فيها، ومن ثمّ إصرار القوى الاجتماعية والسياسية على الاحتفاظ بحقّها بالمشاركة في الحكم، رغم التحديات الشديدة الخارجية والداخلية التي عطّلت استمرارية مجلس الأمة لفترات محدودة خلال عقدي السبعينات والثمانينات.

أيضاً نلاحظ أن المملكة العربية السعودية هي أقلّ دولة خاضت ميدان التنمية السياسية بين دول الخليج والجزيرة العربية عموماً، أيضاً بسبب طبيعة نشأتها الحديثة ووسائل شرعنتها وشرعنة الحكومة القائمة فيها. ولا تزال الحكومة قادرة بما توفّرت لديها من وسائل اقتصادية وأمنيّة على مقاومة ضغوط التغيير، لكنها فشلت فيما يبدو في إقناع مواطنيها بأهمية التغييرات التي أحدثتها قبل نحو سبع سنوات (مجلس شورى معيّن، ونظام أساسي، ونظام المناطق)، فكل هذه الإجراءات لا ينظر إليها من قبل المواطنين على أنها تشكّل الحدّ الأدنى المطلوب للإصلاح. ويبدو في تجربة المملكة أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي المحرك باتجاه التنمية السياسية وإن لم ترغب السلطات في ذلك.

وعلى الأرجح فإن الاختناق السياسي الداخلي سيعبّر عن نفسه بصورة أوضح في الفترة المقبلة بوسائل سلمية وعنفيّة، وستجد الحكومة السعودية نفسها ملزمة بإحداث تغيير (غير شكلي) ولو كان من أجل تخفيف الاحتقان الداخلي، وإلا فإنها ستواجه فترة عصيبة لم تشهدها المملكة من قبل. إذ إن الضغط الداخلي، والخوف من تصاعد العنف، وتصاعد الأزمة الاقتصادية خاصة في المرحلة المقبلة حيث شهدت أسعار النفط هبوطاً حاداً متزامناً مع الضغوط الخارجية التي تواجهها الحكومة حالياً من قبل الولايات المتحدة لنزع فتائل العنف، ستكون على الأرجح أهم العوامل الضاغطة وراء أي تغيير سياسي قادم.

وفي سلطنة عمان كما في الإمارات وقطر، حيث الضغوط الداخلية ضعيفة واحتمالات العنف الشديد غير محتملة، والأزمة الاقتصادية لا أثر سلبياً واضحاً لها، فإنه ينظر إلى التنمية السياسية كما لو كانت آتية من الأعلى إما لزيادة استرخاء السلطات السياسية فيها، أو لتحسين صورتها في الخارج، أو هي محاولة استباقية لتفادي ما يحدث لأنظمة الجوار من اضطراب نتيجة لاختلال العلاقة بين الحاكم والمحكوم. لكن هذه الدول نفسها ومهما تأخّر الإلحاح الداخلي في التعبير السياسي عن ذاته، فإنها تدرك أن بقاء الحال من المحال، وأنها خلال العقود الأخيرة صنعت القاعدة التي ينطلق منها التغيير السياسي، وما عليها إلا أن تكيّف نفسها مع متطلباته بدل مواجهته.

 

مجلة آراء حول الخليج