array(1) { [0]=> object(stdClass)#13382 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 186

نجاح السعودية في مأسسة مبادرات حل النزاعات العربية يغير تاريخ المنطقة

الإثنين، 29 أيار 2023

أعادت الأزمة في السودان، على النحو الذي تفجرت به، طرح التساؤلات، التي كانت تتردد بشكل نمطي، عن منطقة عربية تتتابع عليها الأزمات، على نحو يشبه القدر الأزلي الذي لا مخرج منه، وجعلت هناك مشروعية للمقولات التي كانت تطلق جزافًا أحيانًا، أو من باب التندر أحيانًا أخرى، حول خصوصية منطقة منكوبة بأزماتها.

وبينما استغرب البعض من هذه الحالة العربية، وأطلق عليها حالة "الاستعصاء الخطير"، التي تحولت خلالها كثير من الحلول بحد ذاتها إلى أزمات، فقد ركز آخرون على قصور "النمط السائد في مقاربة الأزمات العربية"، معتبرين بأنه "مُرضٍ للقوى الإقليمية والدولية، لكنهُ مْهلٌك للعرب".

فلم يمض أشهر على الاتفاق السعودي / الإيراني، والاستقرار النسبي للأوضاع في اليمن، وبشائر المصالحة العربية مع سوريا، ولم يكد يطرح البعض مصطلح "تصفير الأزمات" العربية، حتى تفجرت أزمة السودان، في وقت افترض البعض أنه وقت للتهدئة والتسويات، وهو ما جدد المقولات حول خصوصية منطقة تأبى إلا أن تعيش في ظل أزمة مستمرة، وطرح السؤال: هل باتت الأزمات قدر هذه المنطقة؟

أولًا: التحليل العلمي للأزمات العربية:

في مقال مطول في صحيفة الشرق الأوسط (بتاريخ 7 فبراير 2018م)، قال أمين عام جامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، أن "الأزمات العربية استفحلت واشتدت حدتها واتسع نطاقها وطال أمدها حتى كادت، من فرط اعتياد الناس عليها وتعايشهم معها، تصبح هي القاعدة ودونها الاستثناء!"، مضيفًا بأنه "يسود الاعتقاد بأن غاية الممكن هو إدارة الأزمات وليس حلها"، وأن "إدارة الأزمة إن صلُحت لمُعالجة أوضاعٍ ممتدة وأزماتٍ منخفضة الحدة، فإنها لا يُمكن أن تُمثل استراتيجية ناجعة لإطفاء نيران مشتعلة وحرائق مُلتهبة".

وفي الحقيقة، فإن حديث الأمين العام للجامعة قبل 5 سنوات، كان يصف وضعية التعاطي الدولي مع الأزمات العربية، والذي انصب على إدارتها، وليس على تكثيف الجهود لأجل إطفائها، وهو نفس ما يجري الآن. لكن التحليل العلمي للأزمات العربية يبدد الاستغراب الأولي من كثرة هذه الأزمات وتتابعها، ويشير إلى أن الدول العربية تستبطن مختلف الأسباب التي تجعل انفجار هذه الأزمات أمرًا طبيعيًا، بالأخص قبل أيام أو أشهر من الوصول إلى التسويات.

فأزمات المنطقة تنفجر ليس فقط للأسباب الكبرى التي تتسم بها خصائص هذه الأزمات، لكنها تنفجر أيضًا عند اقتراب مرحلة التسويات، وبعد أن تكون الاتفاقات الخاصة بتسويتها قد أنجزت أو وقعت، وذلك يضع أيدينا على أسباب أخرى غير تلك التي قد تكون مستوطنة في كثير من الأزمات دون أن تنفجر، وهي تلك المرتبطة ببعض الجوانب الإجرائية الخاصة بقصور أجهزة المراقبة والإنذار والاستشعار، ونقص جهود المفاوضات والوساطات، وعجز الاتفاقات التي يجري التوصل إليها عن التعبير عن خريطة القوى أو استيعاب أهداف الأطراف، ربما لعدم إعطاء فترة كافية لبناء الثقة بينهم، أو عدم ثقتهم في الوسيط، وكل ذلك يسلط الضوء على جوانب ينبغي تعزيزها في عملية إطفاء الأزمات العربية مستقبلًا.

بعيدًا عن الأسباب الجوهرية لأزمات المنطقة، التي تتمثل أبرزها في: غياب مفهوم الدولة الوطنية، وطغيان الولاءات الطائفية والعرقية والمذهبية والقبلية، والفساد والفقر وعدم العدالة الاجتماعية، وانتشار السلاح والميليشيات على حساب الجيوش الوطنية، والتدخلات الخارجية على أثر الفراغ الاستراتيجي الذي نَجَم عن الثورات منذ عام 2011م، فإن الاقتراب أكثر من عنق الزجاجة أو التوقيت الزمني الذي تنفجر عنده شرارة الأزمات يشير إلى أسباب أخرى أكثر قربًا من الحدث. لذلك من المهم التمييز بين أسباب الأزمات العربية وبين أسباب انفجارها وتحولها إلى حروب أهلية وصراعات مسلحة، لأن توافر أسباب الأزمات لا يعني انفجارها بالضرورة. 

إن موضوع الورقة هو عن الدور العربي في إطفاء الأزمات، ومن ثم تتناول الأزمات النشطة التي تهدد بالتفجر والصدام العسكري، أو تلك التي تفجرت فعليًا وتحتاج لجهود إطفاء. ويخرج من هذا السياق، الأزمات الاقتصادية والإنسانية والبيئية .. وغيرها. كما أن الورقة تتعامل مع نقطة مختزلة ومصغرة في هذا النوع من الأزمات، وهي الخاصة بالدور العربي في إطفائها، وأدوار الوساطات وإجراءات عملية البحث عن تسويات، وملابسات وتحديات هذا الدور، وأوجه القصور التي تجعل أغلب محاولات التسوية العربية للأزمات تتعرض للفشل. وهو موضوع مهم في توقيته، بعدما خيّم الحديث عن الأزمات العربية على كلمات كثير من القادة العرب في قمة جدّة، وبالنظر إلى ما يراه البعض من المحللين من سيادة حالة "العقم الأممي"، بعد أن أصبحت التصورات الدولية لتسوية الأزمات العربية عقيمة واقعياً.

ثانيًا: التقسيم المرحلي .. والأبعاد الإجرائية:

تكشف النظرة بعدسات ميكروسكوبية في الأزمات العربية عن نقاط قصور أساسية في إجراءات التعامل مع هذه الأزمات، منذ لحظة تراكم مسبباتها وتفاعلاتها قبل الانفجار، وحتى انفجارها، وخلال أيام وأشهر وسنوات استمرارها، وحتى انتهائها بالتسوية أو بالكمون، وكثير من الأزمات العربية تخمد ليس للتوصل إلى تسويات وإنما لإنهاك الأطراف، ومن ثم تستمر أعراضها وأسبابها قائمة.  

ويمكن تقسيم مراحل أوضاع الأزمات العربية إلى ثلاث، كل منها قابل للتقسيم إلى مراحل أصغر لغرض التحليل والتعمق، ويمكن للدور العربي في إطفاء الأزمات أن يتدخل بشكل معين وفي توقيت محدد وبأجندة مختلفة، بحسب كل مرحلة من المراحل الثلاث، أو بحسب كل مرحلة تفصيلية صغرى داخل هذه المراحل، وتتمثل المراحل الثلاث فيما يلي:

المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل الصدام العسكري: هذه المرحلة تستبطن مسببات الانفجار، وتبدأ بتصاعد تدريجي لمقولات عدائية أو سلبية عن الآخر، ويمكن معرفتها برصد التصريحات المتبادلة بين الأطراف ومراقبة تصاعد حدة الخطاب السياسي والإعلامي في الساعات والأيام السابقة على تفجر الصراع، ومؤشرات التصعيد العسكري التي تتخذ عشرات الصور والأشكال التي قد يكون من بينها مؤشرات ظاهرة، كإعادة نشر القوات والمعدات والتوزيع على المواقع، أو مؤشرات غير ظاهرة تتمثل في مؤشرات الانزواء والتحصن بالجماعات والولاءات الأدنى وتراجع الالتزام بالتوافقات والشراكات الوطنية. فرصد الخطاب السياسي لأطراف الأزمة ومقولات القادة العسكريين والسياسيين قبل الأزمات تكشف عن أن الأزمات لا تنفجر فجأة، ولا تندفع الأطراف إلى الصدام العسكري قبل إصدار مجموعة من الإيماءات الكاشفة عن سلوكها ونواياها. وهذه المرحلة من أهم المراحل التي يمكن فيها الوصول إلى التسوية دون خسائر كبيرة، حيث أن الأطراف لا تكون قد انخرطت في الصدام أو تكبدت خسائر عسكرية وهزائم سياسية ومعنوية تندفع لتعويضها بالحرب لتحسين موقفها التفاوضي، أو تفقدها ماء الوجه حال الإقبال على التسوية.

وعلى الرغم من أن هذه المرحلة هي أيسر المراحل التي يمكن التدخل فيها وفرض تسوية للأزمة خلالها، إلا أنه في الأغلب ما كان هناك قصور عربي في بذل الجهود للتوصل إلى تسوية في هذه المرحلة، حيث تفجرت الأزمات في المنطقة مرارًا، ولم تسع أطراف عربية للوساطة وبذل الجهود لأجل منع الأطراف من الاندفاع نحو تفجير الأزمة والصراع المسلح، أو بذلت جهود لكنها لم تكن مؤسسية ولم تكن كافية، إما لعدم إدراك دول الوساطة لمستوى الانهيار في الموقف قبل انفجار الصراع، أو لسوء التقدير والحسابات لنوايا أطراف الصراع والانحياز لتقدير مسبق بعدم قدرتهم على خوض الحرب، أو لعدم تطور مفهوم استيعاب الأزمات وعدم تراكم خبرات الأجهزة المختصة أو المتخصصة، أو لفهم مغلوط من جانب أطراف خارجية –عربية أحيانًا- بأن تفجر الصراع يحقق مصالحها، بإضعاف طرفي الأزمة. وصحيح أن تسوية الأزمات في مرحلة "الإحماء" وقبل انفجارها هو عملية قد تكون أيسر، لكنها أيضًا ربما تشكل عقبة كبيرة، حيث يكون كل طرف معبأ سياسيًا ونفسيًا ضد الآخر، ويبدأ في تحشيد قواته، في مرحلة يسودها الثقة الزائدة بالذات والاستهانة بالخصم، مما يدفع إلى الصدام دون تقدير للحسابات الدقيقة للتكلفة الشاملة، وكل الأزمات والنزاعات انتهت إلى محصلة تكاليف بلغت ربما عشرات أضعاف المبالغ التي توقعها أطرافها منذ البداية.

ويثير الانتباه أنه في أغلب الأزمات العربية، سواء اليمن، سوريا، السودان، ليبيا، لبنان، كانت أطراف الأزمات على مقربة من التسوية قبل الانزلاق إلى المعارك مباشرة، وكانت الاتفاقات ببنودها التفصيلية على وشك توقيعها أو ربما جرى توقيعها، وفي بعضها انفجرت الأزمات بعد مؤتمرات حوار وطني، جرى توثيق وقائعه ومرئياته في تقارير ضخمة تضمنت وقائع جلسات الحوار، على نحو ما حدث في اليمن، أو التوقيع على اتفاق مبادئ على نحو ما جرى في السودان. هنا في الأغلب تندفع الأطراف إلى الانقضاض على بنود اتفاقات يراها بعضهم أنها قد تنهي مصالحه وامتيازاته، وتكون هناك ضغوط من داخل كل فصيل، لذلك تصبح الضغوط الداخلية وصراعات المصالح والقيادات، هي الدوافع الأساسية لتفجر الأزمات، ويبدأ كل فريق بالتحصن بدعاوى مبدئية وسياسية (على غرار ما قاله قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دوجلو -حميدتي من أنه يقف إلى صف الخيار المدني الديمقراطي). وفي الحقيقة فإن أغلب الأزمات العربية كان يمكن تسويتها وإنهاؤها، لو كان قد أنفق على التسوية 5 أو 10% فقط -وربما أقل-من التكلفة النهائية للحرب.

المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد تفجر الصدام: هذه المرحلة هي أطول المراحل، حيث تستمر بمقدار استمرار الصراع المسلح، وتدخل الأطراف إليها اعتقادًا بقدرتها على حسم الصراع وإنهاء المعارك وتحقيق النصر خلال أيام، فإذا بها تنزلق إلى حروب وصراعات مسلحة لسنوات، وربما لعقود. وتسمح مرحلة الصراع والحرب بإمكانات التدخل لتسوية الصراع أو الوصول إلى تهدئة وهدنات في فترات كثيرة خلال تفجره واشتعاله. لكن الأغلب أن أطراف الصراع تجد نفسها أمام إغراء يدفعهم إلى استمرار المواجهة، أملا في كسب المعركة؛ فتزداد لديهم بالتناوب نوازع العناد، مع تقلبات المواجهات والاشتباكات، حيث يندفع الطرف المتفوق في المعركة استشعارًا بقرب النصر، بينما يتجه الطرف الذي يلحق به خسائر في فترة ما، إلى العناد أكثر اندفاعًا بالشعور بأن الوقت غير ملائم له للدخول في تسوية، تفرض عليه تقديم تنازلات.

وهنا تختلف الأزمات التي تفجرت على وقع الخلاف بين أطراف داخلية في دولة أزمة، عن تلك التي تفجرت بين دولتين عربيتين أو أكثر، عن تلك التي يحدث فيها تداخل بين الأطراف الداخلية والأطراف الخارجية، كما يحدث الاختلاف فيما لو كان الصراع يدور بين جماعات وفصائل داخلية متناظرة (اليمن وليبيا) مثلا، أو بين هذه الجماعات والفصائل ونظام سياسي قائم (على نحو ما حدث في سوريا ولبنان). وعلى الرغم من أن هذا التقسيم للأزمات لا يضيف كثيرًا إلى حقيقة المشهد على أساس أن أغلب الأزمات العربية تتوزع بين أطراف كثر، ولها امتدادات داخلية وخارجية، إلا أن التقسيم يلقي الضوء على صعوبات التعاطي مع الأزمات العربية. فبعض دول الأزمات تتسم بتغلغل الدور الخارجي منذ فترة طويلة قبل تفجر النزاع المسلح، وفي بعضها يتعاظم التدخل الخارجي بشكل تدريجي مع تطور مراحل الأزمة، ولا يكون مؤثرًا في المشهد أو ملموسًا قبل تفجر الصراع أو عند تفجره أو بعد تفجره بفترة. وهذه الحالات من الأزمات تكون أكثر استعصاء على التسوية، لأنها تفاجئ الأطراف الداخلية بمتغيرات لم تكن في الحسبان. وفي أحيان كثيرة يكون الدور الخارجي متغلغلاً وموجودًا منذ سنوات، بينما يصعب على الأطراف الداخلية أن تتعرف إلى حجمه الحقيقي سوى بعد تفجر الصراع.  

وغالبًا ما تكون الأزمات من النوع الثالث (التي يتداخل فيها الداخلي مع الإقليمي أو الدولي) هي الأصعب على التسوية؛ مع ذلك فإن وجود الأطراف الثالثة (الإقليمي والدولي) يكون أحيانًا عاملًا مساعدًا على التسويات، رغم أن الأزمة قد تستغرق المزيد من الوقت لفض الإشكال ووجهات النظر بين كل طرف داخلي وداعمه الخارجي، وفي الأخير يصعب الحسم العلمي بما إن كانت الأزمات المعقدة والمتشابكة من حيث تداخل أطرافها أسهل على التسوية والحل أو أصعب، لأن هناك نماذج على هذا وذاك، لكن في كل الأحوال، تقدم الأطراف الإقليمية والداخلية على التسويات، حينما تكون في مراحل الإجهاد أو تقترب من مرحلة تعادل المكاسب والخسائر.

وفي الحقيقة، فقد تركت أزمات عربية سابقًا لتدخل مرحلة طويلة من الصراع المسلح دون أن تمتد لها يد العون والإطفاء العربية، بل أحيانًا امتدت الأيدي الإقليمية والعربية بما يضيف الوقود إلى النار المشتعلة، على نحو ما حدث في سوريا منذ 2011م، وما حدث بشكل محدود في ليبيا. لذلك على الرغم من أن أزمة السودان حاليًا تبدو في مرحلة التصاعد، إلا أنها لا تزال في المراحل التي يمكن استيعابها بتفاهمات ممكنة بين أطرافها، خاصة مع نجاح المملكة العربية السعودية في تبني نهج بنائي متدرج جديد في الوصول إلى التسويات، يعتبر أن كل اتفاق ولو جزئي هو درجة نحو الصعود على سلم التسوية.

هنا من المهم أن يجتهد العقل العربي في بناء تصورات لدرجات من التسويات الجزئية خلال مراحل الأزمات المزمنة، تتأسس على التجربة السعودية مع سوريا واليمن والسودان وتستفيد منها، وهي التجارب التي أثبتت نهجًا متطورًا في التعاطي مع الأزمات العربية، مع سوريا مبدأ "الخطوة مقابل الخطوة"، وبما لا يتعارض مع قرار مجلس الأمن رقم 2254، وهو المبدأ الذي يقر الاقتراب من النظام السوري بمقدار ما يقدم النظام نفسه عليه من خطوات تؤكد توجهه نحو الحل والتسوية والاعتدال. وهو النهج نفسه الذي اتبعته المملكة في اليمن، الذي لم يمنع الاجتماعات واللقاءات بين طرفي الصراع في ظل المواجهة العسكرية، وقبل بالهدنة تلو الهدنة قبل الوقف النهائي للحرب. وهو أيضًا النهج نفسه الذي سعت السعودية لتطبيقه في السودان عبر اتفاق جدة بين الجيش وقوات الدعم السريع، وهو الاتفاق الذي حدد نقاطًا للالتزام المتبادل وقواعد للاشتباك العسكري تضمن حماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية، وذلك قبل -ومن دون-التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. وهذا النهج السعودي الجديد في إطفاء الأزمات العربية، سوف يكون له نتائج بالغة الأهمية إن جرت دراسته وتأكيده عبر جهاز مؤسسي قائم بأطقم خبيرة ومتفرغة خصيصًا لهذه المهمة.

المرحلة الثالثة: مرحلة الإنهاك والقابلية للتسويات: وهي المرحلة التي تمر بها الأطراف بعد أن تكون قد أنهكتها سنوات الصراع المسلح. وعلى الرغم من أن حسابات الأطراف لخسائر سنوات الصراع بلا عائد، يفترض أن تدفعها إلى تبني مواقف متشددة من التفاوض، إلا أن تعاظم الإحساس بضغط الخسائر الهائلة وعدم إمكان تحمل خسائر جديدة، تدفعها لقبول التسويات. وفي هذه المرحلة يفترض أن تتكثف جهود الوساطة العربية، لأجل بناء وتأسيس تسويات تدوم، وإعادة بناء الدولة الوطنية، مع إقرار كل ذلك في اتفاقات تسوية وسلام شاملة، تكون محل مراقبة ومتابعة من أجهزة مختصة، دون الاقتصار على بيانات وإعلانات نوايا فردية أو مشتركة لا ضامن ولا رقيب على تنفيذ الأطراف لها من عدمه. وفي بعض الحالات اكتفت الدول العربية الوسيطة ببيانات مصالحة والتزامات وتعهدات متبادلة ومواقف شخصية تراجعت عنها أطراف الصراع تاليًا بسهولة ودون رادع، وفي بعض الحالات تركت الدول العربية المأزومة لمصيرها، أملا بأن تنتهي الأزمة من ذاتها، ولم تبذل جهود لأجل بناء تسوية تعيد الدولة الوطنية. وهذا ما حدث في الصومال، وفي العراق، وفي سوريا في العقد الثاني من القرن العشرين تحديدًا، وهو ما فرض الطرف الإقليمي (إيران وتركيا) كمتغير أساسي في المشهد الداخلي في البلدين الأخيرين. ولم تسع الدول العربية لجني الثمار الناضجة لأطراف الأزمة التي أنهكتهم، وإنما آثرت السلامة وتجنب عدوى الأزمات. ومن جوانب قصور التحركات في هذه المرحلة أن الدول العربية في مقاربتها للأزمات والتسويات، لم تمتلك خطة ومشروعًا لإعادة بناء الدولة المأزومة، وإنما اكتفت بتقديم الدعم الإنساني، وهو ما جعل مشروع التسوية أقل من كونه مشروعًا لإعادة الإعمار وبناء الدولة الوطنية.        

وفي الحقيقة فإن ما تفعله المملكة العربية السعودية حاليًا هو خروج على النمط التقليدي في التعاطي مع الأزمات العربية، ويمثل نهجًا جديدًا متعمقًا في فنيات التفاوض، ويجسد فعليًا عملية "إطفاء الأزمات"، واستباق أطرافها قبل أن تنخرط في مستويات لا عودة عنها من الصراع ويفوتها قطار التسوية، وهذا النمط الجديد من التسويات هو محل اختبار، ويمكن أن يضيف إلى خبرات الدبلوماسية العربية، على نحو ينهي الاقتراب من الصراعات العربية وفق النمط التقليدي ليدخلنا في معادلة حلول جديدة تنعكس إيجابًا على المنطقة، وهو نموذج لتسوية الأزمات مستقى من خبرات المنطقة، وليس من خبرة ومنهج علمي وفكري وتنظيري خارجي. حيث تؤكد جهود الوساطة السعودية الراهنة، أنه ليس من الضروري أن تصل الأطراف إلى مرحلة الإنهاك أو النضوج الداخلي، وفق المفهوم الأمريكي حتى يكون التدخل بجهود التسوية والتفاوض قابل للنجاح، وإنما المهم أن تصدق النوايا والجهود وأن تتحرك الدولة القائمة أو الراعية للتسوية وإطفاء الأزمة بمهارة وبسعي متحفز للوصول إلى التسوية بلا ملل أو كلل ومهما كانت العقبات، ولا مانع من أن تتحرك المملكة في ذلك كجزء من تعزيز رصيدها الدبلوماسي العالمي والعربي والإقليمي.

الخلاصة

تشير التجربة العربية في إطفاء الأزمات، إلى جوانب قصور تقليدية، تتمثل أبرزها في عدم إيلاء الاهتمام الكافي لما قبل اندلاع النزاعات ومؤشرات التصاعد في حدة التوترات التي تخلف بصمات أصابع تدل على الأزمات القادمة قبل وقوعها، وتمثل أجراس إنذار تدعو للحذر. وعلى الرغم من أن أغلب الدول العربية مستغرقة في أزماتها الداخلية التي قد تشغلها عن متابعة الأزمات في جوارها، إلا أنها سوف توفر على نفسها الجهد والمال الذي يرجح أن تنفق أضعافه بالضرورة تاليًا، إذا تهاونت في إيلاء الاهتمام الكافي للأزمات المتفاعلة في جوارها. وتؤكد التجربة العربية، أهمية الانطلاق في إطفاء وتسوية الأزمات في مراحلها التصعيدية الأولى، وقبل أن تتطور إلى مؤشرات صدام عسكري على الأرض، وفي هذه المرحلة من المهم تطوير أجهزة الإنذار المبكر، وأدوات وآليات التدخل السريع السياسية والمالية لأجل إطفاء الأزمات واستيعابها في مرحلة المهد.  

وتشير الأزمات العربية أيضًا، إلى أن انفجار النزاعات أتى أحيانا بعد توافقات كثيرة أو على مشارف إبرام الاتفاقات فعليًا، وجاء تفجر النزاع أحيانًا لإجهاض تلك التوافقات نزولًا على مصالح فصائلية أو جماعية أو شخصية ضيقة، وأحيانًا كانت القيادات ضحية ضغوط مصالح وامتيازات داخل فصائلها الخاصة دفعتها لخيار الحرب، وهو ما جاء أحيانًا لإجهاض توافقات رأتها أطراف الصراعات والأزمات أنها ستأتي على مصالحها وتحد من امتيازاتها، وهو ما يؤكد أهمية أن تتضمن الاتفاقات الاستباقية لإطفاء الأزمات توليفة من المبادرات التي تتضمن ترضيات وتوزيعات مصلحية تجعلها قابلة لتكون محل توافق مرحلي على الأقل، وليس بالضرورة قابلة للبقاء فترات طويلة، ولكن كمرحلة وسيطة تدفع أطراف الأزمة إلى التجاوب مع التسوية، الأمر الذي يمكن أن يؤسس لمعادلات جديدة، توفر فرصًا تالية لإبرام تسويات واتفاقات أشمل، فعدم تحقيق كل شيء لا ينبغي أن يعرقل التوافق على أي شيء يجري التفاهم عليه، وهناك محطات ومراحل كثيرة بين الانخراط في الصراع المسلح الشامل والحاد والممتد، والانخراط في مستويات صراعية أقل حدة، تعلن بها الأطراف عن ذاتها ولا تحرق خيوط التواصل والوفاق الداخلي. 

ويطرح النهج السعودي الأخير في تسوية الأزمات (والذي تأكد في ثلاث حالات (اليمن، سوريا، السودان)، الأمل في عقد سياسي عربي جديد يستهدف تسكين أزماته بنفسه ودون الاستعانة بالخارج، وفرض التسويات والوساطات عبر فرق تفاوضية ودبلوماسية ماهرة تتمتع بعزيمة وقوة الجيوش المسلحة، ومجموعات مهام خبيرة بتفاصيل ودقائق الأزمات. وهذا النهج الدبلوماسي ينطلق من ضرورة التعامل مع الأزمات العربية بمسطرة واحدة من حيث الهدف وهو ضرورة الإنهاء والتسوية (وإن بمنظومة أدوات متعددة)، وبمفهوم أنه لا ينبغي السماح بتمدد الأزمة العربية بغض النظر عن المصالح، لأن الضرورات الاستراتيجية والجيوسياسية تفرض ذلك. وهذا النهج السعودي الجديد يختلف عن النهج السابق في إدارة الأزمات العربية، الذي حذر منه السيد "أحمد أبو الغيط".

وفي الحقيقة، فإنه إذا نجحت الدبلوماسية السعودية في ذلك، وفي مأسسة مبادرات دبلوماسية حل النزاعات العربية، موظفة المكانة العالمية للمملكة والدبلوماسية السعودية، فإنها سوف تغير تاريخ المنطقة، التي يرجح أن تشهد تغيرًا نوعيًا في التعامل مع أزماتها وقضاياها.

مقالات لنفس الكاتب