array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 186

حل الأزمة برحيل كامل الطبقة السياسية ولبنان الطائفي جدار صلب بوجه لبنان الوطن

الإثنين، 29 أيار 2023

إذا كانت الأزمات قدراً تعيشه الشعوب والدول، وإذا كانت للأزمات أسبابها المألوفة، فالأزمات في لبنان هي أبعد من أن تكون قدراً، وأسبابها لشدة غرابتها تظهر وكأنها خارج سُنن المألوف.

 ولا نبالغ في القول إن نسبة مساهمة الشعب اللبناني في صناعة أزماته تتجاوز النصف، ليس لأنه لم يتعلم الدرس لغاية اللحظة، وإنما لأنه ورغم كل ما حصل ويحصل له، ينظر إلى وطنه من نافذة صغيرة؛ من نافذة الحزبية، وهي النافذة التي تارة تكون طائفية وتارة تكون مذهبية، وهذه النافذة ليست فقط ضيقة، وإنما مظللة بالعتمة القاتمة.

المسألة اللبنانية غير مرتبطة بوضع تشاؤمي أو وضع متهالك، بقدر ما هي مرتبطة بالعلاقة بين السبب والنتائج، فالنتائج التي يحصدها اللبنانيون مع كل أزمة، هي نتائج منطقية، لأنها أشبه بخلاصات لوقائع وأسباب واضحة وضوح الشمس.

دعونا في هذا المقال نجول في أزمات لبنان منذ اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري وحتى الأزمة الاقتصادية الراهنة، لندرس ماهية هذه الأزمات وطبيعتها وأسبابها وصلتها ببعض البعض، متوقفين عند انعكاسات أزمة لبنان الراهنة على أزمات أخرى قائمة وأخرى مستقبلية يمكن أن تحدث، باحثين عن الحلول التي يمكن من خلالها أن ينهض لبنان من أزمته بأقل قدر من الخسائر، واضعين هذه الحلول بين الممكن والمستحيل.

أولاً-أزمات لبنان .. طبيعتها وأسبابها

  • اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري: لم يكن اغتيال رفيق الحريري مجرد عملية اغتيال عادية لسياسي لبناني، فالزلزال الذي حصل يوم 14 شباط / فبراير 2015م، لم تزل تداعياته قائمة حتى اليوم، فمع قتل رفيق الحريري شطب الفاعلون معادلة لبنانية أرست السلم الأهلي ورسمت الخطوط العريضة لمستقبل لبنان الذي يجب أن يكون. إنها المعادلة التي أيقن الفاعلون أنها لا تتناسب مع مصالحهم العابرة للحدود، فرفيق الحريري هو شخصية أكدت أنها عابرة للحدود، وأكدت أنها تريد إعادة رسم الحدود السياسية للبنان، وهنا كمنت المشكلة. منذ لحظة تطاير الغبار الذي لف بيروت ولبنان كان الاتهام موجهًا لقوى سورية ولبنانية، بين محرض وشريك وفاعل، وكانت القرارات القضائية التي أصدرتها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قد أكدت المؤكد. إن اتهام حزب الله مباشرة بالاغتيال، دوليًا وإقليميًا ولبنانيًا، شكّل بحد ذاته أزمات متراكمة في لبنان.
  • انسحاب القوات السورية من لبنان: كان من أبرز نتائج اغتيال الحريري، وتحت ضغط دولي وإقليمي ولبناني تمثل بخروج سوريا من لبنان، أن خرجت القوات السورية من لبنان في 26 نيسان / أبريل 2005م، وقد جاء هذا الخروج إنفاذًا لقرار مجلس الأمن 1559 الذي طالب كل القوات الأجنبية المتواجدة في لبنان بالانسحاب. وفي واقع الأمر، اعتقد البعض أن هذا القرار كان من الأسباب الجوهرية الدافعة لاغتيال رفيق الحريري، باعتبار أن مشروع رفيق الحريري كان يتطلب تحقيق أمرين: الأول تحرير لبنان من القبضة السورية، والأمر الثاني نزع سلاح حزب الله، كي لا يكون لبنان أداة لمشاريع إقليمية لا ناقة للبنانيين فيها ولا جمل. غير أنه من رحم الخروج السوري من لبنان ولدت أزمة لبنانية جديدة وهي أزمة إحكام حزب الله قبضته على كامل الحياة السياسية وغير السياسية في لبنان، لدرجة يمكن القول معها إن المستفيد الأول من مقتل الحريري هو حزب الله، فهذا الحزب ملأ الفراغ السوري، بعد تقاسم الهيمنة السورية في لبنان وعليه خرج شريكه من المعادلة، وأصبح مالكًا لوحده ناصية القرار اللبناني، فرغم التحالف بين سوريا وحزب الله، إلا أن هذا التحالف كان مرتبطاً باستمرار بالنظام السوري في حكم سوريا وببقاء سوريا تحت المظلة الإيرانية كي لا يصيب الهلال الإيراني أي إنحراف في المسار المرسوم. وهكذا يمكن فهم قرار حزب الله بالمشاركة الحقيقية في أول حكومة شكلت بعد الاغتيال والخروج، وهو الأمر الذي لم يكن يفعله حزب الله في كل الحكومات التي تشكلت منذ الطائف وحتى اغتيال الحريري وخروج سوريا من لبنان. في هذه المرحلة اعتبر الكثيرون من المراقبين أن خروج الجيش السوري من لبنان ودخول حزب الله في السلطة التنفيذية جسّد بحد ذاته أزمة جديدة، فحزب الله فرض شروطًا وقواعد جديدة للعبة السياسية في لبنان ومنه. وبسرعة البرق بدأت تتكشف ملامح الأزمة الجديدة في لبنان، فمطار بيروت أصبح شبه خال من الزائرين والسياح، والاستثمارات الأجنبية والعربية تراجعت بدرجة ملحوظة إلى أن جفت مع تطور الأحداث دراماتيكيًا، وكثر منذ تلك الحقبة الكلام في الشارع اللبناني عن مستقبل قاتم للاقتصاد اللبناني.

وعلى أي حال، من المهم القول إن سوريا لم تلعب على الإطلاق دورًا إيجابيًا في الحياة السياسية اللبنانية بعد تدخلها العسكري إلى جانب قوات الردع العربية لإنهاء الحرب الأهلية، لكنّها استطاعت بفرض سيطرتها الأمنية والاستخباراتية أن تزرع الرعب لدى أفئدة القادة اللبنانيين من حلفائها وخصومها على حد سواء.

  • حرب تموز 2006م: في صيف 2006م، كان لبنان الدولة على موعد مع حرب مدمّرة شنتها إسرائيل عليه وبدأ بها حزب الله، فعلى خلفية خطف مقاتلي الحزب لعسكريين إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، باشرت إسرائيل بعمل عسكري دمر البنى التحتية في لبنان وأزهق ارواح ما يناهز 1200 لبناني. وكان من النتائج الطبيعية لهذه العمليات العسكرية أن تراجع الاقتصاد اللبناني إلى الوراء أكثر. ويومها اتُهم حزب الله بأنه قام بمغامرة غير محسوبة، وهي المغامرة التي اعترف بها أمين عام حزب الله عندما قال السيد نصر الله بأنه لو كان يتوقع أن تكون نتيجة خطف جنديين إسرائيليين شن الحرب المدمرة على لبنان، لكان تراجع عن قرار الخطف. وعلى خلفية حرب تموز، نشأت أزمة دستورية وسياسية كبرى في البلاد، ففي حين أن الدستور اللبناني ينص على أن قرارات الحرب والسلم هي ملك الحكومة اللبنانية، ركل الحزب النص والحكومة، حيث أراد أن يقول إنه هو من يتخذ مثل هكذا قرارات مصيرية، وهذه مسألة باتت بمثابة المسلّمة عند اللبنانيين على اعتبار أن حزب الله يعمل وفق أجندة إيرانية، فهو جيش متقدم لإيران في لبنان، وكلما تحرش تهديد بإيران يجب أن يتحرك حزب الله استباقيًا.
  • أحداث 7 أيار 2008م: وهي الأحداث التي لم يكن يتخيلها اللبنانيون يوماً، فعلى خلفية اتهام حكومة فؤاد السنيورة لحزب الله بإدارة شبكة اتصالات على مطار بيروت، وتعهد الحكومة اتخاذ إجراءات قانونية ضد الشبكة، نفذ حزب الله عمليات عسكرية ضخمة في بيروت وعدد من المناطق اللبنانية، وكانت حجة حزب الله في هذه العمليات أن اتصالات المقاومة هي جزء لا يتجزأ من عمل المقاومة وعتادها، وبرزت يومها عبارة أمين عام حزب الله السيد نصر الله بأن أي يد تمتد إلى سلاح المقاومة ستقطع. لم يكن السابع من أيار عاديًا بالنسبة للبنانيين، مسلمين ومسيحيين ودروز، فسلاح المقاومة لم يوجه هذه المرة إلى العدو وانما إلى اللبنانيين، ومن يومها تصاعد الهلع من هذا السلاح، إذ ليس من ضمانات يمكن تقديمها بأن سلاح حزب الله سوف لن يستخدم في الداخل اللبناني. لقد كان السابع من أيار مفتاحاً لأبواب كان الظن السائد أنها أغلقت، لكن ما حصل أثبت العكس، وعزز من خطاب المعارضين للحزب أو المتخوفين من سلاحه، بأن سلاح الشرعية وحده يجب أن يبقى وهو سلاح الجيش اللبناني.
  • دخول حزب الله إلى سوريا: بالرغم من أن كل التقارير كانت تشير إلى أن حزب الله دخل إلى سوريا في عام 2012م، إلا أن السيد نصر الله لم يعترف بدخول مسلحي الحزب إلى سوريا إلا في عام 2013م، لكن أيًا كان تاريخ دخول حزب الله إلى سوريا، فلقد شكل ذلك أزمة لبنانية، ذلك أن دخول الحزب ليقاتل إلى جانب الجيش السوري عزّز لبنانياً من فرضية أن وظائف أخرى لسلاح حزب الله قد تكرست، وعادت الذاكرة لدى شرائح كبيرة من اللبنانيين إلى أحداث السابع من مايو /أيار، فسلاح الحزب استخدم في الداخل السوري كما استخدم في الداخل اللبناني وهو سلاح مقاومة. وبدأ القانونيون والجامعيون يتحدثون عن إشكالية عميقة في القانون الدولي، إذ كيف للمقاومة أن تنحر الثورة، ويقصدون بذلك "الثورة في سوريا"، وهي معضلة ربما لم ينتبه لها حزب الله بعد، أو أنه انتبه لها لكنه في ورطة فكرية ومنطقية وقانونية. الخطير في دخول حزب الله إلى سوريا ليس فقط دعمه للنظام السوري، وليس فقط استخدامه لسلاح مقدس في قضية لم يختلف عليها اثنان. الخطير تمثل في أن رسالة واضحة وصلت لكافة شرائح الشعب اللبناني وهي أن لا أمل في تغيير نسقية النظام اللبناني إلا وفق ما يشتهي حزب الله، ووفق ما يصب في مصالحه اللبنانية وما بعد اللبنانية، فالسلاح جاهز لإجهاض أي حراك يهدف إلى تغيير، ليس النظام، بل حتى تغيير الطبقة السياسية المتهمة بالإجماع بالفساد، وتلك كانت بالنسبة للبنانيين نكسة كبرى. لكن والحق يقال، إن قوة حزب الله لا تكمن يوماً في سلاحه أو خطابه السياسي والاستراتيجي فحسب، فقلة دراية وجهل الأحزاب والتيارات والشخصيات المناوئة للحزب وفسادها جعل الكفة تميل لصالح حزب الله، فكل السياسيين في لبنان فاسدون.
  • أزمة الشغور الرئاسي ووصول ميشال عون سدة الرئاسة: كان انتهاء عهد رئيس الجمهورية ميشال سليمان بداية أزمة جديدة في لبنان وهي أزمة الفراغ الرئاسي، التي استمرت حوالي ثلاثين شهرًا تخللتها العديد من الأزمات، لا سيما أزمة القمامة التي فاضت بها الشوارع، حتى رفع لبنانيون في الشوارع يافطات ممهورة بعبارة "طلعت ريحتكن"، فالسياسيون هم سبب هذه الأزمة التي لو استمرت أسابيع أخرى لانتشرت الأمراض والأوبئة، لكن مرض الفراغ الرئاسي كان بمثابة الفدية، فبين تعنت فريق بمرشح يمثل الأغلبية المسيحية عدم موافقة أغلبية برلمانية على ميشال عون، جاء سعد الحريري ليقدم القربان وليبشر اللبنانيين بأسوأ أزمة، فمنذ 31 تشرين أول/أكتوبر 2016م، والأزمة اللبنانية سلكت خطها التصاعدي دون أي اعوجاج أو تباطؤ. حتى الآن لم يقتنع أحد في لبنان بخلفية تجيير سعد الحريري أصوات كتلته لمصلحة الأزمة، رغم إنه قال إنه ضحى بقناعاته من أجل لبنان. إذًا دخل ميشال عون قصر الرئاسة الأولى ليخرج هو سعد الحريري من قصر الرئاسة الثالثة، ولتبدأ أزمة جديدة، وطنية – طائفية، ففي عيون سّنة لبنان، لم يحفظ سعد الحريري ما قدمه والده، الشهيد بنظر اللبنانيين، من مقام للبنان عامة وللسًنّة على وجه الخصوص، ففي 14 تشرين الأول / أكتوبر 2017م، استقال سعد الحريري من رئاسة الحكومة، متهمًا حزب الله وإيران بوضع يدهما على لبنان، وهي الحجة القديمة ولأنها قديمة لم تقنع اللبنانيين الذين حملوه مسؤولية كل ما حصل في لبنان منذ تبوء ميشال عون سدة الرئاسة وحتى هذه اللحظة.
  • أزمة 17 تشرين 2019: منذ "احتجاجات القمامة" عام 2015م، لم يهدأ الشارع اللبناني الذي كان يستشرف هول الأزمة في البلاد وأبعادها ومآلاتها. وكانت احتجاجات "الواتساب" " في أكتوبر/ تشرين الأول 2019م، ضد فرض ضريبة على الاتصالات عبر تطبيق الواتساب، هي التي أشعلت الشارع ودفعت حكومة سعد الحريري للاستقالة بعد أسبوعين، أي في 29 تشرين الأول / أكتوبر. وأن اللبنانيين الذين افترشوا الشوارع والميادين والساحات منذ 17 تشرين الأول، سيسجل التاريخ أنهم فعلوا ذلك من باب الاحتجاج على ضريبة فرضتها الحكومة على تطبيق الواتساب وتراجعت عنها في اليوم التالي. ورغم أن الحكومة استقالت باستقالة رئيسها إلا أن رئيس الجمهورية ميشال عون ظل متمسكاً بالمنصب، فزاد تمسكه الأزمة أزمات متلاحقة، ورفعت في شوارع جبران باسيل المتهم الأكبر بالفساد والعنصرية من قبل لبنانيين مسلمين ومسيحيين، رفعت شعارات "الفساد المتوازن"، تشبيهاً بالإنماء المتوازن، والتي أريد من خلالها أن المناصفة بين المسلمين والمسيحيين والمكرسة دستوريًا يجب أن تكون مطبقة حتى بالفساد، فكما سرقتم سنسرق، وبقدر ما نهبتم سننهب، تلك معادلات حفظها اللبنانيون عن ظهر قلب. ومع كل يوم منذ السابع عشر من أكتوبر، كانت الأوضاع المعيشية تتدهور أكثر في لبنان جراء انهيار الليرة اللبنانية، ليعيش اللبنانيون أزمة لم يعرفوها منذ الاستقلال عام 1943م. فقد أدى تراجع دعم الدولة لأسعار سلع أساسية كالمحروقات والقمح والأدوية، علاوة على الاحتقان السياسي والمذهبي، إلى ظواهر لم تشهدها البلاد في تاريخها كالاشتباكات بالأسلحة النارية أثناء التزاحم للحصول على الوقود المدعوم، ونزول مرضى السرطان إلى الشارع طلبًا للأدوية التي أخفاها التجار في مستودعاتهم، لبيعها لاحقًا بأسعار أعلى. وتفيد أرقام نقابية بحدوث هجرات جماعية في عدد من القطاعات الأساسية، أبرزها قطاعي الطب والتمريض، فأصبح الحصول على جواز سفر بمثابة الحلم بالنسبة للبناني. وزادت الطينة بلة جائحة كورونا وما فرضته من إقفال قسري، وكارثة انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب 2020م، وهو الانفجار – الفضيحة الذي دمر نصف منازل بيروت، ولم يزل المتسبب مجهولا.

ثانيًا-انعكاسات تفاقم الأزمة الاقتصادية الراهنة على أزمات لبنان الأخرى

يندفع لبنان اليوم بسرعة صاروخية نحو الانفجار والتشظي، وقد يأخذ الانفجار أكثر من شكل وأكثر من صورة، فالأحداث الأمنية من شماله إلى جنوبه ينظر إليها على أنها نتيجة طبيعية لمسار الأزمة وتصاعدها، فالطبقة الوسطى اختفت والفقر وصل إلى مستويات قياسية فأكثر من 60 في المئة من اللبنانيين باتوا فقراء والنسبة مرشحة خلال أشهر للارتفاع وقد تصل إلى 75 في المئة، وظهرت طبقة المعدمين. وفي لغة الأرقام، تورد التقارير الدولية أنّ 77 في المئة من الأسَر اللبنانية ليس لديها ما يكفي من الأغذية أو المال لتأمين حاجتها إلى الغذاء وحده، وأن ٦٠٪ من الأسَر تستدين من أجل شراء الأطعمة والمواد الغذائية الأساسية، وأن ٣٠٪ من الأطفال ينامون جياعاً و٣٠٪ منهم لا يتلقون العلاجات اللازمة ولا الرعاية الصحية الأولية.

ويشهد لبنان موجة التهجير الثالثة في تاريخه، ومع تصاعد معدلات الهجرة والمجاهدين نحوها بشكل لافت في الأشهر الأخيرة، يحذّر الخبراء من أنّ التأثيرات المتوقعة “ستكون وخيمة عبر خسارة يصعب تعويضها للرأسمال البشري اللبناني، فهو المدماك الأساسي في إعادة بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد. ومع تعمّد الإقرار الممنهج، لا يستبعد الخبراء أن تتلاشى مؤسسات الدولة أكثر وأكثر وتسقط في دوامة مميتة تمتد لعقدين من الزمن. ويتطابق هذا التوقع مع تقييم البنك الدولي الذي قدر أن يستغرق لبنان ما بين 12 و19 عاماً للتعافي. لا طريق إلى التعافي من دون برنامج واضح وموضوعي، وبانتظار حصول خرق يُعتد به، يسير لبنان بسرعة على طريق الزوال، وهو المحظور الذي لطالما خوَّف السياسيين اللبنانيين ، ولكن من دون تحريك ساكن على أرض الواقع. وقد يطرأ تحول سياسي كبير يطال الأحزاب السياسية التي فقدت، جميعها، أدنى حدود المصداقية. توفر الأزمة الأحزاب السياسية من التداعيات المتلاحقة.

غير أن كل ذلك يمكن السيطرة عليه، لكن هناك سيناريوهان مرعبان يتضرع اللبنانيون إلى الله كي لا يتحقق أي منهما، أما الأول فهو أن لا يكون لبنان موصل ثانية، ففي علم الإرهاب يشكل التحالف من الفقر والتهميش والاستقواء عوامل جاذبة للتطرف العنيف، فاستمرار الأزمة على سيئاتها أو الهبوط أكثر في مستنقعاتها قد يسرّع في عملية تهيئة الأرض والأرضية، فتغلغل تنظيم فتح الإسلام ومعركة الجرود مع تنظيم داعش لم تغادرا ذاكرة اللبنانيين بعد. وأما الثاني فيتمثل في تصدير الأزمة عسكريًا وقيام حزب الله بمغامرة ما بغرض خلط الأوراق، فالدول تلجأ عادة إلى إعادة صناعة العدو للهروب من الواقع الموجع، وفي هذا الصدد، فاللبناني الشيعي آلمته الأزمة الاقتصادية كما اللبناني السني واللبناني المسيحي، فكل اللبنانيين سواء لدى قانون الأزمة.

ثالثًا-حلول للأزمة بين الممكن والمستحيل

عند تشخيص دقيق وموضوعي للأزمة الراهنة وكل الأزمات التي عاشها لبنان عبر تاريخه، يبرز وبشكل واضح أن لبنان يعاني من أزمة حوكمة مشتقة من نظام طائفي ومذهبي يعتريه خلل بُنيوي، وهو الخلل الذي حال دون صنع سياسات وطنية وعقلانية، وخلق ثقافة الفساد والهدر، ويكاد المرء يجزم أن العثور على حزب سياسي لبناني وطني ومؤمن بأن لبنان وطن نهائي لجميع بنيه أمر صعب للغاية، بل ويكاد المرء يجزم بصعوبة أكبر في العثور على شخصيات وطنية من خامة الرئيس الدكتور سليم الحص وفخامة الرئيس فؤاد شهاب. فيتحدث اللبنانيون دومًا عن أن عصر الكبار قد ولى في لبنان، لا بل إن رفيق الحريري نفسه، رحمة الله عليه، ورغم استشهاده لأجل لبنان، يختلفون عليه لبنانيون، وهذا اختلاف يعززه في كل مرة أداء ورثته البيولوجيين والسياسيين.

لقد انتصرت الطبقة السياسية فأجهضت حلم اللبنانيين بالتغيير، والمعركة التي كان حزب الله رأس جسر لها، لإجبار اللبنانيين في العودة إلى منازلهم بعدما افترشوا الساحات والميادين، ولأول مرة كانت طرابلس عروس الثورة، قد نجح فيها. إن شيئًا من الصراحة يدفع بالقول إن حزب الله السياسي غطى كل فساد في لبنان، وهذه مسألة يفقهها الحزب جيداً، فلأجل لملمة مؤيدين لسلاحه كان مجبرًا أن يساير فسادهم، فالحصى الكبرى التي رجم بها اللبنانيون رئيس التيار المتحالف مع حزب الله جبران باسيل بصفته المسؤول الأكبر عن فساد عهد ميشال عون، إلا أنه ليس الوحيد على الإطلاق.

صحيح أن السياسات الاقتصادية ومتطلباتها من فساد وهدر لثروات البلاد هي الأسباب المباشرة للأزمة القاتلة التي يعيشها اللبنانيون منذ أربع سنوات، لكن المشكلة الكبرى هي مشكلة سياسية؛ وهي مشكلة ارتهان، مشكلة وضع لبنان في خدمة مشاريع إقليمية لم تعد سراً وغير قابلة للجدل، وحزب الله وحده من يقع عليه مسؤولية حلها. إن العديد من الدول العربية التي ساعدت لبنان منذ الطائف والتي لا ترفض مساعدة لبنان اليوم، لم تعد جمعيات خيرية، وهذا واضح، ففي حساباتها، يأتي أمنها القومي فوق كل اعتبار، وهي تعتبر لبنان رأس جسر لتهديد أمنها القومي. السؤال إذًا: كيف يمكن اقناع الدول العربية بأن مساعدتها للبنان وإنقاذها له، سوف لن يكون مساهمة جديدة في تهديد أمنها القومي؟ هذا سؤال كبير ومن يقدم ضمانات الإجابة الصادقة عنه قبل ضمانات تنفيذه.  العالم تغير والصراع العالمي بات صراعًا اقتصاديًا معرفياً في مساحته الكبرى. والعلاقة بين الاقتصاد والسياسة دخلت مرحلة الخطين الذين نراهما خطاً واحدًا لشدة التصاقهما ببعض. هناك مقولة منتشرة في مدينة طرابلس يرددها مثقفو المقاهي يومياً "لو ابتسم جلالة الملك سلمان وصبًح اللبنانيين سوف ترتفع قيمة الليرة اللبنانية عشرة أضعاف، وقد تحل الأزمة". اللبنانيون بالطبع يدركون أن الطبقة السياسية ليست هي من يعيد الابتسامة إلى ثغورهم، وإنما أصدقاء لبنان. عندما زار الرئيس الفرنسي ماكرون لبنان عقب انفجار المرفأ، اجتمع حوله اللبنانيون وطلبوا منه أن يأخذ ساسة لبنان معه إلى سجن الباستيل، لكنه لم يأخذهم وإنما أمهلهم شهرًا ليحلوا أزمة لبنان، لكنه نسي وعوده.

باختصار، لا يمكن حل الأزمة إلا برحيل كامل الطبقة السياسية، لكن لبنان الطائفي والمذهبي هو جدار صلب بوجه لبنان الوطن. وهذا يستعدي بحثًا آخر.

مقالات لنفس الكاتب