array(1) { [0]=> object(stdClass)#12963 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 186

مرجح تحول صراع السودان لحرب عرقية عابرة للحدود والأولوية لوقف إطلاق النار

الإثنين، 29 أيار 2023

أصل الحكاية: تقول الحقيقة الثابتة إن الصراع السياسي والعسكري قد عصف بالسودان، الذي يبلغ عدد سكانه حوالي 47 مليون نسمة، في معظم سنوات استقلاله الوطني. ولأنه كان الأكبر والأكثر تنوعًا في القارة الإفريقية، وما يزال واحدًا من كبريات بلدانها إلى شمال وجنوب عام 2011م، فقد واجه تحديات ومشاكل معقدة، أسهمت في تكوينه التاريخي، وأورثته عوامل قوته وضعفه الحاضر. فهو يقع على مفترق طرق بين شمال إفريقيا، وامتدادها جنوب الصحراء والشرق الأوسط، جغرافيًا وديمغرافيًا، ويحتوي كل تنوعاتهما الثقافية والحضارية. وقد انعكس كل هذا التنوع والتعدد على تجربته السياسية، وتحولاتها المضطربة، فمن حكومة منتخبة ديمقراطيًا في أول عهده الوطني، عام 1956م، ثم أسلم حزب الأمة السلطة للعسكر، في عام 1958م، عندما فشل تحالفه مع الحزب الاتحادي أن يقدم شيئًا من وعودهما، وخانتهما القدرة على الانسجام بين مكوناتهما والآخرين. وجاءت الثورة الشعبية الأولى، في عام 1964م، وعادت الأحزاب بغير توافق سياسي، أو خطة واضحة للتنمية والعمران، فأغرى سوء الأحوال المؤسسة العسكرية بالتدخل  في عام 1969م، واستمر طويلًا إلى أن أنهته الثورة الشعبية الثانية المحمية بانقلاب عسكري، عام 1985م، بعون من انقلاب المشير عبدالرحمن سوار الذهب، الذي أوفى بوعد العام الواحد، وقدم السلطة للأحزاب في طبق من ذهب، في عام 1986م، لكنها تقهقرت بها إلى ممارساتها الفوضوية القديمة، فتراجعت الأحوال الاقتصادية، وانهارت الأوضاع الأمنية، ما دفع المؤسسة العسكرية لما أسمته إنقاذًا للوطن في عام 1989م، وتكررت تجربة الثورة الشعبية المحمية بانقلاب عسكري، في عام 2019م، لتأتي أكثر دورات الحكم ضعفًا واضطرابًا في تاريخ السودان، لذلك لم تدم طويلًا حتى انهارت ما عُرِفَت بـ"الحكومة الانتقالية" المدنية، التي تشكلت لقيادة البلاد نحو انتخابات ديمقراطية؛ فشلت في تحديد ميقات لقيامها، فسقطت إثر حركة تصحيحية في أكتوبر 2021م.

وعلى الرغم من تواصل ما أصطلح على تسميته بـ"المقاومة المدنية للحكم العسكري"، بما في ذلك الاحتجاجات المتكررة لما يُعرف بـ"لجان المقاومة"، التي تتحكم في شعاراتها وقيادتها أحزاب اليسار، ظهر هناك انعدام ثقة واسع النطاق بالقوى السياسية الصغيرة والمتنافرة، التي تصدت للعملية السياسية، والتي ظلت ترفض فكرة تقاسم السلطة مع غيرها من القوى الوطنية الأكبر والأوسع خبرةً وانتشارًا، واعتمدت بشكل أساس على دعم القوى الأجنبية والبعثات الدبلوماسية في اكتساب مشروعيتها، وتحقيق تطلعاتها للانفراد بحكم البلاد بغير انتخابات. وعلى الرغم من أن الجيش لا يزال أقوى وحدة سياسية، وأخبرها بالقيم الاستراتيجية للمصالح الوطنية، إلا أنه تعرض لحملات تشويه ممنهجة امتدت لأربع سنوات؛ بدعاوى كثيرة، يخدم غالبها أهدافًا خارجية غير وطنية، ساهمت في خلق واتساع مساحات الانقسام بين قادة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وكادت تخل بتوازن القوى، التي تسببت في زعزعة الجهود الحارسة للاستقرار. وكل ذلك في وقت دفع فيه العجز الكبير في الميزانية إلى تدهور الاقتصاد السوداني. فالإيرادات الضعيفة، التي تكاد تكون مفقودة، وعلى الأخص منذ أن خرجت عائدات تصدير النفط من هذه الميزانية عندما أصبح جنوب السودان دولة مستقلة، في يوليو 2011م، وإدخال إصلاحات اقتصادية لتأمين التمويل الدولي، والتعليق اللاحق للتمويل الدولي، ضاعف من هذا التراجع. وأدى الوضع الاقتصادي إلى ارتفاع معدلات التضخم بشكل غير مسبوق، زاحم بأرقامه لبنان وموزنبيق، إذ وصل لأكثر من 300٪، في فبراير 2022م، وظل يتصاعد بمعدلات مخيفة، صَعَّبَت إمكانية الحصول على الاحتياجات الإنسانية منذ عام 2019م.
ولا يُظهر النزاع في دارفور أي بوادر للحل، وتشتد الصراعات في جنوب كردفان والنيل الأزرق، كما أن الاستياء في الشرق آخذ في الازدياد، وتتسابق الدول المجاورة؛ في ليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا وإريتريا، في تسجيل حالات انهيار مختلفة، وكأنها على موعد مع نهايات مباراة عدمية.

في المنهج:

إن الكتابة عن موضوع أزمة متحركة؛ كحال السودان الآن، لا يملي فقط ضرورة الالتزام بالحقائق الموضوعية للقضية السياسية، ولكن أيضًا تأمل حساسية مصيرها الاجتماعي، والنظر في القدرات الذاتية للحياد، ودرجة الانعتاق من المؤثرات، التي تلون بها التفاصيل اليومية رؤية الحقيقة الكلية. ففي هذا المقال، علينا أن نعيد النظر في ثنائية نمط الأزمة في السياسية السودانية، التي أصر الناشطون على توزيعها بين ذات مدنية طيبة، وذات عسكرية سيئة. وفي حين هوجمت الذات العسكرية السيئة على مدى أبع سنوات، وجرت محاولات إقصائها من المشهد، تعلق المدنيون الطيبون بأهداب ميليشيات قبلية، ورفعوها عصًا للإرهاب والتخويف، ورفعوها إلى مستوى البديل المرتجى لجيش قومي، يستوعب القوات النظامية في داخله وليس العكس. ومن خلال الحلم بمحو آثار الماضي، أو إنكار الحقيقة الموضوعية لرسوخ العقيدة السياسية للقوات المسلحة السودانية، يصبح تصور السياسة على أنها مجرد فن لقلب الحقائق، وليست فن لإدارة الحكم. فقد اجتهد الناشطون؛ بأصواتهم العالية، وتَقًوِّيهم بالسفارات والبعثات، وما أُتِيحَ لهم من مناصرين إقليميين ودوليين، في إقناع الناس لتصور الوقائع السياسية المضطربة، من ناحية، على أنها إما لأنها تحديات تعديل التكوين الحالي للنظام العسكري، أو في أكثر الأحوال محاولة لمنع "فلول" النظام البائد من العودة إلى ماضٍ تجاوزته سنة التغيير. ومن ناحية أخرى، تبرير اجتهاداتهم اللاحقة، التي وصلت مرحلة وصفهم لقوات الدعم السريع، الذي كانوا يحسبونه سيئًا ومهووسًا بالقتل وإبادة الخصوم، بأنه حامي المدنية، بل عملوا على تبييض ساحته إقليميًا وعالميًا بحيثيات لا يحكمها المنطق العقلاني، أو يستوعبها نظام العدالة القائم. ويجادلون هنا بأن الفاعل السيئ قد اتخذ قرار التوقيع على الاتفاق الإطاري، وتبنى التحول الديمقراطي. وأعانوه لِيُشْهِد العالم على ندمه مما أسماه انقلاب البرهان في أكتوبر 2021م، وإن لم يعتذر بعد عن مجموعة من الإجراءات الحرجة، التي أخمد بها الروح الراديكالية لثورة ديسمبر 2019م، وفض بها الاعتصام، الذي قدم الحقيقة الثورية الجديدة للعالم.

نُذُر الفوضى:

إن السياق المتغير بسرعة في السودان؛ خاصة بعد 15 أبريل 2023م، لديه القدرة على تأجيج التوترات الإقليمية، وتوسيع مساحة الفوضى، خاصة إذا انفرط عقد الدعم السريع واستمر نشاط أفراده كمجموعات من القتلة والنهابين وقُطاع الطرق، مما قد يؤدي إلى مزيد من النزوح من المدن إلى الريف، واللجوء من السودان إلى الدول المجاورة، التي بدأ بعضها يتململ من العدد المحدود، الذي أجبرته الظروف على عبور حدودها في أيام الصراع الأولى. فقد أغلقت تشاد حدودها خوفًا من عودة مواطنيها المجندين في الدعم السريع، وأوضاع ليبيا وإفريقيا الوسطى لا تشجع على الاحتماء بهما، وجنوب السودان يُعاني هو نفسه من سوء أوضاعه وضعف الأمن فيه، وإريتريا لا يطمئن الناس فيها على سلامتهم، فيما وضعت إثيوبيا المأزومة، وغير الآمنة، شروطًا قاسية لعبور حدودها، متناسية الملايين من لاجئيها، الذين ظل السودان يحتضنهم لعشرات السنين، ويتزايدون مع كل معركة خلاف جديدة. إذن لم يبق غير مصر، التي ظلت تستقبل القادمين إليها بترحاب أثلج صدور القادمين إليها، رغم ما تعانيه من أوضاع اقتصادية صعبة. وتظل الدول المتهمة بإذكاء نيران الفتنة في الإقليم والعالم بعيدة عن النوال، وإن كانت ما تزال تنشط في محاولات دعم تمرد قوات الدعم السريع؛ إعلاميًا وسياسيًا وماديًا، عبر كل السبل المتاحة، التي من المحتمل أن تُطيل أمد الصراع، وتؤدي إلى المزيد من المواجهة السياسية وإشعال نزاع اجتماعي واسع النطاق.

لقد كفل تركيب الأشكال المختلفة للسلطة في السودان، والأطر الأيديولوجية المتنافرة للقوى الحزبية، استمرار الأزمة الخانقة. وزاد اقتران جهاز الدولة بتبادلية النظم العسكرية والطائفية من تعميق تعقيدات العملية السياسية والحكم، ليس فقط كعقبة في طريق الإصلاح السياسي، ولكن أيضًا مصير هذه العملية الاجتماعي وقدراتها الذاتية على تحقيق التوافق، ودرجة ظهورها في الحياة العامة كمبشرة بمستقبل تتطور فيه نواتج الاقتصاد، وانعكاساتها على الصحة والتعليم والارتقاء الثقافي. وفي هذا المقال، نفحص مداخل الأزمة في السودان، ورصد أبرز المحطات، التي قادت إلى المشهد الحالي، وتعقيداته وتشابكاته، مع الإشارة إلى الجهود "الرباعية" المنتجة لما عُرِفَ بـ"الاتفاق الإطاري"، وما إذا كان قد دفع باتجاه الحل، أم أسهم في تعقيده، ورصد الجهود الموازية للتوفيق بين الفرقاء، وما هي أبرز المعضلات، والتي أخرت هذا التوافق، وقادت إلى انفجار الأوضاع، وإطالة أمد عدم الاستقرار، وما هي السيناريوهات المتوقعة لمعالجة الأزمة. وقد نعيد النظر في طرح بعض المسلمات، التي شابت وصف السياسة السودانية بشكل عام، بحيث لا يصبح تصور السياسة على أنها مجرد فن للحكم بمعزل عن تصور الذاتية السياسية للناشطين السياسيين، الذين تكونت كل خبراتهم في المعارضة، حتى أدمنوها، وعجزوا عن الفعل الإيجابي عندما عرضت عليها الفرصة نفسها بعد سقوط حكومة الرئيس السابق عمر حسن أحمد البشير، وحتى ظنوا أن أي تذكير بواجبات الحكم ما هو إلا محاولة للعودة إلى ماضٍ رفعوا ضده شعار "تسقط بس"، كهوية إعلانية لفصل جديد من إعادة إنتاج الأزمة في السياسة السودانية، أو في أفضل الأحوال محاولة من المخالفين لهم لتعديل التكوين القائم للنظام الثوري، الذي وقف نفسه على إزالة التمكين، ومحو الآثار، لا إقامة غيرها، مع هتافات جمهور مهووس بمسألة الإقصاء والانتقام، وليس كيف يحكم بمنطق النظام وفروض حوكمة إدارة الدولة، وفقًا لمجموعة من الإجراءات والخطوات السياسية العملية، التي تقدم حقيقة ثورية جديدة إلى عالم الدولة المنظم العملية، لا الروح الراديكالية المتعصبة، والتي لا تكفل ضمانات توليف طرائق مختلفة للسلطة والأطر الأيديولوجية لجهاز الدولة.

ولا شك أن الثورة الشعبية في السودان قد أدت إلى القضاء على هيكل السلطة السياسية القائم، وأنهت حكم الإسلاميين، بقيادة المشير عمر حسن أحمد البشير، عبر انقلاب اللجنة الأمنية. ومن هذه الثورة، التي كان نجاحها مناصفة بين القوى السياسية والقوات المسلحة، انبثقت الحكومة المدنية الانتقالية، بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك. وقد بدأت هذه الحكومة عملها في ظل هيمنة واضحة للقوى النظامية؛ بما فيها المؤسسة العسكرية للجيش والشرطة والمخابرات وقوات الدعم السريع، فيما عُرف بمجلس السيادة، الذي ضم شخصيات مدنية من قوى الحرية والتغيير "قحت"، التي شكلت وزارات الحكومة الانتقالية بمحاصصات حزبية، ولكنها فشلت في الوفاء بأي من وعودها في الحرية والسلام والعدالة، مع تراجع مريع للأداء الاقتصادي، وتعثر في تأمين معاش الناس وحياتهم. وفي أعقاب الخلافات بين مكوناتها، بلغ الاضطراب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ذروته، وأدت المظاهرات والانتفاضات العنيفة إلى سقوط هيبة النظام، وصعود قوى اليسار؛ الحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي، التي خرجت من "قحت" وتبنت المعارضة عبر الاعتصامات والإضرابات. فأصبح مسار الثورة معقدًا بسبب تدخل قوى إقليمية ودولية في توجهاتها، خاصة بعثة الأمم المتحدة "يوناميتس"، بقيادة الألماني فولكر بيرتس، الذي بدأ يتصرف وكأنه الحاكم الفعلي للبلاد. إذ وجدت الحكومة المدنية نفسها في معضلة سياسية، تسبب فيها رئيس الوزراء حمدوك بدعوته الأحادية لهذه البعثة، التي بدلًا من أن تساعد في حل أزمات البلاد، صارت رأس حربة في تعقيدها. وذلك بسبب تعبير رئيسها فولكر عن تحيزاته لأطراف معينة داخل معادلات السياسة السودانية، وعدم تردده في الحديث عن تفضيلاته الأيديولوجية، وجهوده في إقصاء القوى الاجتماعية التقليدية، وليس فقط الإسلامية.

سيناريوهات:

يصعب تقرير وتقدير ما هي السيناريوهات، التي يمكن أن توضع للخروج من براثن أزمة معقدة؛ قديمة ومتجددة، لكنها انفجرت للتو. وما هي ليست كذلك، حول وضع سياسي هش، واجتماعي متحرك، وعسكري محتدم، في بلد كالسودان استوطنته التحديات، وتعبث بأقداره أحداثٌ جِسام. ويصارع من أجل البقاء، في راهنٍ لا ينفك يتعثر بتجريب المنهج السياسي الخطأ، ويتيح لغير أهل الخبرة والخيرية من الناشطين أن يغرسوا أطماعهم في تربته، ويفسح للتدخلات الأجنبية أن تنال من حُرمات سيادته. وإذا كانت السيناريوهات ستتناول آفاق مستقبلية بالضرورة، وينبغي أن ترسم محددات، أو تزعم تكهنات مختلفة للسودان، فإنها بالقطع لا يمكن أن نتيقن أنها قادرة على وصف هذا المستقبل المتخيل بالتفصيل. ولكنها، بترجيحات معقولة، ستستصحب بعض عِبَر الماضي القريب، وتأخذ في الاعتبار تطورات الأحداث الجارية، وتراعي الاختلافات الرئيسة في تقييم البيئة السياسية والأمنية، ومدى سيولتها، وكيفية الخروج من مطبات ما قاد للأزمة، بُغية الوصول إلى مقدمات البناء الأساسية لأعمدة الاستقرار.

لهذا، فإنها ليست مجرد توقعات، ولكنها قراءة تصف المواقف، التي يمكن أن تحدث، وبتحليلات مصممة لتسليط الضوء على الآثار والعواقب الإنسانية المحتملة. إذ أن الغرض الأساس المقصود هنا هو تقديم رؤية تدعم التخطيط الاستراتيجي في هذا المنعطف الحرج، ومحاولة خلق الوعي بالمخاطر الناشئة، وتعزيز النقاش بين أهل الكياسة من الساسة، وصانعي السياسات الأمنية، والممارسين الطوعيين، والجهات الفاعلة على الأرض، لإيجاد السبيل الأمثل للحل. وهذا الحل لا بد أن يهدف إلى توفير فهم لكل الوسائل المحتملة، التي قد تُعين في كبح جِماح للصراع على السلطة، واحتواء الأطماع الدموية؛ سواء عن غير قصد من قوى الداخل، أو عن قصد من عملاء الخارج، الذين أجلتهم طائرات وسفن المصالح الأجنبية في أول رحلاتها بعد اشتعال الأوضاع. وتستند أية سيناريوهات يمكن رسمها هنا، إلى فهم واضح للوضع الحالي ومبدأ "كيف نكون حيث نحن"، وكيف لنا أن نبلغ رؤية الحل، الذي يتراضى عليه غالب الناس في السودان، والإصرار على مستقبل نأمل أن يكون بالتوافق مختلفًا عن حاضر تختبره العاديات.

ولهذا، ومن أجل البدء بذلك، لا بد أن تكون هناك تسوية سياسية، ويجب أن تكون دائمة، مع الأخذ في الاعتبار أن وقف هذا الصراع، كمقدمة لازمة هذه التسوية، سيطلب محادثات صعبة للغاية، ليس فقط مع المتمردين على السلطة من قوات الدعم السريع، وإنما مع من هم خَلْفِهِم من داعمي أعضاء المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير "قحت"؛ في الإقليم والعالم، كما يجب أن تشمل هذه المحادثات طيفًا واسعًا من الشركاء الأصيلين في الهم الوطني، واستمزاج رأيهم بشأن الآليات المثلى لتعبيد طريق الحركة إلى الأمام، الذي يضمن الوصول إلى وحدة السودان وسيادته وسلامة شعبه. ويجب أن يعني كل ذلك اتفاقًا واضحًا حول القضايا، التي أثبتت أنها الأكثر تعقيدًا حتى الآن؛ قسمة السلطة والثروة، ليس بشعار المعادلة المعيبة، التي كانت تنادي بـ"تسليم السلطة للمدنيين" من "قحت" وحدها، كما وعدت بذلك "الرباعية" والثلاثية" منذ فترة طويلة، ومن دون مرور بآليات الاختيار الديمقراطي المعروفة بـ"الانتخابات" والمنافسة الحرة، وإنما بتحديد الجدول الزمني لهذه "الانتخابات"، على أن يسبقها دمج كامل لقوات الدعم السريع، وكل الميليشيات المسلحة الأخرى، في الجيش الوطني.

ومن هنا، ستحتاج المؤسسات الراعية لترتيبات الانتقال الحقيقي لسلطة مدنية منتخبة لسن تشريعات ضامنة لحق كل مواطن سوداني؛ كامل الأهلية، أن يكون مُنْتَخَبًا ومًنْتَخِبًا، من دون عزل أو إقصاء، وأن تتعهد هذه المؤسسات بإعطاء الشرعية لكل من تُعلي قَدْرَهُ صناديق الاقتراع، لا من يفرضه النسب والحسب، أو تُقدمه عمالته لقوىً خارجية. فالمنتخب بإرادة الناس يجب أن يكون في المقدمة، وتدعمه المؤسسات عند توليه السلطة، وتحصنه كل المبادرات الوطنية لتحسين احتمالات امتثال المواطنين لقيادته. كما أن على الجيش، الذي ينفعل بقيادة التغيير، أن يُدرِك، هذه المرة، أنه من المحتمل أن تؤدي الانقسامات داخل القوى السياسية، وتزايد السخط بين السكان ضد قوى الحرية والتغيير "قحت"، إلى النظر في تصورات بديلة لما كانت عليه العملية السياسية فيما قبل الخامس عشر من أبريل. إذ إن المؤكد أن قطيعة الرأي العام مع قيادات "قحت" قد استحكمت، بزعم أنهم تسببوا فيما آلت إليه الأوضاع الأمنية من تدهور، وما قادت إليه من أزمة إنسانية متفاقمة. الأمر الذي يستوجب إحداث تغيير كبير في عملية التحضير للمستقبل السياسي والاقتصادي للبلاد وفق منهج خَلَّاقٍ جديد؛ يستبعد القديم من الواجهة، وليس بالضرورة أن يلغيه، لأنه، بالنظر إلى ما يحدث الآن من دمار للممتلكات والمؤسسات، ومجموعة أخرى من المتغيرات، التي ظلت تؤثر على الظروف المعيشية في السودان، والتي تمس سلامة الناس وقدرتهم على تلبية الاحتياجات الأساسية، فإن مجرد الحديث عن عودة وجوه هؤلاء إلى صدر العملية السياسية، التي أنتجت الاتفاق الإطاري المُخْتَلف عليه، ستقود إلى مزيد من الانقسام، وربما تَجَدُّد الصدام.

ومع ذلك، يجب أن تكون الأولويات العاجلة هي تحقيق وقف دائم لإطلاق النار، حتى وإن بدا لأسباب إنسانية، وفقاً لإعلان جدة، الذي رعته المملكة العربية السعودية، ثم إيصال المساعدات الخارجية إلى البلاد بسرعة، وتأمين إيصالها للمحتاجين إليها في أماكن تجمعاتهم. إذ إن استمرار رعب القصف العشوائي لأحياء الخرطوم؛ والأسوأ من ذلك، النهب الواسع النطاق من منزل إلى منزل من قبل ميليشيات الدعم السريع، وطلقائهم من مرتادي السجون، سيجعل أمر عودة الأمان مسألة عصية، وشبح الخوف سيطارد السودانيين لسنوات قادمة. ولا يبدو أن أيًا من الجانبين؛ المتمثلان في الدعم السريع والمجلس المركزي للحرية والتغيير، مستعدًا للتوقف لتأمل ما وقع من خطأ التحريض على الحرب والوعد والحشد لشنها قولًا وفعلًا، لكن المواجهة المستمرة لا يمكن إلا أن تزيد من تدهور الأهمية السياسية لكليهما، التي كان يمكن أن يتمتع بها الطرفان الرئيسيان لما كان يُسمى بـ"العملية السياسية"، وما تمسكا به من اتفاق إطاري، اللذان يحتقرهما الآن بالفعل معظم الشعب السوداني، جراء ما ارتكباه من جرائم، التي بلا شك أن اللعنات ستلاحقهما بسببها في المستقبل. ففي الوقت الحالي، وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الأمر متروك للجيش لاستكمال إنهاء هجمة جحافل قوات الدعم السريع وتمردها على السلطة، وتحييد أية قوىً؛ داخلية أو خارجية، لها أي تأثير عليه إنهاء الكابوس، الذي يعيشه ملايين السودانيين. والمؤكد أنه فقط عندما ينتهي هذا التمرد الكارثي، سيتمكن السودانيون من التقاط القطع الصغيرة، التي تناثرت من روابط حياتهم، وحصر ما ران عليها من دنس سنوات من عبث السياسة وقتل الأحلام، وتقييم الضرر، الذي أحدثته صراعات القاصرين على السلطة، ومن ثم تحديد المسار إلى الأمام.

استنتاجات:

تقديرًا على كل ما وردت الإشارة إليه عاليه، فقد ظهر جليًا أن الأطراف المتحاربة في السودان قد وصلت إلى قناعات أن القتال المستمر لأسابيع لا يمكن لمن خطط له الفوز به، مما يثير مخاوف من شبح حرب طويلة الأمد بين قوة شبه عسكرية فقدت كل قواعد انطلاقها ودعمها، والأهم أنها فقدت الحاضنة الشعبية، وحتى السياسية، وجيش أفضل تجهيزًا وقدرة على السيطرة الجوية والتفوق الناري، والدعم الشعبي والسياسي. غير أن ما تبقى من هذه القوة "الدعم السريع" يمكن أن تُزعزع الاستقرار، في منطقة حضرية هشة كالعاصمة الخرطوم. فتكتيكات حرب العصابات، التي تنتهجها قوات الدعم السريع، والنهب والسلب، وخطط ترويع المواطنين والاعتداء على ممتلكاتهم واحتلال بيوتهم، تعتبر تحديًا للجيش، يضاف إليه المزيد من الضغط الأجنبي؛ الإقليمي والدولي، الذي دفعه إلى خفض تصعيد هجماته على المتمردين عليه، والجلوس معهم على طاولة مفاوضات جدة، والاتفاق على هدنة إنسانية لا يتوقع لها أن تنجح بعد أن فقد أحد الأطراف قدرته على التواصل مع عناصره المقاتلة في الميدان. وحتى مع مقتل مئات الأشخاص وتحول العاصمة الخرطوم إلى منطقة حرب، لم تكن هناك مؤشرات تذكر على التسوية بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو "حميدتي"، قائد قوات الدعم السريع، لولا تدخل المملكة العربية السعودية والضغوط الأمريكية، التي أقنعت الطرفين بتوقيع إعلان الممرات الإنسانية، والانخراط في حوار لترتيبات محتملة لوقف إطلاق النار، يتوقع له أن يلقى نفس مصير الهدن السابقة إذا لم تحرسه ضمانات غير عادية. فقد كافح الوسطاء الأجانب لوقف الانزلاق إلى حرب أوسع، ولكن تقوضت سلسلة من إعلانات وقف إطلاق النار بوساطة الولايات المتحدة وغيرها بفعل خروقات قوات الدعم السريع في الخرطوم، التي بدا أنها فقدت انضباط القيادة الموحدة لعملياتها، إضافة إلى مبادرتها بإشعال الصراع في أماكن أخرى، بما في ذلك منطقة دارفور في الغرب.

بيد أن ما يجعل أمر وقف الحرب مُلِحًا هو أن التداعيات الإقليمية والدولية لهذه الأزمة قد بدأت تلوح في الأفق حيث من المرجح أن يتحول القتال إلى حرب عرقية عابرة للحدود طالما ظهرت نعرات قبلية في دول أخرى؛ مثل تشاد، والنيجر، ومالي، وغيرها، مؤيدة لقوات الدعم السريع، أو قُبض على ممثلين لشباب هذه البلدان في معارك الخرطوم. رغم أنه، في هذه المرحلة، لا أحد يعرف ما إذا كان الجيش سيعلن انتصاره النهائي على تمرد قوات الدعم السريع قريبًا أم لا، لكن أية محاولة لتأجيل ذلك ستكون له عواقب وخيمة على السودان برمته، وقد تمتد آثاره إلى دول الساحل والقرن الإفريقي. كما أن احتمالات جر بعض الجيران؛ مثل، تشاد، وجنوب السودان، وإريتريا وإثيوبيا وليبيا، وغيرهم، إلى صراع إقليمي تبدو واردة بشكل واضح. وعندها ستكون للأزمة تداعيات أوسع من مجرد رقعة الإقليم الجغرافية حيث أن العديد من القوى الخارجية، التي كانت متورطة في السودان في العقد الماضي، وتنافست على استغلال نفط وذهب وموارد البلاد الأخرى، لن تبقى مكتوفة الأيدي في هذا الصراع. فقد زاد الفاعلون الدوليون من مشاركتهم في شؤون السودان الداخلية منذ أن سقطت حكومة الرئيس البشير قبل أربع سنوات، وصلت حد تكييف الخيارات السياسية والاجتماعية الداخلية لسكانه، بما في ذلك التلاعب بحرمات عقيدته وممسكات وحدته الوطنية، بدعوى محو آثار الإسلاميين، الذين هيمنوا على مقاليد الحكم لعقود ثلاثة، كانت فيها خطط لتوسيع نفوذها في إفريقيا جنوب الصحراء. وبالإضافة إلى التفاوض على الصفقات العسكرية والاقتصادية، التي تسمح لأمريكا وروسيا باستخدام موانئ السودان على الطرق التجارية الرئيسة إلى أوروبا، كانت هناك اتهامات بأن مجموعة "فاغنر" الروسية متورطة في تعدين الذهب غير المشروع مع قوات الدعم السريع. وسبق أن استثمرت الصين، الشريك التجاري الأكبر للسودان، بشكل كبير في البنية التحتية واستخراج النفط في السنوات الماضية، مما منحها حصة مهمة في الصراع، وجعلها في حالة مواجهة مع القادمين الجدد لاستغلال موارد البلاد النفطية وثرواته المعدنية.

مقالات لنفس الكاتب