array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 188

السعودية مؤهلة حاليًا لتكون في فقه العلاقات الدولية القوة الناعمة التوافقية

الأحد، 30 تموز/يوليو 2023

مدخل موضوعي: تبدو عبارة "القوة الناعمة" وكأنها تناقض لفظي يغاير كل طرف فيها الطرف الآخر، أو كأنها في تضاد مع ذاتها، إذ تفارق صلابة القوة مقتضيات النعومة كلما توارد إلى الخاطر تلاقيهما، لكنها في تقصينا لمدلولات المصطلح في أبعاده السياسية والدبلوماسية، وحتى الاستراتيجية، نجد أن النعومة قد تكون أمضى من إعدادات القوة الصلبة وعتادها، خاصة كأداة للضغط، أو كوسيلة تفاوض فعالة وناجعة.  لذلك، فإن القوة الناعمة هي نوع من التأثير يتم ممارسته من خلال إقناع الآخرين، ولا سيما البلدان، بفعل ما تريد منهم أن يفعلوه من خلال الانجذاب السياسي، أو الأخلاقي، أو الثقافي دون الاضطرار إلى الإكراه بالتهديدات، أو الحوافز المالية. فقد صاغ جوزيف س. ناي الابن، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد ومؤلف كتاب " القوة الناعمة: السبيل إلى النجاح في السياسة العالمية"، هذا المصطلح في أواخر الثمانينيات. رغم أن الكثيرين من علماء السياسة كانوا يستخدمون ما يترب من مصطلح "القوة الناعمة" في مناقشاتهم للسياسة الخارجية والأنماط الحاكمة للقادة السياسيين في أجزاء مختلفة من العالم. وإذا كان من فرق يُذكر بين "القوة الناعمة" و"القوة الصلبة" في السياسة الدولية هو مبدأ استخدام "القوة"، الذي ارتبط دائمًا بوسائل الردع المادية الصلبة، التي تفرض الامتثال من خلال القوة العسكرية، أو العقوبات الاقتصادية، أو السيطرة على الصادرات لإجبار صانعي السياسات في البلدان الأخرى على الإذعان. إن أقرب مثال على ذلك هو الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي نجحت روسيا خلال استخدامها للقوة الصارمة في ضم أجزاء واسعة من شرق أوكرانيا، مثلما سبق أن ضمت شبه جزيرة القرم، والذي أدى إلى أكبر مكسب إقليمي بالقوة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويمكن أخذ غزو ​​الولايات المتحدة للعراق وأفغانستان كمثالين آخرين على القوة الصارمة؛ والصلبة في آن معًا.

لقد صرح جوزيف ناي بأن "القوة الناعمة" لأي بلد تعتمد على ثلاثة موارد: الثقافة والقيم السياسية والسياسات الخارجية. ويمكن طرح العديد من الأمثلة على هذه "القوة الناعمة"، التي تستخدمها الدول والقادة السياسيون للتأثير على العلاقات الدولية، نستطيع أن نرى ما تتقدم به دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية من ميزات تفضيلية على غيرها في الإقليم، والكثير من دول العالم. ففي مجال الأعمال والتجارة، على سبيل المثال، الذي يركز على جاذبية الفطنة التجارية للدولة، ونجاح اقتصادها، والقدرة على الابتكار، تتمتع دول الخليج بقوى كبيرة بسبب مستويات الاستثمار العالية والعديد من شركات الإلكترونيات والصناعة البتروكيماوية المعروفة عالميًا. وإذا عَايَنَّا إمكانية هذه الدول الخليجية على التأثير على الآخرين من خلال ثرواتها الثقافية، مثل الفن، والأدب، والموسيقى، أو حتى الثقافة الشعبية، فإننا سنجد أن لها الكثير مما ظلت تقدمه. ولا شك أنها تستخدم القوة الناعمة التعليمية عندما أصبحت وجهة مرغوبة للدراسة بسبب المؤسسات ذات الجودة العالية. كما أنها صارت نشطة جداً في تفعيل الدبلوماسية العامة في الشؤون الخارجية والمساهمات في التنمية العالمية، التي أكسبتها مصادر فعالة للقوة الناعمة. وذلك من خلال القدرة على التعامل مع الشؤون العامة، مثل النزاعات الإقليمية والدولية باستغلال آلياتها الدبلوماسية.

في المنهج:

في هذه المقالة، قد يكون مفيدًا مناقشة أسس ما أسميه بـ “القوة الناعمة التوافقية"؛ في الحالة السعودية، وكأننا نلج بابًا جديدًا لمبدأ حاكمية الخصوصية في العلاقات الدولية، الذي يمكن إرجاعه إلى فكرة أن الإنسان ككائن حي ثقافيًا يعود بفطرته إلى قيمٍ متعالية تجددها العلاقة مع الدين. ففي تصورنا لهذه القيم المتعالية على التجربة البشرية المباشرة، وعن طريق مقارنتها بالمعنى الأصلي لمفهوم "القوة الناعمة"، يحضنا على تقديم النية باجتراح مفهوم جديد للثقافة يكون فيها الدين بمثابة خلفية مفاهيمية وسياقٍ خَلَّاقٍ لفكرة "القوة التوافقية". إن هذا الأساس لمفهوم جديد، وأكثر شمولاً للثقافة مستوحى من عناصر الفكر الإسلامي الوسطي، الذي أكد على أن الدين هو "المعاملة"، التي هي "سلوك" على مستوى المجتمع، و"سياسة" على مستوى العلاقات الدبلوماسية والدولية. فالسعودية لا تحتكر الإسلام، لكنها بؤرته وقِبلته وجِماع مقاصده؛ إذ هي بجانب ما كُرِّمَت به أرضها كمهبط للوحي، تحتضن أخصّ المقدسات "الحرمين الشريفين"، الذين يجعلانها باستمرار مركز اهتمام كل المسلمين ورحلة حجهم، بل هي؛ بمدخل مقالتنا، أعظم "قوة ناعمة" أتيحت لدولة من الدول، والتي تمكنها أن تكون "قوة توافقية" بغير منازع في السياسة الدولية، الممتدة عبر العالم الإسلامي، وما بعده. ولكن أيضًا للمملكة من عناصر "القوة" المماثلة المكتسبة من الثقافة العربية، التي تميزت بها قيم الحياة الاجتماعية في جزيرة العرب عبر الحقب التاريخية. فالامتداد المفاهيمي للثقافة العربية والإسلامية في مجالات رئيسة، تُشَكِّلُ "مجالات التركيز" القابلة للالتزام المتبادل المصاحبة لفلسفة استكمال مقصد "مفهوم الثقافة"، في ضوء جانب "الأخلاق"، التي تتعلق بالقاعدة الذهبية للدين، والتي تحتاج مِنَّا لمزيد من التأملات فيما يتعلق بهذه التبادلية للمفاهيم المتقدمة لـ “القوة الناعمة التوافقية" والثقافة والدين.

لهذا، لا تركز المقالة على المناقشات الحالية حول المغزى الاستكشافي لمفهوم "القوة الناعمة"، ولا تدرس بشكل تفصيلي الأسس الاجتماعية والسياسية والفلسفية للظاهرة، وإنما تحاول التأشير على نزوع السعودية لاستخدام خطاب "القوة الناعمة التوافقية" والتغييرات ذات الصلة في سلوك الفاعلين القدامى والجدد في الإقليم والعالم، مع استحضار الأساس النظري للتفسير المفاهيمي لمفهوم "القوة الناعمة"، الذي اقترحه جوزيف ناي كبديل للنماذج الواقعية، وما تقترحه الواقعية الجديدة لعلاقات القوة في سياسة العالم الحديث. فقد خص ناي الإكراه والتأثير والجاذبية كأبعاد مكافئة للقوة، معتمدًا في بحثه على الأساليب الشكلية والمنطقية والمحتوى المنطقي لمفهوم "القوة الناعمة". لذلك، فقد تحقق من لهجات المقاربات الاجتماعية والسياسية والفلسفية الحديثة فيما يتعلق بخطاب القوة في العلاقات الدولية. ولذلك، هزت التغيرات السياسية في الاتحاد السوفيتي العالم، وأبرزت بوضوح التدفق الخطير وغير القابل للقمع لاتجاه تاريخي وصفه البروفيسور ناي وآخرون في السنوات الأخيرة بأنه صعود "القوة الناعمة". بعبارة أخرى، كانت القوة الحاسمة الدافعة لحركة التاريخ، في الماضي هي "القوة الصلبة"، التي تتلخص في شكل القدرة العسكرية والسلطة السياسية والثروة. ومع ذلك، فإن ما رأيناه في السنوات الأخيرة هو انخفاض في الأهمية النسبية لهذا العامل، وبدلاً من ذلك زيادة ملحوظة في أهمية "القوة الناعمة"، وعوامل مثل المعرفة، والمعلومات، والثقافة، والأفكار، والأنظمة الحاسوبية المستحدثة.

تجليات المفهوم:

نعلم جميعًا أنه قد جرى تحديد "القوة" في العلاقات الدولية، وتقييمها تقليديًا بمصطلحات مادية "صلبة"، التي يمكن قياسها بسهولة، وغالبًا ما تُفهم في سياق القوة العسكرية والاقتصادية. وعادة ما يتم نشر القوة "الصلبة" في شكل إكراه؛ عبر استخدام "القوة"، أو التهديد باستخدام هذه "القوة"، أو فرض عقوبات اقتصادية، أو دفع حوافز مادية. ولكن، على عكس الطبيعة القسرية لـ “القوة الصلبة"، تصف "القوة الناعمة" استخدام الجذب الإيجابي والإقناع لتحقيق أهداف السياسة الخارجية. وغالبًا ما تتجنب "القوة الناعمة" أدوات السياسة الخارجية التقليدية المتمثلة في الجزرة والعصا، وتسعى بدلاً من ذلك إلى تحقيق التأثير من خلال بناء الشبكات، وإيصال السرديات المقنعة، ووضع القواعد الدولية، والاعتماد على الموارد، التي تجعل بلدًا مثل المملكة العربية السعودية جذابًا بشكل طبيعي للعالم. وللنظر بعمق لدور المملكة في المجالين الإقليمي والدولي، يجب أولًا قراءة إعادة التوازن العالمي الحالية على أنها دعوة عاجلة للعمل من أجل القادة والدبلوماسيين وصناع السياسة الخارجية، وما يمكن أن تنجزه قوتها الناعمة في حلبة الاقتراع الدولي على الفرص. ومن دون شك، يجب أن يكون أولئك المكلفون بتشكيل السياسة الخارجية للمملكة مستعدين للأوقات المضطربة المقبلة. بينما تعمل مؤسسات الدولة الأخرى على فهم السياق الإقليمي والعالمي المتغير بسرعة وتعديل الاستراتيجيات الوطنية وفقًا لذلك، وعندها ستكون موارد "القوة الناعمة" الموجودة تحت تصرف الحكومة جزءًا مهمًا من أدوات السياسة الخارجية اللازمة للمضي قدمًا. وبالتأكد من استجماع كل ذلك، فلن يخامرنا شك في أن الرياض ستكون الأكثر مهارة في استخدام "القوة الناعمة" لتسهيل التعاون الإيجابي، وستكون في وضع أفضل لمواجهة حالة عدم اليقين الحالية وعدم الاستقرار الجيوسياسي، وفي نهاية المطاف تستطيع المساهمة بفعالية في تشكيل الأحداث العالمية. هذا يقودنا إلى السؤال: كيف يمكن نشر القوة الناعمة بشكل فعال؟

ومثلما حدد جوزيف ناي، في البداية، ثلاثة مصادر رئيسية لـ “القوة الناعمة" أثناء تصويره للمفهوم؛ وهي: القيم السياسية، والثقافة، والسياسة الخارجية. ولكن، يجدر بِنَا الانتباه إلى أنه ضمن هذه الفئات الثلاثة، فإن المصادر الفردية لـ “القوة الناعمة" في بلدٍ مثل السعودية متعددة ومتنوعة. فالبنية التحتية الرقمية للدولة وقدراتها في الدبلوماسية الرقمية، والامتداد العالمي الروحي، وجاذبية المخرجات الثقافية للأمة؛ سواء الثقافة الشعبية، أو الثقافة الرفيعة، جاذبية النموذج الاقتصادي للدولة، وملاءمة الأعمال التجارية، والقدرة على الابتكار، ومستوى رأس المال البشري، والمساهمة في المنح التنموية والدراسية، وجذب الطلاب الدوليين، وتوافد الحجاج والمعتمرين، والسياح والزائرين، وملايين العمالة الوافدة، وقوة الشبكة الدبلوماسية للرياض ومساهمتها في المشاركة العالمية والتنمية المستدامة، والالتزام بالحقوق الأساسية للمواطنين والوافدين، وجودة المؤسسات السياسية والخدمية. لذلك، فالمهمة، التي تواجه المملكة الآن هي إعادة إحياء المصادر الفطرية لهذه الطاقة البشرية ذات الحيوية العالية، والقيام بذلك في عالم يتسم بإحساس عميق بالجفاف الروحي. وربما لن تكون هذه المهمة سهلة من حيث إنها تُظهر كيف تتشابك مصائرنا بشكل عميق ومتداخل، بما يُتيح لدولة مثل السعودية أن تقدم فيه مساهمة مهمة، وغير مسبوقة. وغني عن البيان أن الإسلام، كأساس متين لقوتها الناعمة، يترك بصمة دائمة على الإنسان والمجتمع، ويجعل الفرد يعمل في تناغم على المستويين الشخصي والمؤسسي، باعتباره حقيقة تتجاوز الاختلافات في العرق، أو الطبقة، أو المكانة الاجتماعية، ويعلم الاحترام، والتبجيل لكل أعضاء المجتمع الإنساني.

 لهذا، تعني "القوة الناعمة"، التي وصفناها بـ “القوة الناعمة التوافقية"، في الحالة السعودية، كشرط أساس للتحول بعيدًا عن الرغبة المليئة بالتنافس وخضم الصراع على الهيمنة على العالم أحادي القطب، أو نشوء أقطاب أخرى يدفعها التوق نحو مكانة كشفت عن نفسها كمأزقٍ حرجٍ مرارًا وتكرارًا، من دون أن يكون لها ميراث للمشاركة العالمية متعددة الأقطاب. فـ"لقوة التوافقية"، التي نسبناها إلى السعودية، هي أساس غرس تطور اجتماعيٍ ثقافيٍ ودينيٍ مشتركٍ متبادل المنفعة على نطاق واسع جدًا عبر العالم الإسلامي، يؤهلها لأن تكون قيادة عالمية. ويؤهلها لذلك أكثر الأصول العميقة في الدين والثقافة، وينضجها التقدم السياسي لمفهوم "القوة التوافقية الناعمة"، الذي اتخذته نهجًا لدبلوماسيتها، وسياستها الخارجية. وما توسطها المنتج في حالات صِراعٍ إقليمية ودولية إلا تتويجٌ لهذا النهج؛ فهي بين إثيوبيا وإريتريا، وبين روسيا وأوكرانيا، وواسطة خير بين فرقاء السودان في شجارهم الدامي. فصارت عندها هذه "القوة التوافقية الناعمة" هي القدرة على التأثير في الآخرين للحصول على النتائج الإيجابية، التي يفضلونها، ويجري تحقيقها بتبيان الحوافز المشتركة للتصالح، أو الجاذبية الدبلوماسية لمنطق الإقناع. فالقدرة الاستثنائية للحصول على النتائج المفضلة عن طريق الجذب بدلاً من الإكراه، أو التحفيز بدلًا عن التهديد والتخويف، تؤتي أكلها في غالب الأحيان، إذ يتأثر الناس بالأفكار والجاذبية، التي تضع جدول الأعمال للآخرين، أو تجعلهم يريدون ما يُريد الوسيط لمصلحتهم. ومن ثم، فإن استخدام العصا والجزرة صار أقل ضرورة، أو لأن الآخرين يرون أنهما شرعيان فقط، في حالات لا يكون فيها الوسيط منسجمًا مع قيمه الإسلامية العالمية، وثقافته العربية المفتوحة، وموارده الثقافية الشعبية الواسعة، كالسعودية.

الاقتراع الدولي:

لكل هذا، فقد طرحت فكرة "القوة التوافقية الناعمة" كمفهوم تحليلي لملء النقص في الطريقة، التي فكر بها جوزيف ناي حول "القوة"، لأنها أخذت تدريجيًا صدى سياسيًا ودبلوماسيًا في عالم تتصارع فيه تيارات الاقتراع الدولي على مستقبل القيادة. ففي بعض النواحي، قد لا تكون هذه الفكرة الأساسية جديدة، ويمكن إرجاع ما يرتبط بها من المفاهيم المماثلة إلى الفلاسفة القدامى، وما تصوروه من مجتمعات مثالية. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن ناي قد طور مصطلح "القوة الناعمة" في سياق عمله على "القوة" الأمريكية، إلا أنه لا يقتصر على السلوك الدولي، أو الولايات المتحدة وحدها، ولا شك أن السعودية في عهدها الجديد مؤهلة لأن تكون مبحثًا مستقلًا في فقه العلاقات الدولية بهذا المدخل، الذي نقترحه لـ “القوة الناعمة التوافقية". وما دفع جوزيف ناي لاستيلاد فكرته، يحفز غيره للتطوير والإضافة، إذ نجده يتذكر أنه في عام 2002م، كان أحد المتحدثين الرئيسين في مؤتمر نظمه الجيش الأمريكي في واشنطن، وتحدث إلى الجنرالات المجتمعين حول "القوة الناعمة"، وبدا له من خلال أسئلتهم أنهم يفهمونها، إلا أن أحدهم سأل وزير الدفاع وقتئذٍ "دونالد رامسفيلد"، عن رأيه في هذه "القوة الناعمة"، فأجاب بأنه لا يفهم ما تعنيه هذ "القوة الناعمة"، وكان ذلك واضحًا في سياساته قبل فترة طويلة من الدراما الأمنية، التي أعقبت الهجمات الإرهابية، في 11 سبتمبر 2001م، إذ كان من الصعب، في ظل مناخ الخوف هذا، التحدث عن "القوة الناعمة". وعلى الرغم أنه صار كثير الترديد لعبارة "حرب العقول"، في محاولة منه لجذب المعتدلين بعيدًا عن نداءات المتطرفين في استراتيجية واشنطن لمكافحة الإرهاب، ولكن بشكل عام، فإن رسالة ناي هي أن أمن الولايات المتحدة يتوقف على كسب القلوب والعقول بـ “القوة الناعمة"، بقدر ما يتوقف على ربح الحروب بـ"القوة الصلبة".

أعتقد أن هذا الاتجاه، الذي عبر عنه كل من ناي ورامسفيلد، يمكن رؤيته بوضوح في الحرب على العراق عام 2003م، التي قد يبدو للوهلة الأولى أنها مثال كلاسيكي لتطبيق "القوة الصارمة" والتعبير الصلب للإرادة العسكرية، والتي لم يكن لها أن تحدث إذا لم يتم تأمين "القوة الناعمة" في شكل دعم من الجامعة العربية والأمم المتحدة والرأي العام العالمي، الذي تمثله. ويسود اعتقاد الآن أنه من الواجب التاريخي على الشعوب في هذا الوقت تقوية هذا الاتجاه وجعله مسارًا لا رجعة فيه، بعيدًا عن مخلفات الآثار الكارثية الناجمة عن الإفراط في استخدام "القوة الصلبة"، والاتجاه المتعقل نحو "القوة الناعمة". وفي هذا الصدد، يظهر أن اقتراح "القوة الناعمة التوافقية"، يرشد إليه الدافع الداخلي باعتباره أهم مفتاح للولوج لعصر أقل عنفًا، أو ينعدم فيه العنف بأشكاله المختلفة. ويرتكز هذا التصور على سمات فريدة، وذات خصوصية عالية، وتهيأت لمن يقود دفته مؤهلات لا مثيل لها. ومثلما نجحت أنظمة "القوة الصلبة"، على مر العصور، في استخدام أدوات القهر، أو الصرامة الراسخة لتحريك الناس نحو أهداف معينة، فإن استدامة السلام في الحاضر والمستقبل تستدعي نهجًا جديدًا ومختلفًا من الدبلوماسية المهتدية بعناصر "القوة الناعمة التوافقية". إذ إن الحقيقة الماثلة تقول إنه لا يمكن أن توجد البيئة، التي تحتضن جميع الظواهر العالمية، إلا في علاقة ديناميكية مع نشاط الحياة المتولد داخليًا؛ من منظومة القيم الراسخة للدولة والمجتمع. لذلك، فإنه من الناحية العملية، يصعد السؤال الأهم حول كيفية تنشيط المصادر الداخلية للطاقة الروحية والحكمة الموجودة في حياتنا لتقود وجهتنا في العلاقات البناءة مع العالم من حولنا.

لهذا، فإن ما يوصف بعمليات "القوة الصلبة" هو على النقيض من ذلك، على أساس الطاقة المتولدة داخليًا المستمدة من إلحاح الضمير الإنساني، الذي يتم تخليقه من خلال الإجماع والرضا بين البشر. ولذلك، تعتبر تصورات "القوة الناعمة التوافقية"، مسعىً قيمي لإطلاق العنان للطاقات الداخلية للفرد، المتجذرة في الطبيعة الروحية والدينية للإنسان. وهذا يتجاوز مجرد الوعي الموضوعي الظرفي، لأنه يشير إلى حالة من الرحمة تتجاوز الفروق بين الذات والآخر، إلى طاقة عطوفة تنبض في أعماق الحياة الذاتية لكل الناس، أي إنها وحدة؛ على المستوى الأعمق، بين الذات والآخر. وفي الوقت نفسه، إنها توسع للذات المحدودة المقيدة بالانا نحو الذات الأكبر، التي لا حدود لها، ولا حاجب من ضرورات التواصل معها. ومن خلال التأمل العميق أحيانًا والصبر المطلوب لمواجهة المواقف الصعبة تجاه ما يضطرب به العالم الآن، يمكن تقوية وتنظيم الأعمال الداخلية للضمير الجمعي، وتمكين المعنيين من التقليل من بذل كل الجهود للتقليل من حالات انهيار عرى التماسك والسلام، وضبط النفس للحفاظ على العلاقات الإنسانية، التي قد لا تنتج بخلاف ذلك. ففي المجتمع المعاصر، لا توجد ضرورة أكثر إلحاحًا من ضبط النفس ولجم السلوك السياسي بناءً على هذا النوع من الروحانية الموجهة داخليًا. وبالقطع، لن يشجع هذا فقط على الاحترام العميق لكرامة الحياة، ولكن في عالم تزداد فيه العلاقات الإنسانية هشاشة بشكل متزايد، سيساهم أيضًا في استعادة وتجديد الصفات المهددة بالخطر مثل الصداقة بين الشعوب والثقة بين الدول؛ وهي صفات أساسية ذات روابط هادفة ومجزية للجميع.

الخاتمة:

يعتبر ذوبان الجليد الدبلوماسي في العلاقات بين الدول مؤشرًا على المرونة السياسية، وإرادة التوافق، و"القوة الناعمة"، التي تسم صناعة القرار الحاكم في أية دولة من الدول. لذلك، ما كان يمكن أن نبلغ ختام موضوع كهذا من دون أن نذكر مثالًا شاخصًا لما وصفنا به نهج الدبلوماسية السعودية، وما تختزنه من "قوة ناعمة توافقية"، وتجليها في مفاجأة العالم بعودة العلاقات مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الذي يُعَدُّ تطورًا إيجابيًا بكل المقاييس. فقد انشغل العالم لسنوات بِتعداد مصادر "القوة الصلبة" بين من اعتبروهم خصمين متنافسين على النفوذ في المنطقة، وقُرِعَت طبول الحرب في غير مرة، ويئس الخيرون من سلام يبتعد كلما اقتربت سوانحه. لكن، إرادة التوافق كانت تعمل بصمت وحكمة كسبت الانتصار للفريقين، وتوجت الصين كفائز لدورها في تسهيل الاتفاقية. ومن هنا، تتجلى أهمية "القوة الناعمة التوافقية" لأن لها تأثير إيجابي قابل للقياس في السياسة الإقليمية والدولية. فإذا كانت" القوة الصلبة" هي السبب الجذري لجميع الحروب، بما في ذلك "الحرب الباردة"، التي عاش فيها العالم بأسره تحت تهديد الدمار الشامل لسباق التسلح، فإن ما نقترحه كإضافة نوعية؛ موضوعية وقيمية، لما اجترحه عَالِم السياسة الأمريكي جوزيف ناي، هو مجرد تأكيد على أن النهج الأكثر فاعلية للسياسة الخارجية في القرن الحادي والعشرين هو مزيج من "القوة الناعمة" و"القوة الصلبة"، التي استبعدناها من فرضية التأسيس الأمثل لمقترحنا، في هذا المقال، حول "القوة الناعمة التوافقية"،  والتي يمكن وصفها؛ ربطًا بما أوردناه من مثال عودة العلاقات الدبلوماسية السعودية – الإيرانية، بأنها أعلى مراحل "القوة الذكية"، التي تكسب بالمرونة والتوافق أصعب معاركها السياسية. ويضاف إلى كل هذا ما يؤكد على حقيقة أن قدرة الدولة السعودية على المنافسة السلمية عالميًا متاحة بأبعادها الثلاث المتمثلة في النمو الاقتصادي، والقدرات العسكرية، والتأثير الثقافي والقيمي الروحي، التي تسمح بأن يُطلق عليها مصادر "القوة الكاملة"، التي هي جِماع "القوة الصلبة والناعمة والتوافقية"، والتي تجتمع حولها كل الأسس المادية وغير المادية للدولة والمجتمع.

مقالات لنفس الكاتب