array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 188

السياق الدولي يفرض تحول السعودية وبتوافق عربي لمركز قيادة المنطقة العربية

الأحد، 30 تموز/يوليو 2023

شهدت المنطقة العربية تطورات سياسية دراماتيكية خلال العقد الأخير، كانت غالبيتها نتاج السياسات الأمريكية التي أضرت باستقرار المنطقة باعتبارها وحدة جيوسياسية، حيث نشبت الصراعات الداخلية على الحكم وبرزت الجماعات الإرهابية، ما عطل سبل التنمية السياسية والاقتصادية في المنطقة. ومع تطور العلاقات السعودية ـ الصينية في مقابل توتر علاقتها مع الولايات المتحدة، لعبت المملكة السعودية دوراً محورياً في المنطقة؛ حققت خلاله مجموعة من الإنجازات الداخلية والمصالحات بين دول المنطقة.

ولا زالت القضية الفلسطينية تحظى بموقع الصدارة في السياسة الإقليمية والدولية، باعتبارها صراعاً جوهرياً، وبدون تسويته لن يتحقق الاستقرار والازدهار في المنطقة التي تمتلك كل مقومات النهضة. كما لا زال الموقف الفلسطيني يعاني من استمرار الانقسام الذي تتخذ منه إسرائيل مبرراً للتنصل من أي مشروع سياسي لتسوية القضية الفلسطينية، خصوصاً مع صعود اليمين المتطرف في إسرائيل.

وقد أكدت "قمة جدة" على مركزية القضية الفلسطينية في مرحلة يتصاعد فيها الصراع الدولي بين القوى الكبرى، بما يؤثر على السلوك السياسي للفاعلين الإقليميين والدوليين ويبرز القوة الناعمة للسعودية في تعاملها مع القضية الفلسطينية والجهود السعودية لتحقيق المصالحة الفلسطينية، بما يمثل عاملاً مدخلاً يدعم رؤية المملكة لتسوية الصراع مع إسرائيل.

أولاً: المملكة السعودية والقضية الفلسطينية: توجه راسخ

تتخذ السعودية موقفًا ثابتًا تجاه القضية الفلسطينية يؤكد على مركزية القضية الفلسطينية ودعمها، فالسعودية تدعم الثورة الفلسطينية منذ عام 1936م، وقدمت مساعدات عسكرية ومالية خلال حرب 1948م، وشارك جزء من الجيش السعودي في الحرب، وتشكلت لجان شعبية لدعم الفلسطينيين فترة حكم الملك فيصل، وقد أكدت السعودية في قمة مكة عام 1981م، أن فلسطين قضية الأمة الإسلامية الأولى، وأنه لا يجوز لأي طرف التنازل عنها، مع التأكيد على الالتزام بتحرير كل الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967م، وعدم القبول بأي وضع من شأنه المساس بالسيادة العربية على مدينة القدس الشريف، كما أكدت على ضرورة الالتزام باستعادة الحقوق الوطنية الثابتة للشعب العربي الفلسطيني وحقه في العودة وتقرير المصير، وإقامة دولته المستقلة. وتعتبر العلاقات السعودية ـ الفلسطينية علاقات متينة وراسخة تاريخياً؛ ولم تشهد توتراً سوى خلال أزمة الخليج الثانية جراء موقف منظمة التحرير المؤيد للعراق.

توالت الجهود السعودية لإيجاد حلول لتسوية القضية الفلسطينية؛ فكانت مبادرة السلام العربية 2002 م، التي عرضها الأمير عبدالله بن عبد العزيز  (رحمه الله) والتي أكدت على الدعم الثابت للشعب الفلسطيني بمختلف الأشكال؛ تأييدًا لنضاله المشروع في وجه الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى الدعم المالي الذي تقدمه المملكة للمؤسسات الفلسطينية الرسمية، وهذا الموقف لم يتبدل في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، والذي أكد مراراً على أولويات المملكة في السعي لإيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية وفق مبادرة السلام العربية، ومواصلة دعم القضية من أجل إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.

تستنكر المملكة جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين والتي تزايدت في السنوات الأخيرة في ظل الحكومة اليمينية الأكثر تطرفًا منذ نشأة إسرائيل، ومعروف أن إسرائيل تمثل مصلحة حيوية للولايات المتحدة، لذلك مارست ضغوطاً مختلفة على الدول العربية؛ لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، لكن دون الإقرار بالحقوق الفلسطينية، كما جاء في "صفقة القرن" التي طرحها ترامب. وهذا يفسر الضغوط على السعودية؛ لتطبيع علاقاتها بالكيان الإسرائيلي، كونها تعرف جيداً حجم المملكة وتأثيرها في المنطقة، وتدرك أن اتفاقات إسرائيل مع الدول العربية لن تجديَ نفعاً دون أن تطبع السعودية علاقاتها بإسرائيل.

بالمحصلة لم تنجح الضغوط الأمريكية على السعودية بشأن التطبيع، وظل الموقف السعودي يتمسك بتحقيق تسوية عادلة للقضية الفلسطينية كشرط لتطبيع العلاقات مع إسرائيل في إطار "مبادرة السلام العربية"، وهكذا عكست المواقف السعودية التزام أخلاقي عالي تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته باعتبارها قضية عربية بالأساس وتمثل جوهر الصراع في المنطقة التي لن يسودها الاستقرار في ظل الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ومقدساتهم، وهذا ما أجمع عليه القادة والزعماء العرب خلال قمة جدة مؤخرًا.

ثانيًا: بروز القوة الناعمة للمملكة السعودية في واقع دولي متغير

أنتجت الثورات التي نشبت في المنطقة العربية عام 2011م، حالة من عدم الاستقرار، نتيجة سقوط العديد من الأنظمة العربية، وتحول بعض هذه الثورات إلى صراعات مسلحة عصفت بالمنطقة وأفرزت مزيدًا من الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية، وتراجعت فرص الاستقرار والتنمية، بالإضافة لما شهده العالم مؤخراً من جائحة كورونا، والحرب الروسية في أوكرانيا، وتداعياتهما الاقتصادية والسياسية التي أثرت سلبًا على العالم بأكمله.

لقد خصت الإرادة الإلهية المملكة السعودية بموقع متميز وموارد استراتيجية؛ مكنتها من تجاوز التداعيات السلبية للجائحة، كما استفادت المملكة من ارتفاع أسعار النفط، بالإضافة لمكانتها الدينية (الروحية) كقبلة لملايين الحجاج، وعليه برزت المملكة كدولة تمتلك من الإمكانات المادية والحضارية ما يوفر لها كل مقومات النهضة، التي صاغ مشروعها ومأسستها ولي العهد محمد بن سلمان عام 2016 م، من خلال رؤيته (السعودية 2030)، والتي تقوم على تحقيق التنمية والازدهار، وترسم مستقبلاً طموحًا للمملكة في ضوء المتغيرات العالمية بما يؤهلها للعب دور قيادي سياسي وتنموي في المنطقة.

قادت السعودية مؤخرًا تحركات عربية أفرزت المصالحة الخليجية مع قطر، وإعادة العلاقات المصرية مع تركيا وقطر. كما عكس الاتفاق السعودي ــ الإيراني وبرعاية صينية مساعي السعودية لتهدئة المنطقة وحلحلة أزماتها؛ ما انعكس إيجابيًا على أمن المنطقة خصوصاً في اليمن ولبنان، بالإضافة لإعادة سورية لمقعدها في الجامعة العربية، وهذا ما يفتح المجال لإعادة الاعتبار للجامعة وتفعيل دورها.

ومع تراجع الهيمنة الأمريكية وشعور العرب الخذلان من الإدارات الأمريكية المتعاقبة؛ وخصوصًا في الملف الفلسطيني؛ ظهرت مواقف سعودية مستقلة تُغلب مصالحها الوطنية على المصالح الأمريكية، وبدأت بتوطيد علاقاتها بالصين وروسيا؛ كقوى تجابه الهيمنة الأمريكية الانتهازية. وقد تلاقت التوجهات والمصالح السعودية والعربية مع التوجهات الصينية، والتي توجت بقمة خليجية ـ صينية، وقمة عربية ـ صينية نهاية العام الماضي. وتوترت العلاقة مع إدارة بايدن، بعد خفض السعودية لإنتاج النفط بخلاف الرغبة الأمريكية، والتهديد السعودي بكسر معادلة "البترودولار" وإمكانية بيع النفط بعملات أخرى مثل اليوان الصيني. وفي هذا السياق جاء انضمام المملكة لمنظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة "بريكس" اللتان تمثلان أدوات المواجهة للهيمنة الأمريكية بقيادة الصين وروسيا.

وتؤكد دعوة الصين للسعودية للانضمام إلى تحالف "بريكس"، يؤكد على أن المملكة تسير بخطى واثقة وعالمية نحو رؤية 2030، وتبرز أهميتها الجيوستراتيجية؛ كدولة تحقق نسب نمو مرتفعة وعضو في مجموعة العشرين، وتمتلك جزءاً مهماً من الموارد العالمية، خصوصًا في مجال الطاقة. كما أن دخول المملكة تحالف "بريكس" يوسع دائرة الشراكات والمصالح مع تكتل اقتصادي يسيطر على ربع الإنتاج العالمي، خصوصًا وأن المملكة هي المصدر الأول للبترول.

وعليه؛ يمكن القول: إن الأزمة الأوكرانية فرضت معادلة دولية جديدة، تراجع فيها معيار القوة العسكرية لصالح القوة الاقتصادية؛ ما يمنح المملكة الفرصة لتوظيف موقعها الجيوبولتيكي في ظل تصاعد الصراع الدولي والإعلان رسميًا عن تشكيل نظامًا دوليًا متعدد الأقطاب. ويرى مراقبون أن السعودية تعيد صياغة علاقاتها الخارجية مع القوى الدولية ببراغماتية عالية، وتبرز عناصر قوتها الناعمة كدولة مؤثرة على المسرح الإقليمي والدولي.

وفي هذا السياق، ظهرت الجهود العربية والسعودية من داخل الجامعة العربية وخارجها لتوحيد الموقف العربي والخروج برؤية موحدة لمواجهة تحديات المنطقة في ضوء تفكك النظام الدولي أحادي القطبية، وتحوله لنظام "متعدد الأقطاب". وقد ولدت "قمة جدة" التي عقدت في 19 مايو الماضي آمالاً لإيجاد حلول ناجعة لأزمات المنطقة، عبر تعزيز العمل العربي المشترك، وتحصين المنظومة العربية من التدخلات الخارجية، وهذا ما أجمله ولي العهد "الأمير محمد بن سلمان" في افتتاحية القمة، مؤكداً على ضرورة التعاون بين الدول العربية لتحقيق الأمن والاستقرار لدول المنطقة وحتى لا تتحول المنطقة لساحة صراع.

ظهر هذا التوافق العربي تتويجاً للجهود السعودية، ورغم الانتقادات الأمريكية لمشاركة سورية في القمة لكن ذلك يؤكد أن أوامر أمريكا غير مطاعة في المنطقة العربية وأن حدود تدخلاتها باتت محدودة. كما عكس حديث الرئيس الأوكراني في قمة جدة بأن "زمن الاحتلال انتهى"؛ ازدواجية المعايير في التعاطي الغربي الأمريكي مع احتلال روسيا لأجزاء من أوكرانيا، وبين احتلال إسرائيل لكامل الأراضي الفلسطينية؛ فالولايات المتحدة تدعم أوكرانيا في الدفاع عن شعبها وسيادتها، وفي الوقت نفسه تتغاضى عن الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وانتهاك سيادته الوطنية وسرقة أرضه وتهويدها.

ثالثًا: "إعلان جدة" والقضية الفلسطينية

حظيت القضية الفلسطينية باهتمام كبير خلال قمة جدة، باعتبارها جوهر الصراع في المنطقة وقضية العرب الأولى؛ فلطالما صنفت الأنظمة العربية بناءً على موقفها من القضية الفلسطينية، وارتباط تلك المواقف بالعلاقة مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. وقد أكد "إعلان جدة" على مركزية القضية الفلسطينية واستنكر الممارسات العنصرية الإسرائيلية التي تستهدف أرواح الفلسطينيين وممتلكاتهم ووجودهم ما يهدد استقرار المنطقة. كما أكد الإعلان على أهمية تكثيف الجهود العربية للتوصل إلى تسوية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، وفقاً للمرجعيات الدولية وعلى رأسها مبادرة السلام العربية وقرارات الأمم المتحدة، بما يضمن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على الأراضي الفلسطينية بحدود عام 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية.

ودعا "إعلان جدة" المجتمع الدولي إلى الاضطلاع بمسؤولياته لإنهاء الاحتلال، ووقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة والتي تقوض جهود السلام الدولية، مع ضرورة حماية مدينة القدس والمقدسات من محاولات تغيير الوضع الديمغرافي والقانوني والتاريخي للمدينة؛ وذلك عبر دعم الوصاية الهاشمية التاريخية على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وتفعيل الجهود العربية للدفاع عن القدس ودعم صمود أهلها من خلال اللجان القائمة مثل لجنة القدس وبيت مال القدس. كما عكس الإعلان توافق القيادات العربية تجاه القضية الفلسطينية، ورغبتها بتسوية الأزمات بالطرق السلمية وتحقيق الاستقرار؛ سعيًا لتنمية سياسية واقتصادية حقيقية في المنطقة العربية.

مثل إعلان جدة بؤرة أمل جديدة للشعب الفلسطيني بموقف عربي حقيقي ودور سعودي يعمل على تحقيق المصالحة الفلسطينية من شأنها أن تقوي الموقف الفلسطيني في مواجهة الجرائم والانتهاكات الصهيونية التي تزايدت وتيرتها مؤخراً. كما يمكن اعتبار "إعلان جدة" وثيقة مرجعية للتعامل العربي مع الملف الفلسطيني عبر التنسيق والتعاون بين المملكة السعودية والدول العربية لدعم الموقف الفلسطيني وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية.

رابعًا: الجهود السعودية لإنهاء الانقسام الفلسطيني وتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي:

يتركز التعامل السعودي مع الملف الفلسطيني على المستوى الداخلي وتحقيق المصالحة الفلسطينية، وعلى مستوى الصراع الفلسطيني الإسرائيلية وإحياء عملية التسوية السياسية؛ فالمملكة السعودية التي أضحت تلعب دوراً قيادياً في المنطقة لا بد أن تضطلع بدور رئيس في القضية الفلسطينية.

مثلت مكة قبلة الفلسطينيين الأولى لتوقيع أول اتفاق سياسي لترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، بعد نجاح حماس في الانتخابات التشريعية 2006م، ودخول النظام السياسي الفلسطيني في أزمة حقيقية بفعل سيطرة حماس على المجلس التشريعي المنبثق عن اتفاق أوسلو، وهي غير ممثلة في المنظمة التي وقعت الاتفاق مع إسرائيل، حيث وقعت حركتي فتح وحماس وبرعاية سعودية "اتفاق مكة" عام 2007 لوقف الاقتتال وتحقيق المصالحة الفلسطينية. وساءت علاقة المملكة بحركة حماس بعد انقلاب حركة حماس على اتفاق مكّة عام 2007م، وسيطرتها على غزة بالقوة العسكرية، كما تأزمت العلاقة على إثر اعتقال عناصر وقيادات من حماس في السعودية عام 2019م.

لكن المملكة ظلت تبارك المساعي العربية وخصوصاً المصرية التي بُذلت لإنهاء الانقسام الفلسطيني ووقف الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين. لكن تعنت طرفي الانقسام وخصوصًا حركة حماس وارتباطاتها الخارجية أفشل تلك المساعي؛ وذلك بسبب غياب التوافق على برنامج وطني حقيقي لاستعادة الوحدة الوطنية؛ ما أنجح السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى تعميق الانقسام والاستفراد بكل طرف على حدة. كذلك فشلت جميع جولات المصالحة بين حركتي فتح وحماس في عدة عواصم عربية بسبب التدخلات الخارجية، فقد لعبت كل من قطر وإيران عبر علاقتهما بحركة حماس أدواراً سلبية لجهة إنجاز المصالحة الفلسطينية، وتوظيف ذلك لخدمة أهدافهما مثلما حدث عام 2014م.

على الجانب الآخر، سعت حماس للخروج من أزمتها الهوياتية بعد سقوط المشروع الإخواني في مصر وتصنيفها كحركة (إرهابية)، لذلك أعلنت حماس في مايو 2017م، وثيقتها السياسية والتي اعتبرت( تحديثًا لميثاق الحركة) وتضمنت متطلبات الانفتاح في علاقاتها الخارجية خصوصًا مع مصر والسعودية، حيث تنصلت مع امتدادها الإخواني ونبذت العنف والإرهاب وأبدت مرونة سياسية عالية فيما اعتبرته تطورًا في فكرها السياسي، كما تجاوبت مع كل المبادرات التي تطرح سواء في ملف المصالحة أو حتى تفاهمات التهدئة مع إسرائيل.

أصبحت المملكة تلعب دورًا ملموسًا في الملف الفلسطيني خلال الأشهر الأخيرة، فقد زار الرئيس عباس ووفد رفيع المملكة في 17 أبريل الماضي بدعوة رسمية والتقى بولي العهد محمد بن سلمان والتشاور بشأن آخر تطورات القضية الفلسطينية والأوضاع في المنطقة. وذلك بالتزامن مع استضافة وفد رفيع من حركة حماس برئاسة هنية في زيارة هي الأولى من نوعها بعد قطيعة دامت سنوات. وفي 24 يونيو زار السعودية وفد من حركة حماس برئاسة إسماعيل هنية، وجاءت هذه الزيارة غير رسمية لأداء مناسك الحج، لكنها تزامنت أيضًا مع زيارة لرئيس الحكومة الفلسطينية محمد شتية للسعودية.

وتعكس استضافة المملكة لوفود من حماس تحول في علاقة السعودية مع حماس التي تحرص على توطيد علاقتها بالسعودية خصوصًا بعد التقارب السعودي مع قطر وإيران. ويبدو أن هذه الزيارات تأتي في إطار جهود غير معلنة تقودها السعودية لترتيب الوضع الفلسطيني الداخلي؛ فليس صدفة أن ترافقت الزيارة الأولى لوفد حماس مع زيارة الرئيس محمود عباس، وقد استُكملت تلك اللقاءات في القاهرة بحضور جميع الفصائل الفلسطينية للتفاهم على صيغ واقعية يمكن أن تقود لإنهاء الانقسام بشكل يحفظ للأطراف وزنها السياسي ومصالحها.

فالسلطة الفلسطينية تعيش أزمةً سياسية واقتصادية خانقة مع تزايد الجرائم الإسرائيلية، واستمرار قرصنة أموال السلطة وتراجع الدعم المالي العربي ما جعلها على حافة الانهيار، وترحب القيادة الفلسطينية بالجهود السعودية والعربية لتحقيق المصالحة بما يدعم الموقف الفلسطيني عبر ربط التطبيع باستعادة الحقوق الفلسطينية.

يدرك الجميع فلسطينياً وعربياً أن تحقيق المصالحة الفلسطينية هو مطلب وطني فلسطيني؛ ومتطلب أساسي لإدارة الصراع مع إسرائيل، خصوصا في ظل الانقسام والأزمة البنيوية التي تهدد النظام السياسي الفلسطيني برمته وانسداد الأفق السياسي لتسوية القضية الفلسطينية. كما أن النظام المصري الحريص على دوره في الملف الفلسطيني يرحب بالجهود العربية السعودية والقطرية لتحقيق اختراق في الملف الفلسطيني

وعلى هذا النحو، يمكن أن توظف المملكة أدواتها وعلاقاتها مع طرفي الانقسام الفلسطيني والفاعلين الإقليميين لتحقيق اختراق في الملف الفلسطيني الداخلي وتوحيد الموقف السياسي الفلسطيني وإنجاز الوحدة الوطنية، نظرًا لتوفر الظروف الموضوعية في الإقليم. ومن المهم هنا استكمال الجهود السعودية بالتعاون مع مصر والدول المؤثرة في الساحة الفلسطينية، وحشد المواقف بما يؤدي لإنهاء الانقسام وتوحيد الموقف الفلسطيني بما يفتح المجال لطرح مشروع سياسي لتسوية الصراع مع إسرائيل.

الموقف السعودي من القضية الفلسطينية واضح وهو ملتزم بما جاء بالمبادرة العربية للسلام، حيث أكدت السفيرة السعودية في الولايات المتحدة أن مصلحة المملكة تتعلق بشرق أوسط متكامل ومزدهر يتم في إطاره إنجاز حل عادل للقضية الفلسطينية يتحقق معه السلام والتعايش وتطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، وأن ما تقوم به إسرائيل حاليًا يقتل فرص تحقيق السلام والتطبيع. فيما اعتبر الرئيس بايدن أنه ليس لدى السعودية مشكلة كبيرة مع إسرائيل، ولكننا لا نزال بعيدين عن إبرام اتفاق تطبيع، وأن أمن إسرائيل النهائي يتحقق عبر حل الدولتين واستعادة الحقوق الفلسطينية. بالإضافة لذلك؛ لمحت السعودية لاشتراطات واضحة لتطبيع علاقتها بإسرائيل، تمثلت في بيع المملكة نفس الأسلحة التي تصل لإسرائيل ومساعدة المملكة من إنشاء برنامج نووي سلمي.

إن سياسة تصفير المشاكل والانفتاح على جميع الفاعلين في الإقليم يمنح الدبلوماسية السعودية مساحة أوسع للعب دور غير نمطي في التعاطي مع الملف الفلسطيني، من خلال استغلال العلاقات المتينة مع كل من روسيا والصين وهما أعضاء في "الرباعية الدولية"، بالإضافة لدعم المطالب الفلسطينية في المحافل الدولية بما يسمح للسعودية إعادة طرح مبادرة سياسية للضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل للاعتراف بالحقوق الفلسطينية عبر إعادة إحياء المبادرة العربية كحد سياسي متوافق عليه فلسطينياً وعربياً ويتماشى مع رؤية المجتمع الدولي لتسوية القضية الفلسطينية، خصوصاً وأن الرئيس الصيني أعرب مؤخراً عن استعداد بلاده للعب دور إيجابي لتحقيق المصالحة الفلسطينية الداخلية تمهيداً لدفع محادثات سلام تقود إلى تأسيس دولة فلسطينية على حدود عام 67 وعاصمتها القدس الشرقية.

إن القضية الفلسطينية ازدادت تعقيدًا مع صعود الصهيونية الدينية وتعنت الموقف الإسرائيلي المدعوم أمريكياً، لكن المتغيرات الإقليمية والدولية الأخيرة وتراجع الهيمنة الأمريكية في المنطقة العربية؛ يملي على القيادات العربية الأخذ بزمام المبادرة والتنسيق في الملف الفلسطيني مع القوى العالمية المناوئة للهيمنة الأمريكية، ووضع "إعلان جدة" موضع التنفيذ عبر تفعيل الدبلوماسية السعودية في الملف الفلسطيني.

وأخيراً، يبدو أن السياق الدولي يفرض نفسه؛ كي تتحول السعودية وبتوافق عربي لمركز قيادة المنطقة العربية، وهذا ما برز خلال قمة جدة، بالإضافة لتطور علاقات المملكة مع الصين وروسيا الذي أربك حسابات الولايات المتحدة؛ فلم تكن الرعاية الصينية للاتفاق السعودي الإيراني إلا رسالة سياسية واضحة تعكس مدى التقارب الصيني السعودي؛ فقد تلاقت الأفكار والأطروحات التي تتبناها السعودية مع الرسالة السياسية والحضارية التي تقدمها الصين للعالم؛ سعياً لتحقيق السلم والاستقرار حول العالم، والذي يبدأ من فلسطين.

مقالات لنفس الكاتب