array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 188

الإعلام السعودي مطالب بدعم القوة الناعمة بالمبادرة وليس ردة الفعل

الأحد، 30 تموز/يوليو 2023

يعد جوزيف ناي أول من صاغ مفهوم القوة الناعمة في صورة نظرية مقنعة ومحكمة البناء، ولكن قبل أن يعلن ناي عن نظريته ظهرت القوة الناعمة عبر التاريخ الإنساني من خلال انجذاب الناس إلى الأديان كدعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد دخل الكثير الدين الإسلامي من خلال قوة الاقناع وتأثير الرسالة عليهم " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" كما ظهرت في العصور القديمة دعوات متعددة للتعامل بالقوة الناعمة، من خلال كتابات الفلاسفة أمثال كونفوشيو وسقراط، وغيرهما. والفيلسوف والمفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في نظريته الهيمنة الثقافية في مؤلفه رسائل السجن، وأوضح فيه أنَّ الهيمنة الرأسمالية تكون من خلال مؤسسات كالمدرسة والكنيسة ووسائل الإعلام التي تصنع صورة جيدة عن النخبة الرأسمالية بهدف السيطرة على عقول الناس، ففرنسا مثلاً كانت أول من استخدم هذا المفهوم من خلال التأثير الثقافي على شعوب مستعمراتها عن طريق التعليم، ولذا روجت كل من بريطانيا وأمريكا لمبادئ تتماشى مع طبيعة نظامها الاقتصادي لكي تخدم مصالحهما فالليبرالية والديمقراطية تتماشى إلى حد كبير مع فلسفة القوة الناعمة.

 

   بعد الحرب العالمية الثانية كانت المحاولة الحقيقة لتوظيف القوة الناعمة من خلال برنامج فولبرايت  للتبادل الطلابي حول العالم عام 1946م، كوسيلة للتأثير في الثقافات والهيمنة على عقول المجتمعات الأخرى واستخدمت القوة الناعمة بشكل كبير في أثناء الصراع الإيدلوجي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وسعيهما للتأثير في شعب الطرف الآخر، وهذا ما عبر عنه جوزيف ناي بقوله:" إنَّه قد تم اختراق العقول بالأفلام والمسلسلات الأمريكية قبل اختراقها بالمطارق والجرافات" مما يدل على استخدام القوة الناعمة بشكل كبير في الحرب الباردة بين الطرفين .

 

    استخدمت أمريكا القوة الناعمة بكفاءة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي للتأكيد على النظام أحادي القطبية ونشر قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتخلص من الأنظمة الفاشية إلى الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 م، التي أعادت مفهوم القوة الناعمة للاستخدام بكثرة في العلاقات الدولية وقد جاء ضمن هذا الاستخدام وثيقة الشرق الأوسط الكبير التي قدمتها الولايات المتحددة الأمريكية إلى مجموعة الدول الثمانية الكبيرة عام 2004م، فكان الهدف الظاهر منها تمكين المرأة والتحول إلى المجتمع المعرفي بالوطن العربي إلَّا أنَّ الهدف الخفي هو السيطرة على العقول والهيمنة على الوطن العربي لكي يسير على النمط الغربي ويتم تفكيكه وفق المخطط الغربي، وإبقائه تائهاً و تابعاً له.

 

   يتلخص جوهر القوة الناعمة من وجهة نظر (جوزيف ناي)، في الحصول على ما تريد من خلال الجذب بدلاً من القسر من خلال توظيف وسائل ثقافية وأيديولوجية؛ باستخدام الدراما ووسائل الإعلام المختلفة، وهذا المفهوم أكدت عليه وزيرتا خارجية أمريكا، في حقبتين زمنيتين، فمادلين أولبرايت قالت بأن على واشنطن عدم الاكتفاء بلعب دور رئيس في العلاقات الدولية، بل يجب عليها أن تكون هي كاتب النص والمخرج والمحدد الوحيد لأدوار الفاعلين السياسين حول العالم، ولم تبتعد هيلاري كلينتون عن هذا المعنى عندما طالبت بإضافة بعداً أخر له وهو توظيف القوة الناعمة والدبلوماسية العامة لخدمة السياسية الأمريكية.

 

    بدوره آمن البيت الأبيض منذ وقت مبكر بأهمية الإعلام بشكل عام والسينما بشكل خاص في التأثير على الجماهير، فحاول استغلالها لخدمة سياسته وأهدافه، وقد ظهر ذلك جليًا في الحرب العالمية الثانية وفي حرب فيتنام وحرب العراق وحرب أفغانستان، والحرب الباردة، وأزمة كورنا، وتوظيفها في الحرب على الصين، وهذا يفسر قيام رجال السياسة في البيت الأبيض والبنتاغون في إقامة علاقات متينة مع رجال الأعلام وصناع السينما في هوليوود.

 

توظيف الإعلام في القوة الناعمة:

لم يعد السؤال في هذه الأيام بين المختصين حول مدى تأثير العلاقات الدولية المعاصرة على الإعلام مقبولاً، إذ قد تكون الحاجة أكثر إلحاحاً إلى طرح السؤال بشكل مقلوب عن تأثير الإعلام على العلاقات الدولية المعاصرة. ولأن عالم الاتصال شهد تطوراً كبيراً في وسائله وأنماطه، مما أدى لسرعة وسهولة انتقال الثقافات والتقارب بين الشعوب، وإحداث التأثير المطلوب؛ متجاوزة الحدود والعزلة بين المجتمعات وربطها بعلاقات وتفاعلات دولية، فلم تعد وسائل الاتصال مجرد أدوات لنقل الصوت والصورة، والترفيه، بل تحولت إلى أدوات لكسب ولاء وانتماء المتلقي دون شعور منه للقائم بالاتصال. وهذا ما كان يحذر منه الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" بوصفه القوة الناعمة بأنها قوة إجبار غير مباشرة، تحقق ما تعجز القوة الصلبة عن تحقيقه.

وهذا ما يدفعنا للقول بأن قوة الدول العظمى لم تعد تقاس بالسلاح فحسب، بل صار للتفوق عناوين أخرى ومجالات مختلفة، وأصبحت تكنولوجيا الاتصال والإعلام من الأعمدة الرئيسة لقياس قوة الدول وتقدمها، وقدرتها على نقل ثقافتها وتوطينها وكسب ولاءات خارج الحدود بحسب ما تمتلكه من امبراطوريات إعلامية عابرة للحدود، وقادرة للترويج والدعاية بمهارة، وبطرق متعددة لمن يمتلكها أو يمولها.

    فالإعلام أحد الركائز المهمة التي تعتمد عليها الدول في تنفيذ سياساتها. وشهد العالم في نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي تطوّرات سياسية كبيرة؛ مما دفع الحكومات للجوء إلى مختلف الوسائل الإعلامية من أجل تحقيق غاياتها والترويج لأيديولوجيتها. ولخطورة هذه الوسائل وأهميتها سعت الجهات السياسية لتجنيدها وتطويعها لتصبح إحدى أدواتها، وهذا ما عبرت عنه صحيفة الليموند الفرنسية بمقال حمل توقيع الكاتب صامويل بليمون تحت عنوان "البنتاغون والسي. إي. أ تجندان هوليوود"، بعد الجفوة والقطيعة بين البيت الأبيض وهوليود بسبب انتقادات الأخيرة للحرب في فتنام، وتأليب الرأي العام ضد الحكومة.

       فعلى سبيل المثال اهتم رجال البنتاغون بمتابعة فيلم "سقوط الصقر الأسود،" قبل عرضه رسمياً، بسبب روايته تدخل الجيش الأمريكي في الصومال وتركيزه على تعاون الجنود الأمريكيين فيما بينهم رغم خسارة المهمة وموت عدداً منهم. هذا الفيلم شاهده، قبل عرضه في دور السينما للجمهور، كل من نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ودونالد رامسفيلد، وفي نفس العام، شاهد الرئيس الأمريكي جورج بوش ورامسفيلد وكوندوليزا رايس وعدد من ضباط البنتاغون في جلسة خا­صة فلم" كل أنواع الخوف"؛ إن هذين المثالين يدلا­ن على ثلاثة أمور مهمة:

  • ا­لاهتمام الكبير الذي أصبحت توليه الحكومة الأمريكية للسينما.
  • العلاقة المتينة بين البيت الأبيض وهوليوود والتعاون الكبير بينهما.
  • تراجع الدول عن استخدام القوة الصلبة، واستبدالها بأدواتها الثقافية والإعلامية.

ولإدراكها أهمية الدراما وقوتها في التأثير على المعتقدات ومن ثم السلوك، حرصت أمريكا على محاصرة وعي مواطنيها بكم كبير من الأفلام حتى ظن المواطن الأمريكي إلى نهاية التسعينات أن لا حضارة خارج بلاده، ولم يقتصر استخدام هذه الحصانة الثقافية والإعلامية على أمريكا، بل إن عدداً من الدول الأوربية مثل ألمانيا وهولندا، ولكسمبورغ وفرنسا، وغيرها حتى وقت قريب لا تُعرض فيها الأفلام الأمريكية إلا مدبلجة بلغتها، وليست فقط مترجمة.

    هذا يؤكد على خطورة القوة الناعمة، حتى وإن كانت صادرة من الدول الصديقة أو الحليفة، لقدرتها الفائقة على صبغ وعي المتلقي دون وعي منه بثقافتها، وقيادته إلى الاصطفاف معها من خلال تشبعه بالعمالة الطبعية والولاء المعرفي والإداري والفكري والثقافي لمن يقف خلف القوة الناعمة.

ماذا عن قوة السعودية الناعمة؟

 

تمتلك السعودية الكثير من المقومات لبناء أذرع ناعمة، قوية التأثير.. المهم أن تتكامل الجهود، وتعمل بخطط تراكمية وواضحة. فالمملكة أحوج ما تكون لان تستثمر في قوة الدبلوماسية العامة اليوم أكثر من أي وقت مضى بسبب ما تقوم به من أعمال خيرة، وبما تمتلكه من قوة ناعمه متنوعة لم تستثمر جيداً، والأهم ما لحق صورتها الذهنية لدى العالم من أضرار، بسبب الحملات الإعلامية المصنوعة، والتي استهدفت السعودية خلال السنوات القليلة الماضية. وهنا يبرز السؤال الأهم: ما عناصر القوة الناعمة التي نمتلكها؟ وكيف نبنيها، ثم نوظفها ونستثمرها لصالح صورة السعودية إقليمياً وعالمياً؟

 

     هذا السؤال استدعته أحداث رياضية كثيرة، كشراء نادي نيوكاسل، ثم الفوز التاريخي للمنتخب السعودي على بطل كأس العالم في قطر، ثم تعاقد بعض الأندية السعودية مع أبرز نجوم كرة القدم ذوو الشهرة العالمية، وأخيرًا اندماج ثلاثة بطولات غولف في بطولة واحدة لتؤسس أكبر كيان تجاري للعبة الغولف بالعالم.الموضوع لم ولن يتوقف عند استحواذ السعودية على أندية وبطولات رياضية عالمية، فلو أجريت دراسة عن تكرار أسم السعودية بعد المباراة مع الأرجنتين، وفوز نادي نيوكاسل في إحدى مبارياته لربما ادهشتنا الأرقام، ولو قدم جوجل مثلاً عدد الذين بحثوا عن السعودية في محركاته قد لا نصدق العدد، ولا الدول التي تحركت  فيها محركات البحث.

 

     اذًا نحن أمام فرصة ذهبية لإعادة صناعة وتعريف صورتنا الذهنية كما نرغب، لدى مختلف الشرائح المتابعة للأنشطة الرياضية، والعمل بقاعدة ايفلي أبو العلاقات العامة؛" إذا فعلت خيراً فأظهره للناس" فلدينا الكثير من أدوات القوة الناعمة، بدءاً من خدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما، والريادة في فصل التوائم، والعمل الخيري الذي جعل السعودية تتبوأ أحد المراكز الثلاث الأولى في تقديم المساعدات. الاستقرار السياسي، والأمني، وهويتنا الوطنية وما تنطوي عليه من قيم التسامح والكرم وقبول الآخر، ما دفع سيدة عراقية بعدما لقيت من حسن الاستقبال والوفادة أثناء وصولها للسعودية لأداء فريضة الحج، للقول بلهجتها العراقية الجميلة:" أني أقص قلبي فدوة للسعودية"، وغيرها الكثير.

أمامنا فرصة عظيمة لبناء قوتنا الناعمة بصورة متكاملة، من خلال:

  • رصد وتحليل الوضع الراهن للقوة الناعمة السعودية.
  • استشراف مستقبل القوة الناعمة إقليمياً ودولياً.
  • رصد التحولات المستمرة في القوة الناعمة.
  • تحديد مصادر القوة الناعمة السعودية الحالية والمستقبلية.
  • العمل على مقاومة القوة الناعمة الأجنبية، وتأثيراتها المرتدة على القيم والهوية الوطنية. تكامل القوة الناعمة والصلبة من خلال برنامج وطني يعمل على تحقيق وتفعيل رؤية السعودية 2030.
  • إيجاد تحالفات بين القوى الناعمة المماثلة للدول الصديقة.
  • العمل على صناعة إعلام مؤثر وجذب وتطوير الكفاءات الإعلامية الوطنية.
  • الإيمان بأن الإعلام رسالة؛ وليس وظيفة أو خدمة عامة.

يبقى السؤال الأهم: ما عناصر القوة الناعمة التي تمتلكها المملكة العربية السعودية؟ وكيف نوظفها ونستثمرها لصالح صورة السعودية إقليميًا وعالميًا؟

الحج والعمرة: نقل الصورة الصحيحة والمشرقة عن المملكة وخدمتها للحرمين الشريفين والحجاج والمعتمرين، بما يعكس الصورة المشرقة لقيم الإسلام السمحة، حيث يفد مئات الآلاف إلى السعودية من مختلف الأعراق ومن جميع الدول.

الابتعاث للدراسة: يعد برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي أحد أكبر مصادر القوة الناعمة للسعودية، فالمبتعثون قادة المستقبل، ومن خلال تواجدهم يمكن بناء علاقات صداقة مع مختلف المؤسسات العلمية، والمشاركة أيضًا عبر الفعاليات الثقافية والعلمية لتقديم صورة السعودية المشرقة، حيث يستطيعون التأثير بطريقة ذكية ليكونوا بذلك خير سفراء للمملكة.

المنح الدراسة: من خلال استقطاب طلبة أجانب للدراسة في الجامعات السعودية، فهذا سيعزز القيم السعودية ويزيد رصيد قوتها الناعمة، ولا سيما أن الطلبة الدوليين عندما يعودون إلى أوطانهم سيحملون تقديرًا أكبر لقيم البلد الذي درسوا فيه وللمؤسسات التعليمية التي تخرجوا فيها. ونرى ذلك واضحًا عند من درسوا في أمريكا مثلاً، حيث يشكلون رافدًا إيجابيًا في تحسين صورتها.

البعثات الدبلوماسية: تملك السعودية مخزونا من الكفاءات الوطنية الشابة المؤهلة بخبرة واسعة وتتقن لغات عدة، حيث يمكن استثمارها وتعيين بعضهم سفراء ليقدموا السعودية الجديدة للعالم، ومن الضروري تغيير النظرة السائدة إلى وظيفة السفير على أنه ممثل لدولته في الشؤون السياسية والعلاقات الثنائية إلى قوة ناعمة يمثل عبرها الدولة ببعدها الحضاري، فمن خلاله تبنى جسور العلاقات المتنوعة لتحافظ على مصالح الدولة السياسية والاقتصادية والثقافية.

 

 مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية: تمثل المساعدات السعودية المقدمة لمختلف الدول صورة ناصعة في هذا المجال، حيث امتدت أيادي المملكة البيضاء لتقدم العون والمساعدة للمحتاجين والمتضررين ومعالجة جراح المكلومين في كل مكان دون النظر للعرق أو اللون أو أي أمر آخر. ففي السابق كانت المساعدات السعودية تصل للدول الأقل نمواً والأكثر حاجة، أما اليوم فقدت امتدت المساعدات السعودية لمختلف دول العالم، ففي عملية إجلاء الرعايا من السودان قدمت المساعدات السعودية لرعايا مائة وعشر دول، من بينها دول توصف بالعظمى.

 

الدراما السعودية: الاستثمار في الدراما بشكل محترف لتسويق صورة السعودية عالميًا، فكثير من القوة الأمريكية الناعمة التي تتمتع بها حاليًا هي نتاج هوليود. وللتدليل على أهمية الدراما في صناعة القوة الناعمة؛ خلصت عدد من الدراسات إلى نتائج مهمة منها، أن الدراما بأنواعها المسرحيات، الأفلام السينمائية، الدراما التلفزيونية أحد أهم مصادر القوة الناعمة للدول، ولذا استفادت منها كثير من الدول الأجنبية ووظفتها ضمن مصادر قوتها الناعمة، مثل: أمريكا،  الصين، كوريا الجنوبية، تركيا، التي صنعت لها الدراما التركية المدبلجة للعربية صورة ذهنية إيجابية، عن الشخصية التركية، وعن السياحة في تركيا،  التي شهدت انتعاشاً غير مسبوق، لم يكن للجهات المسؤولة عن السياحة في تركيا فيه جهد يذكر، بل إن عدداً من المواليد العرب إبان عرض هذه المسلسلات التركية، تم تسميتهم بأسماء أبطال هذه المسلسلات- مهند- لميس- نور- وعلى الجانب العربي إما نجد ضعفاً في   الاهتمام بتوظيف الدراما ضمن منظومة القوة الناعمة، أو غياباً تاماً، لأسباب تتراوح بين الديني والسياسي وضعف النصوص، ورداءة الإنتاج وغيرها.

 

     وبعد هذا الاستعراض، يتبين لنا، أن السعودية كبقية الدول تمتلك الكثير من مصادر القوة الناعمة، ولكنها لم تفعّلها كما يجب، نتيجة لغياب الإعلام الرسمي عن استثمار هذه القوة، وإبرازها، ومخاطبة شعوب العالم بلغاتهم المختلفة، بما تقدمه من خدمات، وما تمتلكه من مقومات، فالعالم لا يعلم عنك مالم تقدم نفسك لهم، ولا يكمن العمل بمقولة "الناس تعرف ما نفعل" ففي زمن الإعلام والسوشال ميديا، وسهولة التواصل بين الأمم، أصبح لازماً على الدول أن تصنع محتوى إعلامياً في قوالب تناسب كل وسيلة، ونحن مثلاً نعيش موسم الحج، لا يكفي إبراز الجهود السعودية تجاه المدينتين المقدستين وقاصديهما، فالحج كنز من القصص الإعلامية التي يجب التقاطها وإبرازها، فرجل الأمن مثلاً يطلب منه تأمين المنطقة التي يقوم بخدمتها، ويتقبل منهم الشدة إلى حد ما، لكن رجال الأمن السعوديين في الحج يقدمون خدمات تتجاوز مهامهم الرئيسة، ولكنها من صميم هوية وقيم المجتمع، فنحن بحاجة لإبرازها في مختلف الوسائل بطريقة جاذبة، سهلة التداول، والفهم، بعيداً عن لغة الدعاية الممجوجة.

أيضاً أين دور الإعلام عن مشروع مسام السعودي وزراعة الأطراف التعويضية، وفصل التوائم وإجلاء العالقين من مختلف الجنسيات في السودان، نحن في زمن لا نبحث فيه عن خبر تقليدي، تصنعه وتتداوله جميع ناقلات الأخبار دون أن يلفت الانتباه، ثم يتحول إلى خبر بايت غير قابل للتداول بعد ساعات، فرجل الإعلام الحقيقي يعلم أن الأخبار مثل الفاكهة سريعة العطب، والسؤال الأكثر إلحاحاً بعد النظر في جميع ما سبق كيف نتعامل مع قوتنا الناعمة، وكيف نصنعها ثم نوظفها ونزيد من فعاليتها؟.

   

          هنا سوف اتحدث عن حالة واحدة فقط، ليتضح المقال بالمثال، فعندما نتابع بوصلة العمل الإنساني السعودي نجدها لا تستقر في مكان واحد، ولذا يحق لنا أن نفخر ونفاخر بأن نهر العطاء السعودي جرى في جميع أنحاء الكرة الأرضية، ولم تنهل منه الدول الفقيرة، أو المنكوبة فحسب، بل حتى دول العالم الأول، امتدت لها يد الخير السعودية. لكن ماذا عن التغطية الإعلامية السعودية، هل بالغت وسائل الإعلام السعودية وتجاوزت المهنية؟ في تقديري الخاص أن التغطية الإعلامية كانت طبيعية، ولكنها تكررت مع وصول كل سفينة، حتى اعتقد البعض أنها تكرار لحدث سابق!، ولأني متخصص في الإعلام، وسقف تطلعاتي عال جداً، فأرى أن الإعلام السعودي بجناحيه، لم يبالغ، وكان في مقدوره تقديم العمل بما يتلاءم مع الحدث، وتجييره لحساب قوة السعودية الناعمة، هذا النجاح والتميز كان يحتاج إلى أن يصحبه الإعلام منذ اللحظة الأولى التي أبحرت فيها أول سفينة سعودية حتى وصولها إلى بورتسودان. إيجاد غرفة عمليات إعلامية خاصة بالحدث ليس بالأمر المستحيل.

 

    ليس هذا فحسب، فالمشاهد لم يطلع إلا على المشهد الأخير عندما رسى موكب السفن السعودية في قاعدة الملك فيصل في جدة. لم تكن عملية إجلاء الرعايا نزهة بحرية بالتأكيد. كنت أتمنى أن يرافق إعلامنا الجهود السعودية خطوة بخطوة، وينقل للجميع المخاطر، ووعورة الطرق، وكيف تم صناعة ممرات أمنة، ثم كيف تمت عملية الإجلاء والجهود التي تقوم بها السفارة السعودية، والخدمات الصحية وغيرها التي تقدم لجميع الرعايا، ثم تصحبهم في رحلة العودة وتوثقها، وأن تستعين بمذيعين يجيدون الحديث بلغة الرعايا، وتوثيق هذه اللحظات، وصناعة محتوى مناسب للسوشيال ميديا، ولوسائل الإعلام المختلفة، تراعى فيه الأسس الفنية والمهنية، ومنها التفكير بعقلية المتلقي. بهذا تجعل المشاهد في كل مكان يعايش لحظات عملية الإنقاذ، ولا يرى الثمرة التي آلت إليها فقط.

 

    وأخيراً من المهم التوقف عند التقرير الصادر عن وكالة بورتلاند2022، المتضمن مؤشر القوة الناعمة لثلاثين دولة، ليس من بينها أية دولة عربية!! بناء على عدة مقاييس من بينها الإعلام، وسهولة الاتصال؛ لذا علينا الاستفادة من تجارب الآخرين، في الاستمرار في العناية بمصادر القوة الناعمة التي نملكها فعلاً، حتى نجني ثمارها، بعد تطوير أدواتها، وتحديداً وسائل الإعلام التي تمتلك قدرة كبيرة في إحداث التأثير، من خلال صناعة الأخبار، والأفلام ومواكبة التحولات التي لا تتوقف في البيئة الاتصالية.  ولكن بطريقة مهنية. فالإعلام السعودي بجناحيه مطالب بدعم رصيدنا من القوة الناعمة التي تتمتع بها المملكة وإبرازها بالشكل الصحيح، وهذا يتطلب العمل الجاد وفق استراتيجية إعلامية تعتمد على روح المبادرة وليس ردة الفعل، بما ينسجم مع رؤية المملكة الشاملة لمختلف المجالات.

مقالات لنفس الكاتب