array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 195

صراع دولي وتنافس أمريكي / صيني لعسكرة البحر الأحمر بوجود عسكري دائم يهدد الأمن الإقليمي العربي

الخميس، 29 شباط/فبراير 2024

حماية أمن الملاحة البحرية في العالم وفي الممر الملاحي في البحر الأحمر مسؤولية دولية مشتركة، تستوجب من المجتمع الدولي التعاون والتنسيق، واحترام القانون الدولي لضمان أمن ومبدأ حرية الملاحة. ويتحمل مجلس الأمن والدول التي تتمتع بحق النقض "الفيتو" المسؤولية الرئيسية في هذا الصدد.

ويعرف أمن الملاحة في البحر الأحمر وضعًا خاصًا حاليًا؛ فاختلاف المواقف الرسمية والسرديات بشأن وصف الهجمات العسكرية الحوثية في البحر الأحمر ضد سفن بعض الدول يعكس مدى تعقد المشهد السياسي في هذا الممر المائي الاستراتيجي ومدى تضارب المصالح؛ بين من يربط تلك الهجمات الحوثية في البحر الأحمر بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ويدعو إلى علاج أصل المشكل وليس الأعراض الناتجة عنه وبين من ينفي تلك الرابطة ويؤكد على ضرورة احترام مبدأ حرية الملاحة في كل الظروف وبين من يستمر في التزام الصمت. وإضافة إلى ذلك، ثمة مواقف رسمية وآراء فسرت السلوك الحوثي في البحر الأحمر من منظور تنافس القوى الدولية العظمى في البحر الأحمر.

أولًا: إيران وإسرائيل: تحديان لأمن الملاحة البحرية

تاريخيًا، ظلت التحديات الأمنية التي مصدرها إيران وإسرائيل حجر الزاوية في مناقشات الدول العربية تحت مظلة جامعة الدول العربية بشأن صياغة موقف عربي موحد يطرح في المنصات العالمية بشأن النظام القانوني الملائم للملاحة في المضايق البحرية. وبذلت لجنة قانون البحار التابعة لجامعة الدول العربية جهودًا معتبرة منذ خمسينات القرن الماضي في إطار الإعداد لمؤتمر جنيف للبحار سنة 1958م.

وفي سنة 1973م،عقدت تلك اللجنة اجتماعات عدة في ظل ظروف جيوسياسية معقدة في المنطقة؛ إذ كان الوضع الجيوسياسي لمضيق هرمز يختلف عن الوضع الجيوسياسي لمضيق باب المندب ومضيق "تيران وصنافير" مما صعّب الوصول إلى إجماع عربي على مقاربة موحدة؛ فكانت الدول الخليجية والعراق تدفع إلى تكريس مبدأ "حرية الملاحة في المضايق" في الاتفاقيات الدولية القادمة لتأمين نقل صادراتها من النفط عبر المضايق الدولية عمومًا وفى مضيق هرمز خاصة تحسبًا من السلوك الإيراني لاسيما بعد احتلال إيران للجزر الواقعة في مدخل مضيق هرمز وتحكمه في المرور فيه. وبالمقابل، كانت مصر والدول العربية الإفريقية تركز على الدفع لصالح وضع قانوني للمضايق البحرية يساعد العرب في حربهم ضد إسرائيل، لذلك كانت تلك الدول مع تقييد حرية الملاحة البحرية عبر المضايق من خلال "حق المرور البريء" والذي يقتصر على السفن التجارية فقط مع عدم إغفال الاتفاقية التي تنظم حق المرور البريء في زمن الحرب أو في وقت الطوارئ أو التهديد بنشوب حرب على أن يكون مرور السفن الحربية في المياه الإقليمية بشرط الإذن المسبق وليس مجرد إخطار. ولاحقًا، وافقت الدول العربية على "المرور العابر" أو "الترانزيت" في المضايق أي المرور السريع والمتواصل الذي ورد في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار سنة 1982م، (المادة 38) في ظل ظروف سياسية أخرى في المنطقة بعد اتفاقية كامب دافيد لسنة 1979م.

وفي تسعينيات القرن الماضي، كان وجود إيران في البحر الأحمر مصدر قلق أمني رئيسي للأمن القومي العربي، إذ استخدمت طهران السودان وإرتيريا كنقطة عبور لتهريب أسلحتها بفضل علاقات إيران بالرئيس السوداني السابق عمر البشير.

ثانيًا: جماعة الحوثي تحدي جديد لأمن الملاحة البحرية

في السنوات الأخيرة، برز تحدي جديد غير تقليدي لأمن الملاحة البحرية وأمن إمدادات الطاقة في المضايق والبحار المتاخمة للمنطقة العربية وهو "فاعل مسلح من غير الدول" يسمى "جماعة الحوثي" أو "ميليشيات الحوثي" وبذلت الدول العربية جهودًا للتصدي للاعتداءات الحوثية والإيرانية على المنشآت النفطية والسفن التجارية لعدد من الدول العربية دون دعم دولي ملموس؛ وفي 30/5/2019م،عقدت قمة عربية غير عادية بمكة المكرمة بسبب تلك التطورات الخطيرة  وغير المسبوقة في المنطقة، وتضمن البيان الصادر عنها إدانة "ميليشيات الحوثي الإرهابية" بسبب "أعمال تخريبية طالت السفن التجارية في المياه الإقليمية لدولة الإمارات ". وفي البند التاسع من البيان ورد:"...الوقوف بكل حزم وقوة ضد أي محاولات إيرانية لتهديد أمن الطاقة وحرية وسلامة المنشآت البحرية في الخليج العربي والممرات المائية الأخرى سواء قامت به إيران أو عبر أذرعها في المنطقة...".

ومنذ ذلك الحين، أصبح "أمن الملاحة" في البحر الأحمر وخليج عدن والخليج العربي بندًا دائمًا في أجندة الاجتماعات الدورية لوزراء الخارجية العرب مرتين في السنة على الأقل إدراكًا لأهمية التحدي الذي يمثله انتهاك مبدأ حرية الملاحة للأمن القومي العربي. وفي سبتمبر 2019م، صدر أول قرار من جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية رقم 8412 بتاريخ 10/9/2024م، يطالب بضمان أمن وسلامة الملاحة في الخليج العربي وخليج عمان وفي البحر الأحمر، ويؤكد على مبدأ حرية الملاحة البحرية في المياه الدولية وفقًا للقواعد المستقرة في القانون الدولي واتفاقيات قانون البحار. ودعا القرار العربي مجلس الأمن الدولي إلى تحمل مسؤولياته لضمان حرية الملاحة وأمنها وسلامتها وضمان أمن إمدادات الطاقة واستقرارها واتخاذ موقف حازم للتصدي للأنشطة أو المحاولات الرامية إلى تهديد حرية الملاحة. وفي 18/11/2019م، اختطفت جماعة الحوثي ثلاثة سفن، لكن لم يتحرك المجتمع الدولي وكان يحسب أن المشكلة تخص عددًا محددًا من الدول العربية فقط. 

ودفعت تلك المخاطر المتزايدة بعض الدول العربية إلى البحث عن مزيد من الخيارات لضمان إمدادات الطاقة وسلامة كابلات الأنترنت العابرة للحدود، وقد يكون ذلك أحد أسباب التفاعل الإيجابي للسعودية والإمارات مع مشروع الممر الاقتصادي من الهند إلى أوروبا عبر الشرق الأوسط؛ فالجزء البري من المشروع، أي من الإمارات إلى إسرائيل مرورًا بالسعودية والأردن يتجنب مخاطر إيران في مضيق هرمز ومخاطر جماعة الحوثي في مضيق باب المندب.

ورغم الجهود الدبلوماسية العربية، لم يتجاوب العالم بالجدية اللازمة مع دعوات العالم العربي للتصدي للخطر الحوثي في البحر الأحمر وخليج عدن وبحر عمان وحتى في الخليج العربي، لذلك لم يكن لتلك الجهود أثر ملموس واستمر تهريب السلاح من إيران إلى جماعة الحوثي انتهاكًا لقرارات مجلس الأمن، لكن عندما تعرضت السفن الإسرائيلية إلى هجمات جماعة الحوثي في البحر الأحمر تحركت الولايات المتحدة الأمريكية وتوابعها من الدول لإيقاف تلك الهجمات الحوثية وتحركت السفن الحربية لعدة دول إلى البحر الأحمر.

أدت ازدواجية المعايير وعدم الالتزام بالتعهدات التقليدية للولايات المتحدة تجاه دول الخليج إلى زعزعة ثقة العديد من الدول العربية بأمريكا لاختلاف جديتها في التعامل مع نفس الخطر الحوثي والإيراني فضلًا عما اعتبره بعض المسؤولين العرب السقوط الأخلاقي غير المسبوق لبعض الدول الغربية وفي مقدمتهم أمريكا لرفض وقف جرائم الإبادة الجماعية الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني؛ ولكن كما يقال "رب ضارة نافعة"، إذ أدى تراكم حالات "ازدواجية مواقف واشنطن وتوابعها" ببعض الدول العربية إلى فتح مسارات جديدة في السياسة الخارجية شرقًا وجنوبًا بشكل أساسي وتبني سياسات أمنية واقتصادية متعددة الأبعاد مع عدد معتبر من القوى الدولية مما عزز سيادتها وحرية تحركاتها وزاد من هامش ممارسة السياسة الدولية.

وفي ضوء التطورات، لم يصدر موقف عربي موحد بشأن إدانة أو تأييد أو الدعوة لوقف تلك الهجمات الحوثية على السفن في البحر الأحمر نظرًا لعلاقته بملفات أخرى فضلًا عن طبيعة الفاعل "جماعة الحوثي"، إضافة إلى بروز عناصر عدم توافق كامل بين المواقف الرسمية العلنية لبعض الدول العربية بشأن وصف ما قامت به حماس في 7 أكتوبر 2023م، وبشأن وصف الهجمات الحوثية في البحر الأحمر؛ فمن جانب، لو يركز الموقف العربي على أمن الملاحة في البحر الأحمر فقط دون ربطه بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، سيظهر أن العالم العربي يسعى إلى توفير الأمن للسفن الإسرائيلية في ظل جرائم الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة وسيظهر أن العالم العربي يدعم الموقف الأمريكي والغربي...، ومن جانب آخر، لو يربط الموقف العربي الموحد الهجمات الحوثية بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فقد يقرأ ذلك كدعم سياسي عربي لجماعة الحوثي المصنفة إرهابية من بعض الدول وقرارات الجامعة العربية بشأن الموقف العربي من جماعة الحوثي فضلًا عن المواقف السياسية الفردية الخاصة لعدد من الدول العربية تجاه جماعة الحوثي. لذلك لم يصدر موقف سياسي عربي موحد بشأن الهجمات الحوثية في البحر الأحمر.

وكذلك الشأن بالنسبة للقصف الأمريكي البريطاني ضد الحوثيين الذي بدأ في 12 يناير الماضي؛ إذ لم يصدر موقف عربي موحد حوله بسبب اختلاف مواقف الدول العربية بين دول التزمت الصمت وأخرى استنكرت صراحة العمليات العسكرية الأمريكية ودعت إلى معالجة أصل المشكل، ودول عربية حاولت تبني موقف محايد وأعربت عن القلق من التطورات ودعت إلى خفض التصعيد في البحر الأحمر.

ثالثًا: عدم شرعية هجمات الحوثي في البحر الأحمر من منظور أممي

أمن وحرية الملاحة البحرية قضية حيوية للعالم، فالبحار والمحيطات شريان التجارة العالمية. ويعد قانون البحار لسنة 1982م، من أهم الاتفاقيات الدولية على الإطلاق. وفي المنطقة البحرية المتاخمة للعرب، أطلقت منظمة الأمم المتحدة برنامجًا كبيرًا للتصدي للقرصنة الصومالية سنة 2009م. وفي 9/8/2021م، سلطت الأمم المتحدة الضوء على أهمية تعاون دولي أقوى أمام اجتماع في مجلس الأمن حول أمن الملاحة البحرية. وأشارت الأمم المتحدة إلى أن المستويات "غير المسبوقة" من "انعدام أمن الملاحة البحرية" في خليج غينيا، وفي الخليج العربي وبحر العرب، كانت مقلقة بشكل خاص لأنه يضاعف من العمل الإرهابي. وأوضحت أن تلك التهديدات المتزايدة والمترابطة تتطلب استجابة عالمية ومتكاملة. وفي إطار البرنامج العالمي لمكافحة الجريمة البحرية، عمل البرنامج الفرعي "خليج عدن" لدعم قدرات سلطات إنفاذ القانون البحري وإعادة بناء خفر السواحل في اليمن.

وحاليًا، تطرح الهجمات الحوثية في البحر الأحمر على مستوى مجلس الأمن الدولي في سياق سياسي إقليمي مختلف تمامًا. وحسب التصريحات العلنية لجماعة الحوثي، فالهجمات تتعلق بمطالب سياسية بشأن الضغط لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة وأنه ليست هناك حاجة لعسكرة البحر الأحمر بل وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة فقط. ومع ذلك تختلف السردية الأممية بشأن تلك الهجمات عن السردية الحوثية وتقترب من الموقف الأمريكي منها؛ فرغم الإشارات المحتشمة وغير المباشرة إلى السبب الرئيسي لهجمات الحوثي في البحر الأحمر، تؤكد التصريحات العلنية لمسؤولين أمميين بأنه "لا توجد أهداف أو مظالم يمكن أن تبرر استمرار تلك الهجمات على حرية الملاحة". ودعت المنظمة البحرية الدولية إلى وقف الهجمات الحوثية وضمان سلامة البحارة وسلاسل الإمداد.

وفي 10/1/2024م، صدر قرار مجلس الأمن 2722 يدين بشدة العمليات الحوثية في البحر الأحمر ويشدد على حرية الملاحة ويؤكد على "حق الدول في حماية سفنها من الاعتداءات وفقًا للقانون الدولي" في الفقرة التنفيذية الثالثة من القرار، لكن تلك الفقرة أثارت اختلافًا إن كان حق حماية السفن يقتصر على الطابع الدفاعي عنها فقط في البحر الأحمر أم أنه يمكن أن يمتد إلى الهجوم على مصادر الخطر في البر. وتضمن القرار، طلبًا من الأمين العام للأمم المتحدة "تقديم تقارير شهرية خطية حتى يوليو 2024م، عن أي هجمات أخرى يشنها الحوثيون على السفن التجارية في البحر الأحمر". 

ويمثل قرار مجلس الأمن لاسيما الفقرة التي تشير إلى "الإشادة بالجهود المبذولة حتى الآن لحماية السفن المعرضة لإطلاق النار في البحر الأحمر" نوعًا من إضفاء الشرعية الدولية على أعمال تحالف "حارس الازدهار" بقيادة أمريكا في البحر الأحمر. وتحتمل عبارة "التأكيد على الحاجة إلى "معالجة الأسباب الجذرية" للهجوم التي تساهم في التوترات الإقليمية، لضمان "استجابة سريعة وفعالة" أكثر من تفسير، وعادة ما تلجأ بعض الدول إلى آلية "غموض النص"؛ فقد تفهم بعض دول المنطقة أن "الأسباب الجذرية" لهجوم الحوثي على السفن في البحر الأحمر هو العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وقد تفهم باقي الدول أن الأسباب الجذرية لهجوم الحوثي على السفن هو الدعم العسكري الإيراني لجماعة الحوثي وانقلاب الحوثيين عن الشرعية في اليمن ودور إيران التخريبي في المنطقة...خصوصًا أن الفقرة التالية تدين صراحة "تقديم أي أسلحة للحوثيين و"يحث (المجلس) على الحذر وضبط النفس لتجنب المزيد من تصعيد الوضع في البحر الأحمر والمنطقة على نطاق أوسع".

ويعكس محتوى قرار مجلس الأمن تحول السردية الأمريكية / الإسرائيلية بشأن الوضع في البحر الأحمر إلى نص قانوني ملزم يصدر عن مجلس الأمن الدولي. ويؤكد القرار بشكل غير مباشر على حق السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى إسرائيل المرور الآمن في البحر الأحمر.

ويعني امتناع روسيا والصين عن التصويت على قرار يدين بشدة العمليات الحوثية في البحر الأحمر في مجلس الأمن الموافقة الضمنية على تمرير القرار مادام أنه كان يمكن أن يمارسا حقهما في النقض وعدم تمرير القرار، مما يعكس موقف روسيا والصين من زاوية إعلاء المصلحة القومية للبلدين ومصلحة عدد من الدول الصديقة على حساب الأبعاد والقيم الأخرى رغم التصريحات السياسية الروسية-الصينية بشأن عدم شرعية الضربات العسكرية الأمريكية / البريطانية الهادفة إلى تقليل انزعاج إيران وجماعة الحوثي والمتعاطفين مع السلوك الحوثي في البحر الأحمر.

رابعًا: التحديات الجيوسياسية للهجمات الحوثية على الأمن القومي العربي

تبرز تدريجيًا العديد من التحديات للأمن القومي العربي بسبب الهجمات الحوثية في البحر الأحمر؛ فتقليديًا، يعد البحر الأحمر بحيرة عربية، وحاليًا، وبسبب تلك الهجمات، برزت مظاهر جديدة بشأن تدويل البحر الأحمر مما سيؤدي إلى تقليص سيادة الدول المطلة عليه عمليًا، إذ ازدادت مؤشرات عسكرة البحر الأحمر، وبدأ يتحول تدريجيًا إلى ثكنة عسكرية بحرية دائمة لقوى عالمية للسيطرة على هذا الممر التجاري البحري الاستراتيجي. وضخمت بعض الدول الغربية والدول ذات التفكير المشترك معها من الهجمات الحوثية وتداعياتها وأبعادها لحشد مزيد من الدعم السياسي لعملياتها في البحر الأحمر، وأطلقت عمليات بحرية خاصة وأرسلت سفنًا حربية كثيرة إلى البحر الأحمر بمبرر توفير الحماية لسفنها التجارية.

ويمثل تزايد حدة تنافس القوى الكبرى في البحر الأحمر في ظل الهجمات الحوثية تحديًا آخر للأمن القومي العربي؛ فرغم التصريحات العلنية والمتكررة من جماعة الحوثي بشأن أسباب عملياتها في البحر الأحمر وأن المستهدف هي السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى إسرائيل فقط، يطرح مسؤولو الدول الغربية مبررات أخرى لتفسير السلوك الحوثي في البحر الأحمر، إذ صرح وزير الدفاع الإيطالي أن جماعة الحوثي انتقائية في عملياتها ولا تستهدف السفن الصينية والروسية. وقد يهدف المسؤول الإيطالي تبرير إطلاق الاتحاد الأوروبي القوة البحرية "أسبيدس" في البحر الأحمر بقيادة إيطاليا لحماية السفن والتي انطلقت بتاريخ 19/2/2024م. وقبل ذلك أطلق تحالف "حارس الازدهار" في البحر الأحمر بقيادة أمريكيا لنفس الغرض. ونشرت الهند قوة بحرية غير مسبوقة في البحر الأحمر لا تقل عن 12 سفينة حربية بسبب الهجمات الحوثية، فضلًا عن إرسال إيران والصين ودول أخرى سفنًا حربية إلى البحر الأحمر. وفي 17 أبريل 2022م، أنشئت "قوة المهام المشتركة 153" كفرقة رابعة ضمن فرق "القوات البحرية المشتركة" بقيادة أمريكا للتصدي للأعمال غير المشروعة في البحر الأحمر وباب المندب.

كما يركز عدد من الخبراء الغربيين على تحليل أسلحة جماعة الحوثي المستعملة في البحر الأحمر، وبرزت تساؤلات حول كيفية وصول الصواريخ الباليستية الصينية المضادة للسفن إلى جماعة الحوثي للتشكيك حول احتمال وقوف الصين وراء تلك الهجمات بالنظر إلى أن لدى بكين وطهران وموسكو اهتمام كبير بالاستراتيجيات الهادفة إلى درء القوات البحرية الغربية. وبرزت دعوات رسمية غربية متكررة للصين لممارسة الضغط على إيران ومن خلالها على جماعة الحوثي لوقف قصف السفن في البحر الأحمر، لكن الصين لم تستجب لتلك الطلبات.

وبالمقابل، تؤكد الصين على عدم شرعية الضربات العسكرية الأمريكية / البريطانية ضد الحوثيين وترى أنه تصعيد متعمد في البحر الأحمر من خلال اللجوء إلى الحلول الصعبة ضمن الاستراتيجية الأمريكية لفك الارتباط التجاري لأوروبا بالصين تدريجيًا كما فعلت مع روسيا؛ فإعلان واشنطن علنًا عدم دعم وقف إطلاق النار في غزة حاليًا فضلًا عن إعادة تصنيف جماعة الحوثي كـ"إرهابيين دوليين مصنفين تصنيفًا خاصًا" يعد تصعيدًا وقد يفهم كدعوة غير مباشرة لجماعة الحوثي للاستمرار في سلوكها في البحر الأحمر مما يوفر مبررات لبقاء القوات البحرية الأمريكية وحلفائها في جنوب البحر الأحمر لفترة أطول، ربما إلى حين اتضاح مسار التطورات بين الصين وتايوان، أو لتوفير مزيد من الوقت لإسرائيل لاستئصال حركة حماس رغم جرائم الإبادة الإسرائيلية المرتكبة في حق سكان غزة.

ومن المنظور الصيني كذلك، يعد تحالف "حارس الازدهار" بقيادة أمريكا في البحر الأحمر نموذجًا آخر من التحالفات البحرية الأمريكية إضافة إلى "تحالف أوكوس" مع أستراليا وبريطانيا والحوار الأمني الرباعي "كواد"...يهدف إلى كبح صعود الصين وبالتالي استمرار الحفاظ على الريادة والهيمنة الأمريكية على العالم؛ إذ أدى الوضع الحالي في البحر الأحمر إلى تأثر التجارة من الشرق إلى الغرب أي من آسيا إلى أوروبا عبر البحر الأحمر وقناة السويس وليس العكس، وأن المستفيد الأكبر من الوضع هي التجارة المتجهة من الولايات المتحدة إلى أوروبا عبر الأطلسي والخاسر الأكبر هي الصين. وأدى الوضع الأمني المرتبك في البحر الأحمر إلى تزايد تكلفة الشحن البحري من آسيا إلى أوروبا 3 مرات لأن السفن تضطر إلى اللف عبر رأس الرجاء الصالح وليس مباشرة عبر البحر الأحمر.

وتوفر التطورات الحالية في تايوان بعد انتخابات 13/1/2024م، والتوجه المحتمل نحو إعلان الاستقلال ظروفًا مواتية للاستراتيجية الأمريكية ضد الصين. إذ قد تلجأ واشنطن إلى منطق "الحصار مقابل الحصار"، بمعنى الرد على الحصار الصيني المحتمل لتايوان في حال إعلانها الاستقلال مقابل حصار الولايات المتحدة وحلفائها للسفن المتجهة إلى الصين عن بعد في المضايق البحرية بما في ذلك في مضيق باب المندب ومضيق هرمز ومضيق ملقا من خلال إيقاف السفن المتجهة إلى الصين. وهو ما سيشكل تحديًا غير مسبوق للأمن القومي العربي.

ونظرًا للتحديات التي تعترض الممر الملاحي عبر البحر الأحمر، كان لافتًا التركيز الأمريكي / الأوروبي الكبير -مقارنة بالانتخابات السابقة-على متابعة سير الانتخابات الرئاسية في جزر القمر بتاريخ 14 يناير 2024م، تحسبًا من احتمال تأثر الملاحة البحرية عبر ممر الموزمبيق تجاه رأس الرجاء الصالح في حال اضطربت الأوضاع في جزر القمر. فلجزر القمر موقع جغرافي استراتيجي مهم للغاية في منتصف شمال ممر الموزمبيق بين موزمبيق ومدغشقر حيث تمر السفن التجارية على طول مسار غرب المحيط الهندي بالقرب من اليابسة.

وساهمت الأحداث المستعجلة والمقلقة في قطاع غزة وفي البحر الأحمر في تخفيف الضغط الدولي على إيران بشأن برنامجها النووي الذي يهدد الأمن القومي العربي، إذ أفادت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن إيران تواصل تخصيب اليورانيوم لمستوى يسبق ذلك المطلوب لصنع الأسلحة النووية بقليل وأن "إيران تواصل تخصيب اليورانيوم بما يتجاوز احتياجات الاستخدام النووي التجاري، رغم ضغوط الأمم المتحدة لوقف ذلك بمعدل مرتفع يبلغ نحو حوالي سبعة كيلوغرامات شهريًا بنسبة نقاء 60 %".

وفي ظل انشغال الدول العربية بمحاولة وقف العدوان الإسرائيلي على سكان غزة واستمرار الجهود لإيجاد مخارج لإيقاف الحرب في السودان وانشغال العالم بأمن الملاحة في البحر الأحمر، وقع حدث جيوسياسي آخر في خليج عدن يضر بالأمن القومي العربي ويقوض السلم والأمن الإقليمي والدولي؛ إذ أبرمت إثيوبيا مذكرة تفاهم مع إقليم أرض الصومال بتاريخ 1/1/2024م، بشأن تأجير منفذ بحري استراتيجي بطول 20 كيلومترًا في مياه خليج عدن، وميناء تجاري وقاعدة بحرية لقواتها البحرية. وفي المقابل، تلتزم إثيوبيا بالاعتراف بأرض الصومال كدولة مستقلة، وتعطي لها حصة من الخطوط الجوية الإثيوبية. وتفاعلت الدول العربية في إطار جامعة الدول العربية بإصدار القرار رقم 8988 بتاريخ 17/1/2024م، يدعم جمهورية الصومال الفيدرالية في مواجهة الاعتداء على سيادتها ووحدة أراضيها.

وتبذل الدول العربية فرادا أو في إطار جامعة الدول العربية جهودًا كبيرة لإخراج المنطقة العربية من حلقات العنف المستمرة منذ عقود خصوصًا في فلسطين من خلال اقتراح حلول جذرية بشأن التطبيع مع إسرائيل مقابل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة لكن لا يقابل ذلك بتجاوب إيجابي من إسرائيل حتى الآن. لذلك يجري العمل عربيًا على تحقيق أي نجاح سياسي للقضية الفلسطينية كي لا تذهب دماء 30 ألف فلسطيني مجانًا من خلال الاستمرار في الضغط لإقناع الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن والتي لم تعترف بعد بالدولة الفلسطينية أي الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية رسميًا.

وتؤكد التحديات المتزايدة والمستجدة في البحر الأحمر وخليج عدن وارتباطها المتوقع بأي منعطف سياسي مستقبلي في المنطقة خصوصًا في حال استمرار حكم جماعة الحوثي في صنعاء مدى أهمية تعزيز العمل العربي المشترك في إطار جامعة الدول العربية.

مجلة آراء حول الخليج