array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 196

إيران مدعوة لخطاب إيجابي منسجم مع سلوك يثبت مصداقيته لتجاوز التاريخ السلبي

الأحد، 31 آذار/مارس 2024

أعلنت وزارة الخارجية بالمملكة العربية السعودية في 26 يناير 2024م، الرؤية الخليجية للأمن الإقليمي، التي أقرها المجلس الوزاري الخليجي في دورته رقم (158) بتاريخ 3 ديسمبر 2023م ووفقاً لما كشفت عنه الرياض من ملامح تلك الرؤية، فإنها تستند إلى عدة أسس ومجموعة من الأهداف. فتنطلق من أسس قيمية وأخلاقية، مُمتزجة بدوافع واقعية براجماتية. وهو ما ينعكس في أهدافها ذات النظرة الشمولية للأمن، إذ تعتبره محصلة لحزمة متكاملة تجتمع فيها المقومات المادية والمعنوية معاً. وفي سبيل تحقيق تلك الأهداف، تربط الرؤية الخليجية بين التنمية الشاملة والاستقرار المجتمعي وحل الخلافات بالحوار كمداخل لتحقيق السلام الإقليمي، والتعايش بين الشعوب والدول كنهج ضروري من أجل حاضر مزدهر ومستقبل آمن للجميع.

أولاً: دوافع واقعية وأهداف أخلاقية:

تبحث شعوب العالم منذ بدء التاريخ عن الأمن كغاية جوهرية. فضلاً عن كونه شرطاً ضرورياً لبقاء الإنسان وتمكينه من الإعمار والانتشار في الأرض. وعلى تعدد التهديدات والتحديات التي واجهت البشر وتنوعها، إلا أنها جميعاً تنقسم إلى مجموعتين أساسيتين: أولاهما هي التحديات والتهديدات الطبيعية، الناجمة عن الكوارث الطبيعية والتطورات البيئية التي لا دخل للبشر فيها، على الأقل بشكل مباشر. والمجموعة الثانية هي التهديدات المرتبطة بالسلوك الإنساني والنوازع البشرية. وتضم هذه التهديدات الحروب والمواجهات المسلحة بسبب التنازع على الأرض والحدود والموارد، والتنافس على النفوذ والمكانة. ولخدمة هذه النزعات، بالتبعية، يجري تسخير إمكانات الدول ومقدرات الشعوب واستهلاك مواردها الطبيعية والبشرية، في سباقات التسلح والتكنولوجيا والاختراعات العلمية، وغير ذلك من مظاهر التدافع والتضاغط بين الشعوب والمجتمعات.

في هذا السياق، وكرد فعل طبيعي، بات من الطبيعي بل والضروري أن تحافظ الشعوب على أمنها وتحمي مقدراتها وتسعى إلى تعظيم قدراتها وتحصيل مختلف أشكال ومظاهر القوة، أو بعبارة موجزة "بمراكمة القوة الشاملة للدولة".

وكما أن للأوجه المادية في القوة ضرورتها كمكون جوهري، فإن الطبقات الناعمة في القوة لا تقل أهمية أو ضرورة. وإحدى هذه الطبقات هي القدرة على التواصل والتفاعل مع الأطراف الأخرى في المجتمع الدولي من خلال قنوات ووسائل سلمية وباستخدام أدوات غير خشنة، أهمها على الإطلاق الحوار والتفاوض. أي أن الحوار والتواصل المباشر السلمي تجسيد مباشر لعملية مزدوجة تصب في صالح أمن الشعوب والدول. فهو من ناحية يعكس امتلاك الدولة لذلك الوجه الناعم من القوة الذي يتضمن خبرات بشرية ورصيد تاريخي ودبلوماسية رصينة، بما يتيح عملياً القدرة على إدارة الحوار ومباشرة التفاوض الفعال والناجح. وفي الاتجاه المعاكس، يصب توافر تلك القدرات في تقوية وتعزيز أمن ومصالح الدولة أو الدول التي تتمتع بها. فببساطة، الحرب ليست غاية نهائية واستخدام القوة المسلحة أو غيرها من أوجه القوة الخشنة، ليست هدفاً بذاتها. وتحقيق المصالح والأهداف، ولو جزئياً، بالحوار والتفاوض، هو مكسب محدد التكلفة. إذ تنتفي معه الخسائر والموارد التي تتكبدها الشعوب حال اللجوء إلى القوة الخشنة.

ثانياً: مداخل وأدوات:

* إنتاج المبادرات السلمية:

لدول مجلس التعاون تاريخ من المبادأة بمساعي إرساء الاستقرار الإقليمي بالشرق الأوسط. وذلك منذ تأسيسه قبل أكثر من أربعة عقود. حيث كانت المبادرات السلمية، ولا تزال، جزءًا أصيلاً من السياسة الخارجية الخليجية على المستويين الجماعي والفردي. وقد كان لذلك مردوده الإيجابي على تجاوز دول الخليج العربية تحديات صعبة خلال تلك الحقب الحافلة بالتطورات والاختبارات إقليمياً وعالمياً. ويسجل التاريخ مواقف دول الخليج في هذا الاتجاه، بدءًا من الثورة الإيرانية عام 1979م، مروراً بالحرب العراقية الإيرانية 1980 – 1989م. ثم أزمة الغزو العراقي للكويت 1990 – 1991م، وكان لدول الخليج مبادرات إيجابية فعالة بعد وقوع هجمات 11 سبتمبر 2001م، وفي 2002 أطلقت المملكة العربية السعودية مبادرة غير مسبوقة خليجياً، تفتح باب السلام العادل والشامل مع إسرائيل، لتتبناها الدول العربية رسمياً وتصبح "المبادرة العربية للسلام".

وخلال الألفية الثالثة، اتسع نطاق مبادرات دول الخليج ليضم إلى جانب المشكلات السياسية والصراعات، قضايا عالمية ومجتمعية. وذلك في استجابة لتقاطع الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي مع القضايا "المعولمة"، كتلوث البيئة وتغير المناخ والتصحر. قبل أن يبدأ العقد الثالث من الألفية بكارثة وبائية هي جائحة كوفيد-19، والتي تعاطت دول الخليج معها بحزمة من التحركات والمبادرات الفعالة على مستوى البحوث العلمية وتوفير المستلزمات العلاجية والوقائية. وقد أثبتت تلك الجائحة أهمية وصواب المنظور الشامل الذي يربط الأمن والاستقرار والتنمية، بمواجهة التحديات النوعية، يعد أن تحولت إلى تهديدات غير تقليدية لأمن وأمان الشعوب دون استثناء، ودون تحديد جغرافي أو تصنيف سياسي أو أي معيار للتمييز.

في كل ذلك دليل عملي على ما توفره المبادرات والتحركات الإيجابية من تعزيز لمقومات الأمن، كما لو كانت خطوات استباقية لتحصين الدول من الوقوع في شرك الأزمات والانزلاق إلى النزاعات والصراعات القريبة منها، سواء كطرف مباشر فيها أو بشكل غير مباشر.

ومن ثم، فمن الضروري طرح واستحداث مبادرات متنوعة إنسانياً في مختلف المجالات، لتستهدف في النهاية تعزيز الحوار والتواصل السلمي والتفاعل التعاوني بين الشعوب في البيئتين الإقليمية والعالمية. ومما يزيد فرص نجاح دول الخليج العربية في هذا التوجه، مبادرتها في الأعوام الأخيرة إلى تنويع دائرة شراكاتها وفتح مسارات جديدة للتعاون مع مختلف دول العالم.

* تنويع الشراكات:

حصد العالم العربي ككل، ودول الخليج العربية بصفة خاصة، نتائج غير إيجابية لحصر التحالفات والشراكات الدولية في عدد محدود من الدول ذات التوجهات المتشابهة، أو على أساس اتساق السياسات والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والتناغم الثقافي والحضاري.

هذا فضلاً عن الانغلاق في توجيه بوصلة الحركة السياسية وحوار التعاون والتحالف، على الدول التي كان يُعتقد أنها تقود العالم وتهيمن على تدفقاته وتفاعلاته السياسية والاقتصادية، وبالتالي مقومات الأمن فيه.

وقد أثبتت تلك التجارب، خصوصاً في الأعوام القليلة الماضية، أن تحقيق الأمن المستقر واستيفاء شروط التنمية المستدامة، يتطلب بالضرورة عدم الانحياز أو الانضمام إلى تحالفات مغلقة. بعد أن ثبت مراراً خلال محطات تاريخية مهمة، فشل الرهانات الأحادية والتعويل المطلق على طرف واحد أو أطراف وتكتلات ذات توجهات وسياسات واحدة.

ولم تكن دول الخليج العربية وحدها التي انتبهت إلى ضرورة تصحيح هذا الميزان المختل، ففضلاً عن غيرها من الدول العربية، باتت دول كثيرة في العالم تدرك أهمية التوازن في علاقاتها الخارجية وتنويع شبكات التعاون ودوائر التنسيق إقليمياً وعالمياً.

وبعد أن كانت "العولمة" هي الباب الواسع لدمج معظم شعوب العالم في بوتقة واحدة ثقافية واقتصادية وإلى حد ما سياسية، كشفت التطورات العالمية وخصوصاً الأزمات والكوارث الطبيعية، أن "العولمة" لم تُفض إلى اندماج كافة الشعوب والدول معاً بشكل متكافئ ومتوازن بين الثقافات والخصائص والأهداف والمصالح والاعتبارات الخاصة بكل منها، وجمعها معاً. وإنما كان هدفها تفريغ تلك الخصوصيات من مضمونها، ودفع الشعوب والدول إلى الانغماس ثم الذوبان في نموذج حضاري واحد، يفرض على الجميع منظومته بمقتضياتها، قيماً ومبادئ وآليات.

ولذا اتجهت كثير من دول العالم ومن بينها دول الخليج العربية، إلى تعديل معايير الشراكة وتوسيع محددات بوصلة التوجهات الخارجية. باعتماد القيم المشتركة ذات البعد العالمي سواء الدينية أو الأخلاقية. ووضع مصلحة المجتمعات ورفاهتها غاية نهائية ومستدامة في الوقت ذاته.

وفي هذا السياق، جاء انفتاح دول الخليج على دوائر اهتمام كانت مستبعدة أو ذات أولوية متأخرة على قائمة علاقاتها الخارجية. وشملت هذه الدوائر الجديدة دولاً ذات ثقل في المنظومة العالمية، مثل الصين وروسيا. وكذلك تجمعات مختلفة عن تلك التقليدية، مثل "بريكس".

وعلى التوازي، قامت دول الخليج بتحديث مسارات التعاون والتواصل مع دوائر الاهتمام التقليدية، فمثلاً، جرى توسيع نطاق التشاور مع الاتحاد الأوروبي ليتجاوز القضايا السياسية والاقتصادية، وليعطي اهتماماً أكبر لمجالات أخرى مؤثرة ومشتركة. ومن أحدث الأمثلة على ذلك، انعقاد حوار الأمن الإقليمي بين مجلس التعاون والاتحاد الاوروبي، في يناير الماضي، والاتفاق على عقد منتدى رفيع المستوى حول الأمن والتعاون الإقليمي، في لوكسمبورج، في 22 أبريل الجاري.

* تعظيم المشتركات:

أحد أهم المداخل لتعزيز الأمن من خلال الحوار والتفاهم، التركيز في قنوات التواصل وصيغ التعاون السلمي، على المساحات المشتركة. ومن شأن الحوار المفتوح ووضع الهواجس والمصالح على مائدة التباحث، أنه يكشف وجود مساحات ونقاط كثيرة مشتركة تجمع أطراف الحوار، سواء على المستوى الجماعي أو الفردي/ القُطري. الأمر الذي يتيح بدوره رفع مستوى التنسيق والتفاهم لينعكس على مضمون العلاقات بين أطراف الحوار ومجالاتها. على أن يكون مفهوم "المشتركات" من الاتساع والشمول، بحيث يتضمن المصالح والهواجس معاً، ويراعي ما يبحث عنه الطرفان من مكاسب ومنافع، كما يأخذ في الاعتبار التهديدات والتحديات التي يخشاها كل طرف.

ولما كانت مقومات الأمن ومثلها المصالح الحيوية، ذات خصوصية وتتسم بالحساسية بالنسبة لكل دولة، أو لكل مجموعة متشابهة من الدول مثل دول الخليج العربية، فإن استكشاف المساحات المشتركة في مسارات الحوار والتواصل مع الدول الأخرى، من شأنه تفكيك المسائل الأمنية واستعراض جوانبها. بما يفضي بدوره إلى تشكيل رؤى مشتركة بين كل الأطراف، أو على الأقل تكون الهواجس الأمنية ومصادر القلق، قابلة للتفهم المتبادل.

من ناحية أخرى، كثيراً ما يكون هناك ارتباط بدرجة ما أو تماس بين مساحات المخاوف ومناطق الثقة في القضايا الأمنية والتفاعلات الاستراتيجية بين الدول. وعادة ما تشهد تلك المساحات والمناطق انحساراً وامتداداً متزامناً، فيما يشبه حركة السوائل في الأواني المستطرقة. بمعنى أن زيادة مساحات المخاوف ينتقص غالباً من مناطق الاطمئنان إلى مقومات الأمن والثقة. وكلما اتسع نطاق تلك المقومات وجرت تقوية مقتضيات الأمن والاستقرار، تقلصت مساحات التهديد وانحسرت المخاوف الأمنية. ولا تسري تلك المتقابلة على مستوى الدولة ذاتها وحسب، بل أيضاً على العلاقات بين الدول وبعضها البعض، خصوصاً حين تكون قنوات التواصل والحوار مفتوحة بين دولتي أو أكثر ليست العلاقات بينهما تحالفية، أو ربما تشوبها تجارب سابقة غير إيجابية. فهنا يكون توجيه الاهتمام إلى المشتركات ومساحات التقاطع، مدخلاً فعالاً من مداخل تصفية الأجواء وربما حل المشكلات العالقة، أو الاتفاق على تحييدها. ما يصب في النهاية باتجاه تدعيم الأمن وتعزيز مقومات الاستقرار، على الأقل في المدى المتوسط.

* مأسسة الحوار والتواصل:

كان تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية، مدخلاً تنظيمياً لمواجهة تحديات واستحقاقات فرضت على دوله الأعضاء الاجتماع والتكامل والانتظام في صيغة مؤسسية جامعة. بهدف تجميع المصالح والتنسيق في مواجهة التحديات. وطوال العقود الأربعة الماضية، قدم المجلس نموذجاً مثالياً للعمل الجماعي المشترك، ولالتزام المؤسسية كإطار لذلك العمل. وثمة نماذج عدة جسدت ذلك التوجه، خصوصاً خلال العقود الماضية.

وبما أن دول المجلس باتت تسعى إلى تنويع شراكاتها وتوسيع نطاقات التعاون مع مختلف دول العالم، فمن المهم تعزيز المؤسسية في تلك الشراكات. وذلك في اتجاهي الطرفين. بالحرص على الجماعية الخليجية في التحرك، وكذلك تأطير التعاون والشراكة مع الأطراف الأخرى في صيغة منتظمة وثابتة.

ومن ثم، هناك حاجة إلى تطوير الاقتراب الحواري لتعزيز الأمن والاستقرار في الخليج والمنطقة ككل. وذلك بتعميمه على نطاق أوسع من الشراكات مع مختلف دول العالم. ومن شأن هذا التوجه أن يساعد في إنجاح التوجه الخليجي الشامل نحو التوازن والتنويع في علاقاتها الخارجية. خاصة أن كثيراً من الاتفاقات والبروتوكولات وغيرها من الصيغ التعاونية في السابق، كانت تكاد تنحصر في مجموعة محددة من الدول والمجموعات الدولية، وهي تحديداً الدول الغربية، وبصفة خاصة القوى الكبرى منها. وتقدم اتفاقات التجارة الحرة بين دول المجلس وبعض تلك الدول، خصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، مثالاً واضحاً على ذلك. حيث دخلت دول المجلس، كل على حدة، في مسارات تفاوض لإقامة منطقة تجارية حرة لكل منها منفردة مع واشنطن.

ومن دواعي التفاؤل في هذا الصدد، أن دول الخليج العربية تملك بالفعل الهياكل التنظيمية الجماعية التي تكفل تحقيق "المأسسة" الضرورية لمسارات تعاونها مع الأطراف الأخرى. فلدى مجلس التعاون الخليجي مجموعة من المؤسسات والمنظمات الفرعية التي يمكنها بسهولة توفير إطاراً مؤسسياً لكل مسار وفي كل مجالات وقضايا العلاقات الخليجية مع مختلف دول العالم. فضلاً بالطبع عن المستوى البيني (الخليجي-الخليجي) ذاته.

ولما كانت دول الخليج جزءاً من إطار إقليمي أوسع هو المنطقة العربية، فإن جامعة الدول العربية تمثل بدورها إطاراً تنظيمياً يفترض أنه المظلة العربية الجامعة لتفاعلات وعلاقات الدول العربية ككل بما فيها دول الخليج. ويمكن أن تكون الجامعة ظهيراً مؤسسياً لمجلس التعاون الخليجي، في مسارات ومستويات العلاقات الخليجية مع الدول والتجمعات والتكتلات خارج المنطقة العربية. الأمر الذي يمنح زخماً مؤسسياً إضافياً إلى التوجه التعاوني والسلمي الخليجي، سواء نحو القوى الإقليمية غير العربية أو نحو القوى العالمية خارج الشرق الأوسط.

ثالثاً: متطلبات للمستقبل:

  • تعبئة القوة الشاملة:

من منظور تقليدي، قد لا يبدو متوقعاً بل ربما ولا مستساغاً، أن يتطلب إرساء أسلوب الحوار والتفاهم السلمي، تعبئة مختلف أشكال القوة الشاملة. لكن هذا هو الواقع الذي تؤكده الأحداث وأثبتته التطورات على مر التاريخ. إذ لا يمكن الحفاظ على السلام من دون قوة تحميه. ولا بد أن يكون اتباع نهج الحوار والتفاهم والتفاوض، مدعوماً بظهير من القوة الشاملة، حتى يكتسب مصداقية فعلية وظاهرية.

  • التنسيق والتكامل:

لا يمكن تطبيق نهج الحوار والتفاهم والتعايش السلمي، من طرف واحد. فجوهر الحوار والتفاهم أنه يجري بين طرفين أو أكثر. كما أنه لا يعني بالضرورة أن يكون الطرف المنخرط في عملية التفاوض جزءاً من المشكلة أو طرفاً أصيلاً فيها. ومن هنا جاءت أشكال التدخل السلمي في الخلافات، بدءاً من المساعي الحميدة والوساطة، وصولاً إلى التحكيم الذي يعد بدوره أحد الأشكال السلمية لحل الخلافات، لكن من مدخل قانوني. وفي كل من هذه الأشكال، يكون للأطراف غير المباشرة دور مهم في نجاح التفاوض والحوار.

وفي حالة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، قد لا ينطبق مفهوم "الأطراف الثلاثة" بدقة، حيث ترتبط دول المجلس معاً بروابط ووشائج عضوية، تاريخ مشترك وقيم متطابقة وتقاليد ثقافية واجتماعية واحدة ونسق سياسي واقتصادي متناغم.

ومن ثم فإن التنسيق والتواصل فيما بينها، له أهمية قصوى في تقوية مواقف كل منها في مواجهة أي أطراف أخرى بالإقليم أو خارجه.

فرغم التمايز والاختلاف الطبيعي وخصوصية كل دولة في المصالح والأهداف والتحديات والمخاوف، إلا أن القواسم المشتركة حاضرة بقوة في كل ذلك. بما يجعل التنسيق الخليجي/ الخليجي ليس فقط مفيداً على المستوى الجماعي، بل هو ضروري لكل دولة على حدة. فضلاً عما يعنيه التآزر والاستقواء المتبادل من تعزيز وتدعيم للموقف التفاوضي ولتموضع كل دولة في مسار الحوار والتفاهم مع أي أطراف أخرى.

  • قنوات جديدة للحوار:

طوال العقود الثمانية الماضية، شهد العالم بعد انتهاء الحرب العالمية تأسيس منظمات وكيانات وأحلاف متعددة. منها منظمات عالمية النطاق والتخصص مثل منظمة الأمم المتحدة، وبعضها إقليمية مثل جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي (منظمة الوحدة الإفريقية سابقاً). وبعضها الآخر منظمات نوعية متخصصة مثل اليونسكو، وحلفي الأطلنطي ووارسو (قبل تفكيكه). فضلاً عن تجمعات دولية ليست تنظيمية وإنما لأغراض تشاورية محددة، اقتصادية غالباً. ومنها مجموعة السبعين ومجموعة العشرين ومجموعة الثمانية.

وبعد أن واجهت معظم تلك التنظيمات والتجمعات تحديات كثيرة ومختلفة خلال تلك العقود الثمانية. بدأت بعض دول العالم تشكيل كيانات دولية جديدة، من أحدثها وأكثرها دلالة، تجمع "بريكس" الذي ربما يمثل نواة تنظيمية لتجديد وتحديث أسس وآليات وربما طبيعة النظام العالمي.

ولما كانت مراجعة القواعد الحاكمة للنظام العالمي وآليات إدارة العلاقات داخله، تفتح احتمالات تغيير جذري فيه، ففي ذلك مدعاة لأن تراجع بعض الدول مسارات وأشكال تواصلها مع العالم، بما فيه محيطها القريب.

ومن ثم، يمكن لدول الخليج العربية استحداث آليات جديدة للحوار والتباحث مع الدول الأخرى، سواء الإقليمية بالمنطقة، أو الخارجية. ولا يتعارض هذا مع فكرة المأسسة والعمل الجماعي تحت مظلة الكيانات والمؤسسات القائمة.

المعنى، أن المراجعات الجارية على مستويات كثيرة بفعل المستجدات المتلاحقة على المنطقة والعالم، تجعل من شق قنوات جديدة للحوار والتواصل المباشر أمراً مطلوباً، بل وضروري كجزء من تنشيط وتفعيل نهج الحوار المباشر على أسس من صدق النوايا وحسن الجوار والحرص على التعايش السلمي.

ويمكن للمنظمات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، فضلاً عن منصات التواصل الاجتماعي، أن تلعب دوراً مهماً وفعالاً في هذا السياق. وذلك على مستوى دول الخليج، وكذلك بالنسبة للدول الأخرى بالمنطقة. حيث يمكن لتلك المؤسسات غير الرسمية تدشين أشكالاً متنوعة ونشطة من القنوات للتواصل بين الشعوب. حيث يشكل التفاعل والاحتكاك الإيجابي المباشر على المستوى الشعبي، جسوراً تقلص المسافات وترفع مستويات حوار وتوسع آفاق الفهم المتبادل ليس فقط على المستوى الشعبي، لكن أيضاً في المستويات الرسمية.

هذا على مستوى المؤسسات والكيانات، بينما على مستوى المجالات والقطاعات، ثمة أنشطة وفعاليات يمكن استحداثها وعميقة التأثير الإيجابي في اتجاه التعايش وبناء الثقة على كافة المستويات. ومنها الرياضة والفن وتواصل الأجيال الشبابية. فضلاً عن المنتديات والفعاليات الفكرية والأدبية. إن تنشيط التفاعل المتبادل في تلك المجالات واستحداث منافذ وقنوات جديدة فيها، كفيل بتجسير الفجوات وإقامة روابط شعبية ومجتمعية، أشد أثراً وإيجابية في ترسيخ ثقافة قبول الآخر وتعميق التفاهم الإنساني. ومن ثم تكريس المقومات الناعمة للأمن، ليس فقط على المستوى الإقليمي أو حتى الخليجي فقط، بل أيضاً داخل المجتمعات نفسها، الخليجية والعربية والإقليمية.

 

  • واجب الأطراف الأخرى:

العلاقات الدولية بطبيعتها، سواء كانت في مسار ثنائي أو متعدد، تعتمد على مواقف وسياسات ورؤى أطرافها جميعاً، وليس طرفاً واحداً. وبالتالي فإن تبني نهج الحوار واتباع أسلوب التفاهم والتواصل السلمي، لا يمكن أن ينجح ويؤتي ثماره ما لم يكن متبادلاً. بل وأن يكون محملاً بنفس الروح الإيجابية والصدق في مساعي تحقيق أهدافه من الجانبين.

ومن ثم، فإن تضمين دول الخليج العربية للتفاهم والحوار كأحد المحاور الأساسية في رؤيتها لتحقيق الأمن الخليجي، تعد بادرة إيجابية ينبغي تثمينها. على أن التعاطي المطلوب معها يكون بتجسيدها عملياً من الأطراف الأخرى.

ويجب التذكير هنا بأن ثمة إشارات إيجابية متكررة من دول تبدي رغبتها في إقامة علاقات جيدة مع دول مجلس التعاون الخليجي. والتوصل إلى منظومة أمنية مشتركة للحفاظ على الأمن والاستقرار في الخليج. وكذلك ما يتصل بتعاون إقليمي واسع النطاق على مستوى الشرق الأوسط ككل.

واقع الحال إلى دول في الشرق الأوسط تعلن دائماً رغبتها في التعاون والحوار والتواؤم الإقليمي، وتصدر هذه الإشارات بصورة متواترة عن إيران وإسرائيل بصفة خاصة. حيث تتبنى كل منهما هذا الخطاب تجاه بقية دول المنطقة، وخصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي.

وثمة مفارقة هنا جديرة بالتسجيل، وهي أن ذلك الخطاب الثابت لتل أبيب وطهران، يستهدف كل دول الشرق الأوسط، باستثناء الدولتين ذاتيهما. وإن كان من دلالة لذلك، فهي طبيعة التفكير البراجماتي الذي يغلب على العقل الإيراني ونظيره الإسرائيلي. بما يحول دون الجمع في المسار الثنائي للعلاقات، بين خطاب إيجابي وسلوك سلبي. بينما الوضع مختلف تجاه بقية دول المنطقة. إذ تتمسك إيران بخطاب إيجابي يتضمن الحرص على علاقات ثنائية جيدة وحسن الجوار والمصير المشترك والأمن الجماعي لمنطقة الخليج. بينما يفتقد هذا الخطاب شواهد عملية تؤكده بالسلوك والتحركات، أو حتى بتدشين مسارات للحوار والتفاهم، سواء حول الأزمات والتطورات الإقليمية، أو بشأن الدور الإيراني المتنامي في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية. بالتالي، إيران مدعوة إلى إرفاق الخطاب الإيجابي بسلوك منسجم معه ويثبت مصداقيته. خاصة في ظل وجود مشكلات وتاريخ سلبي لإيران مع دول الخليج العربية.

من ناحية أخرى، ظلت القضية الفلسطينية مصدراً رئيساً للنزاع مع الدول العربية. وفيما تحاول إسرائيل منذ عقود إقامة علاقات ثنائية جيدة مع دول المنطقة ككل، وبصفة خاصة مع دول الخليج العربية، لا تزال القضية الفلسطينية نفسها عقبة عملية وأخلاقية أمام إمكانية إرساء أجواء إيجابية تعاونية بين تل أبيب والعواصم الخليجية.

وبينما كانت السعودية صاحبة أول مبادرة خليجية للسلام في الشرق الأوسط، وهو النهج التعايشي والسلمي الذي طالما أقره مجلس التعاون الخليجي وتمسك به جماعياً وفردياً، شريطة تطبيقه وفق أسس عادلة، إلا أن استجابة الطرف الآخر (إسرائيل) لهذا التوجه السلمي الثابت، ظلت منحصرة في نطاق الخطاب والدعاية. ولم تنتقل إلى مستوى الترجمة الفعلية في سلوك وإجراءات عملية تعكس مصداقية الرغبة في السلام الإقليمي العادل والجدية في تحمل مسؤولياته والوفاء بمتطلباته.

مقالات لنفس الكاتب