array(1) { [0]=> object(stdClass)#13013 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 196

أزمة البحر الأحمر قدمت للصين دليلاً على أن التغير في السياسة الإيرانية ليس له حدود على الأرض

الأحد، 31 آذار/مارس 2024

تكتسب قضية الأمن الإقليمي في منطقة الخليج العربي أهمية وزخماً خاصاً لدى العديد من القوى الدولية، وفي مقدمتها الصين، وذلك لاعتبارات ثلاثة رئيسية: أولها، أن لدى الصين مصالح استراتيجية كبيرة مع دول مجلس التعاون الخليجي. فقد تحولت لتكون أكبر شريك تجاري لدول المجلس، حيث تشير التقديرات إلى أن حجم التجارة البينية بين الصين ودول المجلس وصل في عام 2022 إلى 315 مليار دولار.

وقد انعكس اهتمام الصين بتوسيع نطاق التعاون الثنائي مع دول المجلس في سعيها إلى تأسيس منطقة تجارة حرة مع الأخيرة، إذ أجريت جولات عديدة من المفاوضات بين الجانبين، وعقد الاجتماع الأول لوزراء الاقتصاد والتجارة في الصين ودول المجلس في مدينة جوانزو الصينية في 22 أكتوبر 2023م، حيث تم إنجاز نحو 90% من البنود الخاصة بالاتفاقية.

اهتمام الصين بتعزيز العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي بدا جلياً في مؤشرات عديدة، من أهمها حرص الرئيس الصيني شي شين بينج على زيارة المملكة العربية السعودية، خلال المرتين اللتين قام فيهما بزيارة منطقة الشرق الأوسط، في يناير 2016م، وديسمبر 2022م، إذ بدأ بزيارة المملكة في 19 يناير 2016م، في مستهل الجولة الإقليمية التي شملت كلاً من إيران ومصر. فيما شارك في الزيارة الثانية في ثلاث قمم سعودية وخليجية وعربية خلال الفترة من 7 إلى 9 ديسمبر 2022م.

وثانيها، أن الصين ترى أن استقرار منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها منطقة الخليج العربي، يحظى بأولوية خاصة لديها، لاسيما في ظل الأزمات العديدة التي تعصف بالمنطقة، والتي يمكن أن يفرض استمرارها تداعيات سلبية خطيرة على مصالحها وأمنها. وقد بدا ذلك جلياً في الارتدادات التي فرضتها الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، التي بدأت في 7 أكتوبر 2023م، على خلفية عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها "كتائب القسام"-الذراع العسكرية لحركة حماس-في اليوم نفسه، داخل مستوطنات غلاف غزة.

فعلى خلفية استمرار تلك الحرب، انفتحت جبهات عديدة للتصعيد العسكري، في لبنان وسوريا والعراق، واليمن، وبدا أن الجبهة الأخيرة تحديداً باتت تنتج تداعيات سلبية خطيرة على الاقتصاد الإقليمي والعالمي، بعد أن أثرت بشكل مباشر وملموس على حركة التجارة في البحر الأحمر وباب المندب وقناة السويس. إذ قامت ميليشيا الحوثيين باستهداف السفن المارة بتلك المنطقة بداية من 19 نوفمبر 2023م، وادعت أن هدفها الأساسي هو عرقلة حركة الملاحة المتجهة إلى إسرائيل أو الصادرة منها، إلا أن الهجمات التي شنتها في المنطقة ساهمت في دفع شركات الشحن إلى البحث عن بدائل للمرور عبر البحر الأحمر وقناة السويس، على غرار طريق رأس الرجاء الصالح، بكل ما يفرضه ذلك من تأثيرات مباشرة على طول مدة الرحلة التي تزيد لفترات تتراوح بين 9 و14 يوماً حسب نقطة الانطلاق، وارتفاع أسعار التأمين، وبالتالي تهديد سلاسل الإمداد التي تنعكس مباشرة في ارتفاع أسعار السلع على مستوى العالم.

وكان ذلك دافعاً للعديد من الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، إلى تشكيل قوة بحرية جديدة تحت مسمى "حارس الازدهار" في 18 ديسمبر 2023م، ثم الاستناد إلى قرار مجلس الأمن الدولي الذي صدر في 10 يناير 2024م، والذي يدين الهجمات التي تشنها الميليشيا الحوثية ويطالب بوقفها فوراً، لشن ضربات عسكرية ضد مواقع الميليشيا داخل اليمن، بداية من 12 من الشهر نفسه، بهدف ممارسة ضغوط قوية على الأخيرة لوقف تلك الهجمات.

وثالثها، أن سعي الصين إلى تنفيذ مشروع "الحزام والطريق" يدفعها دوماً إلى دعم الجهود التي تبذل بهدف الوصول إلى تسويات لبعض الأزمات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وتفرض تداعيات مباشرة على الأمن الإقليمي، ولا سيما في منطقة الخليج العربي. ومن هنا، قامت الصين برعاية اتفاق بكين لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران، في 10 مارس 2023م، واستضافت على مدى عام، منذ توقيع الاتفاق، مسؤولين سعوديين وإيرانيين لدعم فرص البناء على الاتفاق من أجل تطوير العلاقات الثنائية بين الطرفين وتسوية الخلافات العالقة. كما دعمت الجهود التي تبذل من أجل الوصول إلى تسويات سياسية للأزمات الإقليمية المختلفة، بداية من أزمة البرنامج النووي الإيراني، مروراً بالأزمات السورية والليبية واليمنية، وانتهاءً بالقضية الفلسطينية.

فضلاً عن ذلك، أبدت بكين اهتماماً خاصاً بالحرب ضد الإرهاب ومكافحة القرصنة، حيث افتتحت، في أول أغسطس 2017م، قاعدة عسكرية في جيبوتي، وهي أول قاعدة عسكرية لها في الخارج، حيث استخدمتها في دعم وتموين القطع البحرية الصينية المشاركة في عمليات حفظ السلام والمهمات الإنسانية أمام السواحل اليمنية والصومالية. وأشارت تقارير عديدة، في 6 ديسمبر 2021م، إلى أن الصين تقيم قاعدة عسكرية أخرى في غينيا الاستوائية على سواحل المحيط الأطلنطي.

 

سياسة التوازن الاستراتيجي

تجدر الإشارة هنا إلى أن اهتمام الصين بدعم الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها منطقة الخليج العربي، يتوازى مع جهود تبذلها دول مجلس التعاون الخليجي، من أجل توسيع هامش الخيارات وحرية الحركة المتاح أمامها على المستوى الدولي، للتعامل مع التطورات العديدة التي طرأت سواء على صعيد التوازنات الدولية نفسها، أو على مستوى التحولات الملحوظة في السياسات التي تتبناها تلك القوى، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعتبر فاعلاً رئيسياً في المنطقة، في ظل انخراطها في كثير من الملفات الرئيسية فيها. إلا أنها بدأت في إجراء تغيير في تلك السياسة، عبر الانسحاب من بعض الأزمات، على نحو بدا جلياً في الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان، في أغسطس 2021م، ونقل الاهتمام إلى مناطق أخرى مثل منطقة الإندوباسيفيك.

هذه التحركات التي قامت بها دول مجلس التعاون الخليجي بدت جلية في مؤشرات عديدة. فقد تبنت دول المجلس سياسة متوازنة إزاء الحرب الروسية-الأوكرانية، التي اندلعت في 24 فبراير 2022م، وما زالت مستمرة حتى الآن. وبدا ذلك جلياً في تنظيم اجتماعين مشتركين لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي وروسيا في الرياض في أول يونيو 2022م، ثم في موسكو في 10 يوليو 2023م، فضلاً عن قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بزيارة المملكة العربية السعودية والإمارات في 6 و7 ديسمبر 2023م.

كما اتخذت دول المجلس قرارات عديدة خالفت توقعات بعض القوى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، فيما يتعلق بتحديد مستوى إنتاج النفط، للتأثير على أسعاره، خاصة في مرحلة ما بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، وما ارتبط بها من قطع إمدادات الطاقة الروسية عن الدول الغربية كرد على العقوبات التي فرضتها الأخيرة على موسكو بسبب الحرب.

واستضافت المملكة العربية السعودية ثلاث قمم شارك فيها الرئيس الصيني شي شين بينج، في الفترة من 7 إلى 9 ديسمبر 2022م، بعد أن كانت قد استضافت في 15 يوليو من العام نفسه قمة جدة للأمن والتنمية التي شارك فيها الرئيس الأمريكي جو بايدن وقادة دول مجلس التعاون الخليجي إضافة إلى مصر والأردن والعراق.

 

حسابات معقدة

هذه السياسة المتوازنة كانت أحد المتغيرات التي ساهمت في تحسن العلاقات بين بعض دول مجلس التعاون الخليجي وإيران على مدار عام تقريباً، وكان ذلك من ضمن الرسائل الواضحة التي وجهتها تلك الدول وسعت من خلالها إلى تأكيد أنها تدير علاقاتها مع الأطراف المختلفة وسياستها إزاء الملفات التي تحظى بأهمية خاصة من جانبها، بما يتوافق مع حساباتها ومصالحها ورؤيتها لاعتبارات أمنها القومي، بصرف النظر عما إذا كان ذلك يتوافق أو يتباين مع مصالح وحسابات القوى الدولية المنخرطة في تلك الملفات.

ففي هذا الإطار، وقعت المملكة العربية السعودية وإيران على اتفاق بكين لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين. كما قام أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني السابق علي شمخاني (الذي أعلنت استقالته من منصبه وتعيين العميد في الحرس الثوري علي أكبر أحمديان مكانه في 22 مايو 2023م) بزيارة الإمارات، في 16 مارس 2023م، وقبل ذلك، أعادت الكويت سفيرها إلى طهران في 14 أغسطس 2022م.

وبالتوازي مع ذلك، بدأت إيران في توجيه رسائل متعددة تفيد أنها معنية بمواصلة تطوير العلاقات مع دول الجوار، لاسيما دول مجلس التعاون الخليجي، بناءً على محددات رئيسية تتضمن عدم التدخل في الشؤون الداخلية وحسن الجوار. بل إنها بدأت في تبني الدعوة إلى تشكيل "تحالف" بحري لضمان الأمن في منطقة الخليج العربي، بالتوازي مع دعوتها المستمرة لخروج القوات الأجنبية من المنطقة، ولاسيما القوات الأمريكية. ففي هذا السياق، قال قائد القوة البحرية في الجيش الإيراني شهرام إيراني، في 3 يونيو 2023م، أن "إيران والسعودية وأربع دول خليجية أخرى تخطط لتشكيل تحالف بحري يضم الهند وباكستان أيضاً"، مضيفاً أن "دول المنطقة توصلت إلى نتيجة مفادها أنه إذا أريد الحفاظ على الأمن في المنطقة، فيجب أن يتم ذلك من خلال التآزر والتعاون المتبادل".

هذه الخطوات في مجملها حظيت بدعم خاص من جانب الصين، التي اعتبرت أنها تساعد في تعزيز الأمن الإقليمي في منطقة الخليج العربي، وتساهم في دعم الجهود التي تبذل للوصول إلى تسويات للأزمات الإقليمية التي تهدد هذا الأمن بشكل مباشر، خاصة فيما يتعلق بالأزمة في اليمن، فضلاً عن أزمة الملف النووي الإيراني.

وقد عبّرت الصين عن ذلك بتأكيدها على لسان وزير الخارجية وانج يي، في 31 أغسطس 2023م، أن "اتفاق المصالحة بين المملكة العربية السعودية وإيران أدى إلى إطلاق موجة مصالحة في منطقة الشرق الأوسط"، مضيفاً أن "بكين ستواصل دعم دول الشرق الأوسط في استكشاف سبل التنمية وفقاً لما يتماشى مع ظروفها المحلية وتقوية التواصل والحوار والالتزام بالوحدة وتحسين الذات، وتحقيق حسن الجوار والصداقة".

لكن على الأرض، بدا جلياً أن هناك فارقاً شاسعاً بين أقوال إيران وأفعالها. إذ لم تثبت إيران أنها تستطيع الانخراط في التزامات صارمة إقليمية أو دولية، بل إن التحركات التي تقوم بها في المنطقة، والخطوات التي تتخذها إزاء الملفات الرئيسية ما زالت تعد أحد المصادر الأساسية لتهديد الأمن الإقليمي، لاسيما في منطقة الخليج العربي.

فعلى صعيد البرنامج النووي، لم تعر إيران اهتماماً للدعوات التي وجهت لها بتقليص مستوى أنشطتها النووية، بل إنها حرصت على مراكمة مزيد من المواد الانشطارية، لدرجة ساهمت في اقترابها من مرحلة إنتاج القنبلة النووية. فحسب التقرير الذي أصدرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 26 فبراير 2024م، فإن كمية اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة التي أنتجتها إيران وصلت إلى 5525.5 كيلوجرام، بما يعني أنه أصبح لدى إيران كمية تعادل 27 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي (202.8 كيلوجرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67%). وأوضح التقرير أن كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60% وصلت إلى 121.5 كيلوجرام. في حين بلغت كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، نحو 712.2 كيلوجرام.

وتوازى ذلك مع تلميح مسؤولين في إيران إلى إمكانية الانتقال إلى مرحلة أخطر في البرنامج النووي، عبر رفع مستوى التخصيب إلى 90%، وهي الدرجة اللازمة لإنتاج القنبلة النووية، وذلك في سياق استعداد إيران إلى احتمال عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض من جديد في حالة فوزه في الانتخابات الرئاسية التي سوف تجرى في 5 نوفمبر المقبل.

إذ قال رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي، في 11 فبراير 2024م: "لدينا كل مكونات العلوم والتكنولوجيا النووية. دعوني أضرب مثالاً، ماذا تحتاج السيارة؟، إنها تحتاج إلى هيكل، وتحتاج إلى محرك، وتحتاج إلى عجلة قيادة، وتحتاج إلى صندوق تروس. هل صنعنا صندوق التروس؟ أقول نعم، وكذلك محرك؟ ولكن لكل منهما غرضه الخاص".

وهنا، فإن المعنى المباشر لذلك هو أن إيران لديها كل القدرات التقنية التي تستطيع من خلالها الوصول إلى مرحلة امتلاك القنبلة النووية، مع استمرار الأبحاث والتطوير حول مكونات أخرى لازمة مثل المفجر النووي. وبعبارة أخرى، فإن المسألة بالنسبة لإيران لم تعد مسألة إمكانيات وإنما باتت مسألة وقت، الذي يرتبط بوجود "إرادة سياسية"، أو قرار استراتيجي بالعمل على إنتاج القنبلة.

هذا المعنى تحديداً هو الذي دفع المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رفاييل جروسي إلى التعليق على تصريحات صالحي بقوله إن إيران لا تتعامل بشفافية فيما يتعلق بالبرنامج النووي، مضيفاً: "إن هناك حديثاً فضفاضاً عن الأسلحة النووية على نحو متزايد، بما اشتمل على إيران مؤخراً. قال مسؤول إيراني رفيع المستوى للغاية (في إشارة إلى صالحي) في الواقع إن لدينا كل شيء في حالة تفكيك. حسناً، من فضلك أخبرني بما لديكم".

ومن دون شك، فإن هذا الملف يفرض تأثيرات مباشرة على الأمن الإقليمي في منطقة الخليج العربي، ففضلاً عن وجود مخاطر مستمرة لاحتمال حدوث تسرب إشعاعي في مياه الخليج العربي، في ظل عدم التزام إيران بمعايير الأمن والسلامة في بعض المنشآت النووية الإيرانية فضلاً عن إمعانها في تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي، فإن إيران رفضت الدعوة التي وجهتها بعض دول المجلس بالمشاركة في المفاوضات التي تجري مع القوى الدولية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، حول البرنامج النووي، وهى دعوة تكتسب مشروعية ووجاهة خاصة، باعتبار أن دول المجلس سوف تتأثر بالمسارات المحتملة التي يمكن أن يتجه إليها هذا الملف تحديداً.

هذه السياسة المتشددة التي تتبعها إيران وتفرض تداعيات سلبية على الأمن الإقليمي في الخليج كانت محط اهتمام من جانب الصين، التي دعت خلال جلسة عقدها مجلس الأمن الدولي لمناقشة القضية النووية الإيرانية، في 7 يوليو 2023م، جميع الأطراف إلى الالتزام بتعهداتها في الاتفاق. ورغم أنها لم تحدد إيران بشكل واضح، فإن هذه الدعوة تكشف أنها ترى أن تخفيض إيران مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي يقوض هذا الاتفاق، ومن ثم يؤثر سلبياً على الأمن الإقليمي في الخليج العربي.

وعلى مستوى برنامج الصواريخ الباليستية، ما زالت إيران حريصة على تطوير برنامجها للصواريخ الباليستية، خاصة بعد أن تم رفع الحظر الأممي المفروض على الأنشطة الخاصة بهذا البرنامج في 18 أكتوبر 2023م، وفقاً للاتفاق النووي. وقد استغلت إيران ذلك في الإعلان عن خطوات جديدة في هذا البرنامج، على غرار إنتاج صاروخ "فرط صوتي" باسم "فتاح"، في 6 يونيو 2023م، والذي يصل مداه إلى 1400 كيلومتر. كما أجرت تجربة لإطلاق صاروخين باليستيين على متن سفينة في خليج عمان في 24 فبراير 2024م. واستخدمت هذه الصواريخ بالفعل في الهجمات التي شنتها في 16 يناير 2024م، واستهدفت فيها مواقع في كل من العراق وسوريا وباكستان.

ورغم أن إيران تركز خلال عمليات إطلاق تلك الصواريخ على توجيه رسائل تصعيدية إلى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فإنها سبق أن استندت إلى قدراتها العسكرية، لاسيما الصاروخية، في الترويج إلى أنها القوة الرئيسية في منطقة الخليج العربي، وأنها تستطيع استهداف مصالح القوى المناوئة لها في تلك المنطقة.

أما على صعيد التدخلات الإقليمية، فقد بدا لافتاً أنها لم تتراجع حتى بعد التحسن الملحوظ في العلاقات بين إيران والعديد من دول الجوار. فقد حرصت إيران على افتعال الخلاف حول حقل "الدرة"-الذي تطلق عليه حقل آرش"-والذي يمثل ملكية مشتركة بين كل من المملكة العربية السعودية والكويت. كما تجدد باستمرار موقفها من قضية الجزر الإماراتية الثلاث: طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى، حيث تدعي أن "تلك الجزر جزء لا يتجزأ من أراضيها"، وأنها "غير قابلة للتفاوض". بل إنها أبدت ردود فعل متشددة عندما نجحت الإمارات في استقطاب دعم العديد من القوى الدولية لمقاربتها إزاء تلك القضية، على غرار الصين وروسيا واليابان، التي أيدت دعوة إيران إلى الاستجابة لجهود تسوية القضية إما عبر التحكيم الدولي أو حلها بالمفاوضات الثنائية.

حرص إيران على مواصلة افتعال وتجديد الحديث عن تلك الخلافات يمثل رسالة من جانبها إلى دول الجوار بأن التحسن الملحوظ في العلاقات الثنائية لن يدفعها إلى إجراء تغيير في المحددات الأساسية التي تقوم عليها سياستها الخارجية.

وقد بدا ذلك جلياً في أعقاب اندلاع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، في 7 أكتوبر 2023م. فرغم أن إيران سارعت إلى نفى ضلوعها في عملية "طوفان الأقصى"، من أجل تجنب الانخراط في حرب مباشرة مع إسرائيل، إلا أنها منحت الضوء الأخضر للميليشيات الموالية لها بالانخراط في تلك الحرب بمستويات مختلفة. بل إنها لم تكن بعيدة، في الغالب، عن التهديدات التي أطلقتها بعض تلك الميليشيات، مثل "ألوية الوعد الحق"-القريبة من "كتائب حزب الله العراق"-ضد دول مجلس التعاون الخليجي. إذ أصدرت تلك الميليشيا بياناً، في 24 أكتوبر 2023م. هددت فيه باستهداف القواعد الأمريكية في الإمارات والكويت في حالة استمرار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة.

وانخرطت الميليشيا الحوثية بدورها في الحرب، عندما بدأت في استهداف السفن العابرة في باب المندب، منذ 19 نوفمبر 2023م، على نحو تسبب في تحول كثير من شركات الشحن العالمية إلى طريق رأس الرجاء الصالح، كخيار اضطراري بعد أن أصبح المرور في البحر الأحمر "غير آمن".

ورغم أن السفن الصينية لم تتعرض لاستهداف مباشر من جانب ميليشيا الحوثيين، إلا أن التهديدات التي تفرضها تحركات الأخيرة أنتجت في النهاية تداعيات سلبية عليها، باعتبار أنها لجأت بدورها إلى طريق رأس الرجاء الصالح، بكل ما يعنيه ذلك من رفع تكلفة الشحن وإطالة زمن الرحلة.

ومع أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت، بالتعاون مع بريطانيا، في شن ضربات عسكرية ضد مواقع الميليشيا، في 12 يناير 2024م، إلا أنها لم تنجح في وقف تلك الهجمات، على نحو دفعها إلى البحث عن خيارات أخرى، كان من بينها مطالبة الصين بالتدخل لدى إيران من أجل ممارسة ضغوط على ميليشيا الحوثيين لوقف تلك الهجمات. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن الصين تدخلت بالفعل لدى إيران، إلا أنه لم تتضح بعد مدى مصداقية ذلك، خاصة أن الهجمات ما زالت مستمرة في البحر الأحمر.

لكن في النهاية، يمكن القول أن هذه الأزمة تحديداً التي فرضتها التهديدات الحوثية في البحر الأحمر قدمت دليلاً إلى الصين على أن التعويل على احتمال حدوث تغير في السياسة الإيرانية له حدود على الأرض، يفرضها إصرار إيران على المضي قدماً في التمدد على المستوى الإقليمي باستخدام آليات مختلفة، سياسية واقتصادية وعسكرية وأيديولوجية، بكل ما يفرضه ذلك من تداعيات مباشرة وقوية على الأمن الإقليمي خاصة في منطقة الخليج العربي.

مقالات لنفس الكاتب