array(1) { [0]=> object(stdClass)#13032 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 197

حالة ممتدة من الجمود العسكري "صراع متجمد" وضآلة التوصل للسلام وتسويات إقليمية

الإثنين، 29 نيسان/أبريل 2024

ربما لم يتضح بعد إذا ما كان الغزو الروسي على أوكرانيا في 24 من فبراير 2022م، سيُحدث تغييرًا في الخرائط السياسية، لكن من المؤكد أنه أدى إلى إعادة النظر في السَرديات والتَصورات الجيوسياسية المعقودة. فقد أضحى الكثيرون الآن ينظرون إلى النظام العالمي الليبرالي بأنه سيكون في حالة يرثى لها خلال عقود ما بعد الحرب. فإذا ما كان الغزو الروسي لجورجيا في عام 2008م، وضمها شبه جزيرة القرم، وشن موسكو حرب بالوكالة في دونباس خلال عام 2014م، قد ترك أية فُسحة للشك حول نزعة روسيا التحريفية، فقد تبددت هذه الشكوك الآن. إذ يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى دعم مخططاته الإمبريالية، مُستشهدًا بأفكار الفلاسفة الروس خلال القرنين التاسع عشر والعشرين والتاريخ الروسي كمنجم للمُطالبات على الدول المجاورة التي ابتعدت عن الفلك الروسي منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. كذلك يتم الاستعانة بمبادئ الأرثوذكسية المسيحية، والقومية الروسية، والنزعة السلافية، والأوراسية، كشظايا أيديولوجية مُتباينة بل وحتى متناقضة، في سبيل تعبئة وحشد الرأي العام وتبرير التوسع الروسي خارجيًا.  علاوة على ذلك، توجد شبكة هائلة من وسائل الإعلام الروسي على رأسها " روسيا اليوم" وحملات تضليلية على منصات التواصل الاجتماعي تعمل على تدعيم والترويج للدعاية الروسية وتعظيم هذه السرديات. وتشمل نقاط الحوار المتكررة في الإعلام الروسي؛ التدخل الغربي والترويج ل “أوراسيا" باعتبارها معقلًا للتعددية القُطبية، والقيم التقليدية، وعلاقات روسيا الودية مع دول الاتحاد السوفييتي سابقًا وحلفائها السابقين في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا.

يلعب العالم العربي دورًا بارزًا في هذا المسعى الروسي مع حرص الإعلام الروسي على بث رسائل مُخصصة باللغة العربية لتكون أكثر وضوحًا واستهدافًا من اللغة الإنجليزية. فعلى سبيل المثال، تم إطلاق قناة "روسيا اليوم" الإخبارية الناطقة باللغة العربية عام (2007م)، وذلك بعد وقت قصير من إطلاق قناة "روسيا اليوم" الناطقة باللغة الإنجليزية عام (2005م). تلاها إطلاق النسخة الإسبانية في عام (2009م)، ثم الألمانية (2014م)، والفرنسية (2017م) بعد ذلك بوقت طويل. تتمتع قناة “روسيا اليوم" حاليًا بأكبر انتشار لها داخل أمريكا اللاتينية والعالم العربي، حيث تُصنف ضمن أفضل خمس محطات بث، مباشرة بعد قنوات “الجزيرة"، و" العربية" و"سكاي نيوز عربية". وبحسب نتائج استطلاع مركز "يوغوف"، فإن غالبية الرأي العام العربي، باستثناء سوريا، يُحمِل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وليس روسيا، مسؤولية الحرب الدائرة في أوكرانيا. وبشكل عام، فإن النشاط الرقمي، والمعلومات الروسية المُضللة التي تبث، إلى جانب "شبكات التصيد" التابعة للحكومات الإقليمية يتفاعلون مع ذلك من خلال مواءمة وتدعيم الرسائل الاستبدادية المُراد الترويج لها.

وعلى الرغم من الصيحات الغربية المُنددة بالعدوان الروسي على أوكرانيا، إلا أن موسكو لا تعتبر معزولة دوليًا، فوفقًا لنتائج استطلاع أجرته مجلة" ذا إيكونوميست" البريطانية ربما يعارض 70 % من الدول الغزو الروسي لأوكرانيا. ولكن بحسب تعداد السكان العالمي، فيظل أكثر من 60% من الدول متبنيًا موقفًا محايدًا (على سبيل المثال، المملكة العربية السعودية، مصر، العراق، الإمارات، الهند، والبرازيل)، في حين قد يميل البعض إلى الموقف الروسي مثل "الجزائر، السودان، إيران، الصين، باكستان)، وثمة من يدعمها بشكل صريح مثل (سوريا، إريتريا، فنزويلا، ميانمار).

في الوقت ذاته، جاءت استجابة دول الجنوب العالمي للإدانات الغربية للغزو الروسي فاترة. حتى أن دولة مثل الهند-التي تعتمد على واردات الأسلحة الروسية - كانت سعيدة لشراء النفط الروسي الخاضع للعقوبات بسعر مُخفض. وعلى صعيد منطقة الساحل الإفريقي، استطاعت روسيا اكتساب النفوذ من خلال مزيج يجمع بين نشر عناصر مرتزقة تابعة لجماعة فاغنر، وإمدادات الأسلحة، والمشاركة في أنشطة التعدين. وفي دول مثل "مالي"، وبوركينا فاسو"، وجمهورية إفريقيا الوسطى، والسودان" يتحدث الدبلوماسيون الغربيون عن وجود "جبهة ثانية" و"حرب هجينة". وعلى الصعيد الخليجي، قامت الدول المصدرة للنفط مثل المملكة العربية السعودية والإمارات بتمديد اتفاق "أوبك + " مع روسيا في خضم الأزمة التي ضربت أسواق الطاقة العالمية نتيجة العدوان الروسي على أوكرانيا، حرصًا منها للحفاظ على تدفق الإيرادات النفطية. وأخيرًا، وافقت الصين على "صداقة بلا حدود" أثناء الزيارة التي قام بها الرئيس بوتين إلى دورة الألعاب الأوليمبية في بكين عشية غزو أوكرانيا.

 

تُشكل حرب روسيا على أوكرانيا" تحديًا مفتوحًا لما اصُطلح على تسميته بالنظام العالمي الليبرالي". كانت روسيا قد اعترفت بأوكرانيا كدولة ذات سيادة خلال عام 1991م. وإلى جانب الصين وقوى غربية أخرى، عرضت موسكو ضمانات أمنية إلى الجانب الأوكراني، ضمن مذكرة التفاهم الموقع عليها في بودابست عام 1994م، عندما قررت أوكرانيا طواعية تسليم الأسلحة النووية التي تعود إلى الحقبة السوفيتية التي تم العثور عليها داخل أراضيها. ولكن في حال كُتب لروسيا الانتصار بهذه الحرب، فلن يعد ممكنًا التسليم بأفكار السيادة، وعدم انتهاك الحدود المقبولة دوليًا، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. على النقيض، سوف تنتشر ألاعيب القوة الجيوسياسية في بقاع أخرى حول العالم (على سبيل المثال، في النزاع حول تايوان)، وسيصبح سلاح الحرب بديلًا لخيار الدبلوماسية باعتبارها الشكل المُهيمن للتفاعل بين الدول.

في ضوء هذه الخلفية، يستعرض هذا المقال الأزمة التي يواجهها "النظام العالمي الليبرالي"، ونظرة روسيا إلى النظام العالمي القائم، إلى جانب الأحداث التي وقعت على مدار العقدين الماضيين اللذين سبقا الهجوم الروسي على شبه جزيرة القرم و دونباس في 2014م، وصولا بالحرب الروسية الشاملة على ما تبقى من الأراضي الأوكرانية في 2022م، ثم طرح تصور مُستنير حول كيفية استمرار الحرب في المستقبل القريب وما قد يعنيه ذلك بالنسبة لحلف الناتو والدول الأوروبية الرائدة مثل ألمانيا.

النظام العالمي الليبرالي في أزمة

لم يكن النظام الليبرالي الذي تأسس خلال عقود ما بعد الحرب العالمية "نظامًا عالميًا" إبان حقبة الحرب الباردة، بل حتى إنه واجه أزمة مطولة خلال توسعه دوليا في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، مُباشرة بعد بلوغه أوج نجاحه، مثلما أشار الكاتب جون إيكنبيري. بالتالي، فقد كان الدور الأمريكي في تدعيم هذا النظام الليبرالي الدولي أكثر عمقا وشمولا، مقارنة بالقوى العظمى السابقة التي حكمت مجتمعات لم تكن حينها تُعامل كسلعة بخلاف وضع المجتمعات الراهنة. وعليه، فإن هيمنة الدول في العصر الحديث لم تعد تقتصر على امتلاك عملة ركيزة، والتمتع بالقدرات العسكرية، بل تشمل صياغة القواعد ذات القاعدة العريضة، وكسب نفوذ على المؤسسات الدولية، والتمتع بالقوة الناعمة. ولهذا السبب، لا يرى إيكنبيري أن التحول من الهيمنة الأمريكية إلى الهيمنة الصينية هو السيناريو الأكثر ترجيحًا، بل يتصور بالأحرى "العودة إلى التعددية القطبية" أو "صعود المعسكر غير الغربي". وهو ما يتردد من خلال التقييم الذي خلص إليه المحلل صموئيل هنتنغتون في عام 1999م، بأنه" سيكون هناك تحول نحو التعددية تحت مظلة "نظام أحادي متعدد الأقطاب" تقوده الولايات المتحدة. وقد دفع انتشار المنظمات متعددة الأطراف والإقليمية، المفكر أشاريا إلى الحديث عن "بنية إقليمية ناشئة للسياسة العالمية"، وهو ما يُثير أيضًا تساؤلات حول دور المناطق والقوى الإقليمية في سرديات النظام العالمي الجديد.

الرؤية الروسية

بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يمثل انهيار الاتحاد السوفيتي " الكارثة الجيوسياسية الأكبر في القرن العشرين"- كما عبر في خطابه السنوي عن حالة الأمة خلال عام 2005م. وعزا ذلك إلى ظهور وضع الأٌقليات للجماعات العرقية المنحدرة من أصول روسية بالدول المجاورة (دول الاتحاد السوفيتي سابقا)، ونشأة الحركات الانفصالية داخل روسيا. ومثلما حدث في أعقاب انهيار الإمبراطورية القيصرية، فقد دفع انهيار الاتحاد السوفييتي إلى البحث عن سرديات قومية جديدة ينسجها النظام الروسي. وقد اتخذت هذه الجهود بُعدا فلسفيا ومتنوعا إبان حقبة التسعينيات؛ ثم اكتسبت زخمًا سياسيًا متزايدًا خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وكان تدخل حلف الناتو في كوسوفو في عام 1999م، والغزو الغربي للعراق من قِبَل "تحالف الراغبين" بقيادة الولايات المتحدة في عام 2003م، وكل منهما من دون تفويض من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، دافعا وراء تنامي حالة العداء الروسي ضد ما اعتبره الأُحادية الأمريكية. وهو ما عبر عنه الرئيس الروسي بشكل نموذجي في الخطاب الذي ألقاه أمام مؤتمر ميونخ للأمن عام 2007م. كما ساهمت الدعوة التي وجهها حلف الناتو إلى جورجيا وأوكرانيا للانضمام إلى الحلف خلال قمة بوخارست المنعقدة عام 2008 م، في تغذية المخاوف الروسية. مع ذلك، فقد ساعدت روسيا بطريقة ما في تمهيد الطريق أمام تدخل حلف الناتو في ليبيا في عام 2011م، بامتناعها عن التصويت على قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1973م، ولكن بعد فترة وجيزة تراءى إلى موسكو أن الغرب تمادى من خلال استخدام التفويض كوسيلة لتحفيز عملية تغيير النظام الحاكم في ليبيا، مما أدى إلى مزيد من التدهور في العلاقات بين روسيا والغرب.

بالتالي، ينبغي النظر إلى البحث عن أيديولوجية بديلة للأيديولوجية الغربية في إطار هذا السياق، بما في ذلك تنمية روسيا العلاقات مع الكنيسة الأرثوذكسية بوصفها حليفاً، وإعادة تأهيل حقبة الديكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين في الذاكرة التاريخية الروسية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وهنا بالتحديد، تبرُز سردية "أوراسيا"، كما روج لها الفيلسوف ألكسندر دوغين وآخرون منذ تسعينيات القرن الماضي. حيث وضع الباحث الروسي تصورًا لموسكو وهي "تقع في قلب تكتل استراتيجي أوراسي ذي محاور تمتد عبر برلين، وطهران، وطوكيو. وتشمل أيضا الخريطة الموضوعة، على الغلاف الأمامي لكتابه الأكثر مبيعا "أسس الجغرافيا السياسية"، بلاد ما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية كمناطق نفوذ روسية محتملة (بالإضافة إلى المملكة المتحدة وأيرلندا كحالة استثنائية)، دون أن يتضمن ذلك مصر ودول شمال أفريقيا. كما يتصور دوغين إعادة تقسيم أوروبا بين ألمانيا وروسيا، في حين من المحتمل أن يسعى محور ثانوي يجمع بين باريس وموسكو، إلى تعزيز السلطة في أوروبا الغربية حيث يتجلى التهديد عبر الأطلسي بشكل أكثر وضوحا. واعتبر اليابان شريكه المُفضل في الشرق العالمي، حيث يرى أن الصين تلعب دورا في تدعيم "استراتيجية عبر الأطلسي" داخل المناطق الحدودية. كذلك يمنح الفيلسوف السوفيتي الأفضلية لإيران على المملكة العربية السعودية وتركيا الموالية للغرب والتي لديها خطط مُنافسِة من القومية الطورانية.

يسعى مفهوم أوراسيا إلى خلق حس جديد بالهوية الوطنية التي يمكن أن تتمخض عن رماد الإمبراطورية الروسية. وتضع الرؤية الأوراسية تصورًا لثقافة روسية مُتفردة تحمل طابعها الخاص بحيث لا تكون غربية ولا آسيوية، قادرة على أن تمتد على مساحات شاسعة من كتلة اليابسة الأوراسية التي شكلت النواة الجغرافية للإمبراطورية القيصرية وللاتحاد السوفييتي فيما بعد. على هذا النحو، تختلف الأوراسية عن القومية العرقية الروسية والوحدة السلافية. ورغم تبني بوتين المصطلحات الأوراسية منذ عام 2011م، إلا أنه ظل براجماتيًا وانتقائيًا عند صياغة مبرراته للتوسع الإقليمي والتدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة مثل أوكرانيا لاسيما بعد اندلاع الثورة الأوكرانية الملونة في عام 2004م، واستخدامه إمدادات الغاز كسلاح في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. من ثم، فإن وصف دوغين بأنه "المُعلم الروحي لبوتين" أو "عقل بوتين المدبر" في غير محله. فيظل دوغين من خارج دائرة المطلعين على الكرملين، فضلا عن محدودية تأثير فكره الأيديولوجي على النخب الروسية، التي وإن كانت تؤيد التدخلات الروسية الدولية، وتعتبر الولايات المتحدة بمثابة تهديد، إلا أن تحيزاتها المتمركزة حول روسيا تتعارض مع تطلعات دوغين لبناء إمبراطورية روسية، كما أن هذه النخب ليست بالضرورة على دراية بكافة التفاصيل الخاصة بمنظومة دوغين الفكرية والأيديولوجية.

التحريفية الروسية قيد العمل

بعد أن قضى فلاديمير بوتين فترتين مُتتاليتين في كرسي الرئاسة، قام بتسليم السلطة إلى خلفه ديمتري ميدفيديف عام 2008 م، كرئيس انتقالي وهو الذي ظل معتمدا بشكل كبير على سلفه بوتين. في أثناء ذلك، تولى بوتين منصب رئيس الوزراء لكنه ظل ممسكا بخيوط السلطة في الخلفية. اتخذت نظرة بوتين إلى العالم منعطفا محافظا خلال عام 2013م، أي بعد عام من عودته إلى كرسي الرئاسة الروسية. كما نصب بوتين نفسه باعتباره المُنقذ المُحافظ لأوروبا؛ وذلك قبل عام من تحوله إلى زعيم صاحب نزعة إمبريالية خالصة عقب قرار ضم شبه جزيرة القرم. وفي العام ذاته، ألقى بوتين " أهم خطاب في حياته" أمام الاتحاد الروسي، على حد تعبير الكاتب ميشيل إلتشانينوف، مُعلنا عما وصفه بـ “طريق روسيا المستقل" في مواجهة الغرب، الذي اتهمه بمحاولة الضغط باستمرار على روسيا في عالم أحادي القطب ومتجانس، تم إنشاؤه على صورته الخاصة. وجادل الزعيم الروسي بأن التدخل الغربي في أوكرانيا قد تجاوز "الخط الأصفر"، مما أسفر عن مزيج انتقائي من القيم الروسية الوطنية التي أسسها هو على مبادئ المسيحية الأرثوذكسية والحياة المجتمعية التقليدية، المُتشبعة بالمراجع السلافية والرغبة المُعلنة في ممارسة التسامح داخل مساحة متعددة الأعراق. وفي عام 2014م، تم إطلاق الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، الذي ضم بيلاروسيا وكازاخستان كأعضاء، وتبعته أرمينيا وقيرغيزستان في وقت لاحق.

"الأوراسية" هي البناء الأيديولوجي الأقل حصرية، مقارنة بالقومية العرقية الروسية، والوحدة السلافية، والأرثوذكسية المسيحية. ومن ثم، فهو الأكثر واقعية بالنسبة للطموحات الإمبراطورية الروسية في منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي متعددة الأعراق والتي تتزامن مع تحول بوصلة روسيا صوب آسيا. وقد شمل المسعى الروسي المشاركة في المنظمات متعددة الأطراف. وفي عام 2001م، أصبحت روسيا العضو المؤسس لمنظمة" شنغهاي للتعاون"، التي تضم كل من إيران بصفتها مراقب، بالإضافة إلى كل من مصر، وقطر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات بصفتها دول شريكة في الحوار. وفي عام 2003م، انضمت روسيا إلى منظمة التعاون الإسلامي بهدف تنمية العلاقات في جوارها الجنوبي، وفي إشارة أيضا إلى تزايد تعداد سكانها من المسلمين. أعقب ذلك عدة زيارات حكومية روسية إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في عام 2005م، تماشيًا مع "عقيدة بوتين" الحازمة التي تسعى إلى مجابهة النفوذ الأمريكي. وفي عام 2006م، أصبحت روسيا أحد المؤسسين لمجموعة "بريكس".

على صعيد آخر، شكل التدخل الروسي في سوريا تحديًا لاحتكار الولايات المتحدة لاستخدام القوة. وسلط الضوء على السردية الروسية حول قيم الاستقرار والسيادة التي ترفض التدخل الخارجي وتعتبر الديمقراطية وحقوق الإنسان مجرد أدوات يستخدمها الغرب من أجل بسط سيطرته على الدول الأضعف. ومثلها مثل الأنظمة الاستبدادية داخل المنطقة، اعتبرت روسيا الحركات الديمقراطية مثل "الثورة الخضراء" في إيران عام 2009م، أو ثورات الربيع العربي "غير شرعية". ورأت فيها موسكو "تهديدًا" للاستقرار السياسي، كونها أعادت إلى الأذهان الثورات الملونة التي اندلعت بدول الاتحاد السوفييتي سابقًا مثل جورجيا وأوكرانيا. كذلك تخشى موسكو من انتشار آثار الشبكات الإسلامية على أراضيها في شمال القوقاز.

حرب الاستنزاف في أوكرانيا

لقد استغرق الغزو الروسي الكامل لأوكرانيا في عام 2022م، وقتًا طويلًا في التخطيط له بالنظر للمُعطيات التاريخية التي سبقته وضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014م. مع ذلك، فسرعان ما تبدد الأمل الروسي بشأن سقوط العاصمة كييف في غضون أيام قليلة وتوجيه ضربة قاصمة للحكومة الأوكرانية. فقد تصدت القوات الأوكرانية للقوات المحمولة جوا في مطار "هوستوميل" خارج كييف، فيما أغُلقت الطرق نتيجة الوجود المكثف للقوافل الطويلة من الناقلات المدرعة، فضلا عن المعاناة الروسية من خطوط الإمداد الممتدة، وسقوط القوات الروسية فريسة لصواريخ "جافلين" المضادة للدبابات التي أطلقتها القوات الأوكرانية متعددة الاستخدامات التي استغلت الوقت منذ عام 2014م، لتدريب كوادرها وتطويرها. وبالتالي، فقد خلص الروس إلى أن الاستعداد العسكري الذي بدت عليه القوات الأوكرانية في عام 2022م، لا يمكن مقارنته بعام 2014م، وسرعان ما اضطروا إلى الانسحاب من شمال البلاد، أعقب ذلك خسارتهم المزيد من الأراضي في معارك "تشاركيف" و"خيرسون".

تحولت الحرب الروسية بعد هذه المعارك إلى حرب استنزاف على نحو متزايد، لاسيما في أعقاب فشل الهجوم الأوكراني المُضاد في عام 2023م، بشكل عام، تعتمد قدرة أوكرانيا على الصمود في حرب الاستنزاف بشكل حاسم على المساعدات العسكرية الغربية وقدرتها على حشد قوات جديدة. ورغم التفوق الروسي من حيث القوة البشرية والموارد التي يمكنها السيطرة عليها، وصمود موسكو أمام سلاح العقوبات الغربية بشكل أفضل مما كان متوقعا، إلا أنه في ظل اقتصاد، بحجم اقتصاد إيطاليا، من المتوقع أن تكافح روسيا من أجل الحفاظ على اقتصاد الحرب وأنظمة الأسلحة المكلفة مثل الأسلحة النووية والغواصات والصواريخ الباليستية الحديثة.

دور الناتو والأمم المتحدة والقوى الأوروبية مثل ألمانيا

إذا ما قوبلت روسيا بإصرار ودعم غربيين راسخين، فعلى الأرجح سوف تستمر حالة الجمود الراهنة. وفي مثل هذه الحالة، ستخسر روسيا الحرب استراتيجيًا وستظل أوكرانيا متمتعة باستقلاليتها. مع ذلك، فإن احتمالات منع المساعدات العسكرية من قبل الكونجرس الأمريكي وفوز دونالد ترامب المُحتمل في انتخابات الرئاسة الأمريكية المقررة في عام 2024 م، يمثلان ورقة رابحة. كما لا يزال مُبهمًا ما إذا كانت أوروبا وحدها ستكون قادرة على دعم أوكرانيا بالقدر الكافي. فقد تحتاج القارة العجوز إلى تشكيل جبهة أكثر اتحادًا، وزيادة إنفاقها الدفاعي، والتحول إلى جهة أكثر فَاعلية على الصعيد الجيوسياسي. وهذا يتطلب تعاونًا أوثق بين الدول الكبرى، وأبرزها فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وبولندا.

لطالما كانت ألمانيا عازفة عن التورط في النزاعات العسكرية، ولكنها اتجهت تدريجياً منذ تسعينيات القرن الماضي للمشاركة في المهام العسكرية خارج حدود المنطقة. وهي اليوم تعتبر أكبر داعم لأوكرانيا بعد الولايات المتحدة مع إعلانها التحول في وضعها العسكري لرفع الجُهوزية القتالية للجيش الألماني- وهو ما يسمى بـ "Zeitenwende" - وقد تلعب دورًا أكثر أهمية إلى جانب شركائها الأوروبيين والأمريكيين.

لقد فشلت روسيا في تحقيق أهدافها الأولية من وراء الحرب المُتمثلة في احتلال الجزء الشرقي من أوكرانيا على الأقل وتنصيب "نظام الدمية". مع ذلك، ثمة خطر محتمل أيضًا من أن تتمكن أوكرانيا من الإفلات من الهيمنة الروسية المباشرة، ولكن في الوقت ذاته تتحول إلى دولة عازلة مُدمرَة. ومن ناحية أخرى، يخشى الكثيرون من أن انتصار روسيا في الحرب قد يمهد الطريق لمزيد من مخططاتها التوسعية في مولدوفا ودول البلطيق. ولقد غذى بوتين بالفعل مثل هذه المخاوف بتصريحات تحريضية.  

قادت هذه المخاوف إلى إعادة تنشيط حلف الناتو مع انضمام فنلندا والسويد إلى التحالف الغربي. فيما رأت دول أوروبا الشرقية التي كانت انضمت إلى الحلف خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أنها كانت محقة فيما فعلت، فهي ترى أنه بدون هذا الرادع قد تقع فريسة للعدوان الروسي مثل أوكرانيا. وعلى هذه الخلفية، تَغلُب حالة من الانقسام داخل منظمة الأمم المتحدة التي تقف مكتوفة الأيدي مع عجز مجلس الأمن التابع لها عن لعب دور حاسم في حل الصراع. ولا يزال غير واضح بعد ما هي الظروف أو المعطيات التي قد تولد استعداداً لدى روسيا للتفاوض على إنهاء الصراع.

من ثم فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا للمستقبل المنظور هو حالة ممتدة من الجمود العسكري. وقد ينتهي الأمر عند نقطة ما إلى "صراع متجمد"، وسط ضآلة احتمالات التوصل إلى اتفاق سلام رسمي وتسويات إقليمية خلال هذه المرحلة. على أية حال، فإن أوكرانيا ودول أخرى في أوروبا الشرقية والقوقاز (على سبيل المثال جورجيا) ستكون راغبة في الحصول على ضمانات أمنية غربية، إن لم تكن العضوية الصريحة بحلف الناتو بهدف إحباط مخططات روسيا الإمبريالية لإقامة إمبراطورية روسية جديدة على أراضيها.

مقالات لنفس الكاتب