*** لا يمكن لنا ونحن نتحدث عن الدعم الدولي للقضية الفلسطينية أن نتغاضى أو نقفز على موقف يبدو لنا في قمة الأهمية في مجال دعم وتأييد هذه القضية العادلة وأعني بذلك موقف دول أمريكا اللاتينية التي من المؤكد أن علاقتها بالقضية الفلسطينية تعد علاقة متكاملة الأبعاد تشمل كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والعقائدية والثقافية وحتى المجتمعية، وهي علاقة أثرت تأثيرًا إيجابيًا في مسار القضية حتى وإن لم تأخذ حقها الطبيعي في المتابعة الإعلامية أو على مستوى المعالجة البحثية.
*** وبالرغم من السمات الخاصة التي تميزت بها دول أمريكا اللاتينية ولاسيما من حيث التطورات التاريخية التي مرت بها وانشغالها لفترات طويلة في العمل على تحرير نفسها من الاستعمار والاحتلال ثم سعيها لبناء دولها على أسس سليمة وقوية ومحاولاتها أن يكون لها مكانًا مميزًا في هذا العالم الذي لا يعرف سوى لغة المصالح ، ورغم ذلك لم تغب القضية الفلسطينية عن أن تكون أحد مكونات السياسة الخارجية لمعظم دول أمريكا اللاتينية حتى وإن شهدت في بعض الأحيان نوعًا من الجمود أو التراجع أو عدم الاهتمام الكافي ارتباطًا بالأوضاع الداخلية في هذه الدول أو طبيعة علاقاتها الدولية مع الأطراف المؤثرة في القضية .
*** ومن الجوانب التي يجب أن نتوقف عندها كثيرًا ونحن نعالج هذا الموضوع مسألة الموقع الجغرافي لهذه الدول والذى كان من الطبيعي أن يكون حائلاً بينها وبين انخراطها أو اهتمامها بمثل هذه القضية، إلا أن الواقع أكد أن هذا العامل الجغرافي لم يكن له سوى تأثير محدود على مواقف هذه الدول من القضية الفلسطينية حيث حرصت على أن تكون لها مواقف ثابتة وواضحة من القضية وسعت إلى تأكيدها بشكلٍ متواصل في كافة المحافل الدولية وبلورت في النهاية رؤيتها السياسية لحل القضية وهى رؤية تتواءم بشكل عام مع الرؤية العربية والفلسطينية للحل السلمى المقبول .
*** هناك بعض المحددات الهامة من الضروري الإشارة إليها في سياق الحديث حول موقف دول أمريكا اللاتينية من القضية الفلسطينية وهو ما يمكن إيضاحه في المحددات الستة التالية:
** إن هذه الدول عانت من ويلات الاحتلال الأجنبي لبلادها وبالتالي فإن مواقفها تجاه قضايا التحرر الوطني كانت مواقف واضحة وصارمة ورفضت تمامًا وبصورة لا تقبل الشك استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية والأراضي الفلسطينية.
** إن هناك العديد من الأحزاب اليسارية نجحت في تولى الحكم في بلادها على مدار فترات زمنية متفاوتة ومن ثم توافقت في رؤاها بشكل كبير مع مواقف وتوجهات التنظيمات الفلسطينية ذات التوجهات اليسارية (مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) مما مهد المجال أمام تعامل هذه الدول مع حركة فتح ومع المنظمة الأم وهي منظمة التحرير الفلسطينية.
** إن الهجرات العربية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص التي اتجهت إلى دول أمريكا اللاتينية شهدت طفرة كبيرة في أعقاب حرب 1948م، وبالتالي تكونت في هذه الدول جاليات عربية تعدت حاليًا العشرين مليون نسمة وخاصة في البرازيل وشيلي، وقد كان لذلك تأثيرًا واضحًا في المجال السياسي والاقتصادي وحتى الثقافي داخل تلك الدول مما ساهم في أن يكون لها مواقف إيجابية تجاه القضية الفلسطينية في كافة مراحلها.
** إن العديد من دول أمريكا اللاتينية انضمت إلى حركة عدم الانحياز بعد تأسيسها في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي وبالتالي تبنت نفس مواقف الحركة التي عارضت مبدأ احتلال الأراضي بالقوة وطالبت بحق تقرير مصير الشعوب والحفاظ على سيادة الدول وتحريم التهديد باستخدام القوة، ومن المعروف أن القضية الفلسطينية مثلت أهم القضايا التي حظيت باهتمام خاص في سياسات دول عدم الانحياز.
** إن الطموحات الاقتصادية لبعض دول أمريكا اللاتينية دفعتها إلى البحث عن مجالات خارجية للاستثمار والتنمية الاقتصادية ومن ثم جاءت المنطقة العربية ومنطقة الخليج العربي بصفة خاصة لتكون بمثابة أحد المجالات الحيوية للانطلاق الاقتصادي لهذه الدول سواء من خلال العلاقات الثنائية أو من خلال التكتلات الاقتصادية (البرازيل – شيلي – المكسيك – فنزويلا -....) الأمر الذي عكس بالتأكيد تأثيرات سياسية على مواقف هذه الدول من القضية الفلسطينية.
** إن التغييرات الحادة في طبيعة العلاقات الدولية مؤخرًا فرضت على دول أمريكا اللاتينية أن تنهى حالة العداء ثم التحفظ في علاقاتها مع إسرائيل بل اتجهت إلى الانفتاح عليها إدراكًا منها أن المعادلة الدولية تقتضي أن تكون هناك علاقات طبيعية بينها وبين إسرائيل حتى تحظى بالدعم الأمريكي المناسب.
*** وقد شكلت دول أمريكا اللاتينية كتلة تصويتية هامة ومؤثرة في الأمم المتحدة لصالح القضية الفلسطينية على مدار تطورات مراحل القضية منذ نشأتها وحتى الآن الأمر الذى كان له أهمية خاصة في حسابات وتحركات الجانبين العربي والإسرائيلي تجاه هذه الدول، ولابد من الإشارة هنا ليس فقط إلى أول القرارات التي صوتت معظم الدول اللاتينية عليها ( قرار تقسيم فلسطين عام 1947م، والذى صوتت لصالحه 13 دولة لاتينية من أصل 20 دولة آنذاك) ولكن لابد من الإشارة أيضًا للتطورات الأخيرة الهامة في عملية التصويت حيث أن هذه الدول صوتت لصالح انضمام دولة فلسطين إلى منظمة اليونسكو عام 2011م، كما صوتت لصالح أهم القرارات في التاريخ الحديث للقضية وهى اعتبار فلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة عام 2012م، NON MEMBER STATE, وكذا تأييد رفع العلم الفلسطيني على مقر الأمم المتحدة مؤخراً , ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن دولة كوبا استضافت في فبراير من العام الحالي 2016م، اجتماعًا موسعًا للسفراء الفلسطينيين في دول أمريكا اللاتينية، ومن المعروف أن مواقف كوبا من القضية الفلسطينية تعد مواقف متقدمة للغاية
*** ومن الضروري هنا أن نلقي الضوء على مواقف دول أمريكا اللاتينية من القضية الفلسطينية، فقد حرصت هذه الدول على أن تبلور مواقفها تجاه القضية الفلسطينية بل والصراع العربي/ الإسرائيلي بشكل واضح وذلك من خلال أهم المبادئ الرئيسية التالية:
** حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
** ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية والفلسطينية التي احتلتها في حرب 1967م، (الجولان – الضفة الغربية – القدس الشرقية) وتنفيذ مبدأ الأرض مقابل السلام مع معارضة سياسة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة.
** أن أفضل حل للقضية الفلسطينية يتمثل في تحقيق حل الدولتين TWO STATE SOLUTION بمعنى إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة تعيش في أمن وسلام واستقرار بجوار دولة إسرائيل.
** وجوب تطبيق مقررات الشرعية الدولية لحل هذه القضية مع تأييد كافة المبادرات السياسية المطروحة للحل (مقررات مؤتمر مدريد للسلام عام 1991م، وما تمخض عنه من نتائج – اتفاقات أوسلو عام 1993م-خريطة الطريق التي أعلنتها الرباعية الدولية عام 2003م – مبادرة السلام العربية التي اقترحتها قمة بيروت عام 2002م).
*** وحتى يكون تفهمنا كاملاً لموقف هذه الدول تجاه القضية الفلسطينية، يجب التعرض إلى طبيعة العلاقات العربية/ اللاتينية وتطورات وأبعاد هذه العلاقة وهي علاقات يمكن توصيفها بأنها علاقات جيدة إلى حد كبير وكانت لها أبعاد تاريخية خاصة بعد الثورة المصرية في 23 يوليو 1952م، ودور مصر في هذا الوقت في دعم حركات التحرر الوطني في العالم، والمواقف الإيجابية التي اتخذتها بعض هذه الدول بقطع علاقاتها مع إسرائيل بعد حرب أكتوبر 1973م ( من بينها فنزويلا وكوبا وبوليفيا) وكذا وجود دولتين من أمريكا اللاتينية يحظيان بصفة مراقب في الجامعة العربية، بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية التي تطورت بين الجانبين بحيث تشير الإحصائيات إلى أنه في نهاية 2014م، ارتفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى أكثر من ثلاثين مليار دولار بعد أن كان ستة مليارات دولار عام 2005م.
*** تعاملت دول أمريكا اللاتينية بصورة متطورة مع المشكلات التي مرت بها المنطقة العربية منذ عام 2011م، وحتى الآن، وأكدت على مجموعة من المبادئ التي تتمشى في مجملها مع المواقف العربية، وفى هذا المجال نشير إلى ثلاثة مبادئ هامة حرصت دول أمريكا اللاتينية على تأكيدها وهي:
** ضرورة حل المشكلات التي تعاني منها بعض دول المنطقة في كل من ليبيا والعراق وسوريا واليمن حلاً سلميًا يحقق طموحات شعوبها ويحافظ على دولهم من الانقسام والتفتيت.
** إن استقرار منطقة الشرق الأوسط ذات الأهمية الاستراتيجية للعالم يتطلب ضرورة إخلائها تمامًا من أسلحة الدمار الشامل.
** إدانة الإرهاب في جميع صوره وأشكاله، مع الاستعداد للمساهمة الفعالة في محاربة الإرهاب.
*** ومن الضروري هنا أن نشير إلى أن التطور الفعلي في العلاقات العربية اللاتينية بدأ منذ عام 2005م، من خلال جهد برازيلي كبير أدى في النهاية إلى عقد أول قمة عربية لاتينية في البرازيل في مايو 2005م، ثم توالت ثلاث قمم بعد ذلك ( القمة الثانية في الدوحة في مارس 2009م، تم خلالها توقيع إعلان مشترك لدول مجلس التعاون الخليجي ودول المجموعة التجارية المعروفة باسم الميركوسور، ثم القمة الثالثة التي عقدت في بيرو في أكتوبر 2102م، وتم خلالها الموافقة على إنشاء بنك استثماري مشترك لتمويل المشروعات الكبيرة , ثم القمة الرابعة التي عقدت في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية في نوفمبر 2015م، والتي بلورت أسس تطوير العلاقات الثنائية في المرحلة القادمة) وقد كان لعقد هذه القمم الأربع أثر كبير في دعم العلاقات الثنائية بين الدول العربية ودول أمريكا اللاتينية في المجالات الاقتصادية والسياسية بصفة خاصة .
*** وفى الجانب المقابل لم تكن دول أمريكا اللاتينية غائبة عن التفكير الإسرائيلي الاستراتيجي حيث أدركت إسرائيل أن هذه الدول بتركيبتها السياسية وعلاقاتها العربية الجيدة ومواقفها المؤيدة للقضية الفلسطينية وكونها تمتلك كتلة تصويتية مؤثرة في الأمم المتحدة قد تكون مستعصية على النفاذ الإسرائيلي إليها، الأمر الذى دفع إسرائيل إلى القفز على طبيعة أية مواقف سياسية حتى وإن سادها الاختلاف والتعارض وتوجهت نحو التعامل الاقتصادي والتجاري والعسكري مع هذه الدول أملاً في تغيير مواقفها السياسية فيما بعد، حيث أسرعت بتقديم خبراتها وخبرائها في المجالات الزراعية والطبية والري والطاقة وتصدير البرمجيات، كما وقعت اتفاقات اقتصادية واتفاقات تجارة حرة مع بعض هذه الدول من بينها المكسيك عام 2000م، ودعمت أواصر علاقاتها الاقتصادية مع كل من شيلي وبيرو وكولومبيا، كما استثمرت وجود جاليات يهودية في بعض هذه الدول ( من أهمها البرازيل التي تعد الجالية اليهودية بها هي أكبر تاسع جالية يهودية في العالم) في تسويق المواقف الإسرائيلية لديها، بالإضافة إلى تصدير السلاح إلى هذه الدول من خلال العديد من الشركات الإسرائيلية العاملة في هذا المجال والتي لها مقار في بعض هذه الدول .
*** وارتباطًا بالمواقف السياسية لدول أمريكا اللاتينية تجاه إسرائيل نشير إلى بعض المواقف التي تعكس حرص بعض هذه الدول على علاقاتها مع إسرائيل ولكن دون الخروج على ما يمكن أن نسميه (الإجماع اللاتيني) تجاه القضية الفلسطينية فقد نقلت كل من كوستاريكا والسلفادور سفارتيهما من تل أبيب إلى القدس ( عامي 1982 و1986م، على التوالي) مخالفين بذلك موقف المجتمع الدولي إلا أنه في ظل الموقف العربي المعارض وقطع بعض الدول العربية علاقتها مع هاتين الدولتين، تراجعت الدولتان عن قرارهما وتم إعادة نقل السفارتين إلى تل أبيب في عام 2006 م، كما أن هناك دول مثل فنزويلا سبق وأن قامت بقطع علاقاتها مع إسرائيل بعد حرب إسرائيل على قطاع غزة عام 2009م، بالإضافة إلى قيام البرازيل بسحب سفيرها من إسرائيل لفترة احتجاجًا على العمليات العسكرية تجاه قطاع غزة عام 2014م، ثم رفضها تعيين الإسرائيلي (دانى دانون) سفيرًا لبلاده في برازيليا نظرًا لسابق توليه منصب رئيس مجلس المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية مما أجبر تل أبيب على سحب ترشيحه ونقله للعمل في دولة أخرى دون تعيين سفير لها هناك حتى الآن، ومن المهم أن نشير في هذا المجال إلى أن هناك العديد من دول أمريكا اللاتينية قامت بفتح سفارات لها في مدينة رام الله بالضفة الغربية .
*** وفى الإطار نفسه تحظى العلاقات الإسرائيلية/ الكوبية بخصوصية معينة حيث أن العلاقات الكوبية/ الفلسطينية شهدت طفرة كبيرة خاصة مع تولي فيدل كاسترو الحكم في هافانا وتأييده التام للمواقف الفلسطينية بما في ذلك عمليات المقاومة، وتم قطع العلاقات الدبلوماسية بين كوبا وإسرائيل منذ عام 1973م، وحتى الآن، ولكن حدثت مؤخرًا بعض التطورات الهامة التي قد يكون لها تأثير إيجابي في اتجاه استئناف العلاقات الكوبية الإسرائيلية وأعني بذلك عودة العلاقات الأمريكية / الكوبية وإدراك هافانا أن تنشيط هذه العلاقات والحصول على دعم اقتصادي أمريكي لابد أن يمر من خلال اللوبي اليهودي الذى سوف يدفع ويضغط في اتجاه عودة العلاقات الدبلوماسية بين تل أبيب وهافانا .
*** إذًا فمن الواضح أن إسرائيل نجحت في أن تجد لها موقعًا جيدًا لدى دول أمريكا اللاتينية التي حرصت من جانبها على أن يكون موقفها متوازنًا إلى حد كبير في العلاقة مع الجانبين العربي والإسرائيلي نظرًا لأنها في حاجة لاستمرار هذه العلاقة المزدوجة من منطلقين رئيسيين، المنطلق الأول أنها في حاجة إلى الاستفادة من العلاقات الاقتصادية مع الدول العربية وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي وتفعيل نتائج القمم المشتركة، والمنطلق الثاني أن دول أمريكا اللاتينية على قناعة كاملة بأن علاقاتها مع إسرائيل تعد بمثابة المدخل الرئيسي لإقامة علاقات طبيعية بين هذه الدول والولايات المتحدة الأمريكية.
*** وفى ضوء ما سبق فلا شك أن دول أمريكا اللاتينية لعبت دورًا واضحًا في دعم القضية الفلسطينية وإن كان قد حدث قدر من التراجع النسبي في طبيعة هذا الدور ارتباطاً بالتحركات الإسرائيلية والأمريكية مع هذه الدول من ناحية، وحرص هذه الدول على تأمين مصالحها من خلال مبدأ التوازن في العلاقات مع كافة الأطراف من ناحية أخرى، وبالتالي قد يكون من المفيد استمرار التوجه العربي النشط نحو تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول أمريكا اللاتينية ، مع العمل على وضع الأسس التي يتم التوصل إليها في القمم العربية / اللاتينية موضع التنفيذ قدر المستطاع لاسيما في الجوانب الاقتصادية، بالإضافة إلى أهمية توحيد الرؤية العربية تجاه القضية الفلسطينية والتحرك تجاه الدول اللاتينية برؤية واحدة عملية ومقنعة وقابلة للتنفيذ حتى نضمن التأييد التام من جانب هذه الدول لأي تحرك عربي قادم في هذه القضية العربية المحورية.