ضمن خياراتها الأمنية أولت دول الخليج العربي كدول صغرى ومتوسطة الشراكات الاستراتيجية مع القوى الكبرى والمنظمات الدفاعية أهمية بالغة بالنظر لدور تلك القوى في الحفاظ على التوازن الإقليمي من خلال تلك الشراكات، وضمن هذا الإطار يجئ هذا الكتاب الذي يتناول تقييم مبادرة إسطنبول التي أطلقها حلف شمال الأطلسي "الناتو" عام 2004م، للشراكة الأمنية مع دول الخليج العربي لمؤلفه الدكتور أشرف محمد كشك والكتاب هو الترجمة العربية للنسخة الإنجليزية التي صدرت عن دار النشر العالمية سبرنجر عام 2021م، بعنوان NATO and the Gulf Countries
An Analysis of the Fiftee Year Strategic Partnership
وقبيل الخوض في محتويات الكتاب تجدر الإشارة إلى أن المؤلف اعتمد على تحليل العديد من الوثائق التي صدرت عن حلف الناتو وكذلك المراجع المهمة بالإضافة لخبرة المؤلف في المؤسسات الأكاديمية للحلف على مدى عشر سنوات من خلال الاحتكاك المباشر بالعناصر المدنية والعسكرية من مسؤولي الحلف ومن ثم التعرف عن قرب عن مضامين سياسات الحلف وآليات تنفيذها، من ناحية ثانية يعد المؤلف أول من تناول مبادرة إسطنبول في أطروحته للدكتوراه من جامعة القاهرة عام 2009م، ومن ثم فإن الكتاب ارتكز على تراكم علمي لدى المؤلف، وأخيراً خبرة المؤلف في مجال دراسات أمن الخليج العربي التي امتزجت بخبرته لدى مؤسسات حلف الناتو لإنتاج هذا العمل الفكري باللغتين الإنجليزية والعربية.
يبدأ الكتاب بعرض نشأة حلف الناتو وتطور أدواره من خلال الإشارة إلى أنه بالرغم من أن حلف الناتو تأسس عام 1949م، بين 12 دولة من خلال ميثاق تكون من ديباجة و14 مادة أهمها على الإطلاق المادة الخامسة والتي تتضمن أن أي هجوم على إحدى دول الحلف يعد هجوماً على كل الدول الأعضاء بما يستوجب الرد الجماعي،فإن الحلف كان موجوداً حتى قبل هذا التاريخ من خلال التحالف بين بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، ومع أن المعيار الجغرافي هو المحدد لأعضاء الحلف من أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية فإن البعد الاستراتيجي أيضاً كان حاضراً عند تأسيس الحلف، حيث يضم في عضويته دولتين بعيدتين جغرافياً عن تلك الدول وهما تركيا واليونان بما يعنيه ذلك من أن الهدف من تأسيس الحلف أيضاً كان تطويق الاتحاد السوفييتي خلال حقبة الحرب الباردة، كما يناقش الكتاب التكييف القانوني للحلف فالناتو يجسد مفهوم المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تتيح للدول فرادى وجماعات حق الدفاع عن نفسها،ويتناول الفصل كذلك هيكل الحلف والذي يضمن مجلس الحلف ولجنة تخطيط الدفاع وكذلك اللجنتان العسكرية والسياسية،وعلى الرغم من أن مجال عمل الحلف هو أراضي دوله الأعضاء إلا أن حقبة الحرب الباردة وما تلاها من تطورات أجازت للحلف التدخل عسكرياً خارج أراضيه ومن ذلك البوسنة والهرسك 1995م ، وكوسوفو 1999م، أفغانستان 2002م، وليبيا 2011م، فضلاً عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، والتي كانت مثار جدل بين الولايات المتحدة والحلف حيث رأت الإدارة الأمريكية آنذاك أن الحلف لم يقدم ما يكفي من دعم للولايات المتحدة في أعقاب تلك الاعتداءات الأمر الذي حدا بالحلف القيام بثمانية إجراءات منها نشر قوات بحرية دائمة تابعة للحلف في شرق المتوسط"المسعى النشط" لتفتيش السفن التي يشتبه بأنها تحمل جماعات إرهابية أو تقوم بعمليات تهريب وقد تم تغيير مسماها عام 2016م ليصبح "حارس البحر "ولاتزال تعمل حتى الآن،وفي أعقاب انتهاء حقبة الحرب الباردة عام 1990م انتهج الحلف سياسات توسعية لضم أعضاء جدد من دول الاتحاد السوفيتي السابق وفق برنامج الشراكة من أجل السلام والذي تضمن شروطاً حددها الحلف للدول الراغبة في نيل عضوية الحلف وقد بلغ عدد أعضاء الحلف حتى الآن 32 دولة، فضلاً عن إصدار الحلف مفهوماً استراتيجياً كل عشر سنوات عبارة عن مراجعة أمنية للبيئة العالمية وسبل مواجهة تهديدات دوله الأعضاء.
وضمن هذه السياسات لم تكن المنطقة العربية والخليج ببعيدة عنها فقد أطلق الحلف مبادرة الحوار المتوسطي مع 7 دول من حوض البحر الأبيض المتوسط وهي مصر، والأردن، وإسرائيل وتونس ،والجزائر، والمغرب، وموريتانيا ويستهدف إجراء حوارات دورية بين الحلف وممثلي تلك الدول ثنائياً وجماعياً من مستويات مختلفة حول أبرز التهديدات الأمنية وسبل مواجهتها ثم مبادرة إسطنبول والتي أطلقها الحلف عام 2004م، وانضمت إليها أربع دول خليجية وهي: الإمارات، والكويت، والبحرين، وقطر فيما بقيت كل من السعودية وعمان خارج تلك المبادرة، وبشكل مختصر تتضمن المبادرة ستة مجالات اختيارية وللدول الشريكة حرية اختيار ما تراه مناسباً لها وهي تقديم استشارات في مجال الإصلاحات الدفاعية،تشجيع التعاون العسكري- العسكري، مكافحة الإرهاب من خلال تبادل المعلومات والمساهمة فيما يقوم به الحلف لمكافحة أسلحة الدمار الشامل،تشجيع التعاون في مجال أمن الحدود، تشجيع التعاون في مجال التخطيط لحالات الطوارئ المدنية، وقد ارتكزت المبادرة على مبادئ منها تكاملها مع المبادرات الدولية الأخرى في المنطقة وعدم التعارض معها،التركيز على المنافع المشتركة والمبادرات العملية التي يمكن للحلف تقديم قيمة مضافة فيها،ولاتتيح المبادرة للدول الشريكة الانضمام لعضوية الحلف،وتنتهج مبدأ الكل +1 أي مايقدمه الحلف يكون لكل دولة على حدة وليس بشكل جماعي وذلك من خلال برامج الشراكة والتعاون الفردي بين الحلف وكل دولة خليجية بشكل منفرد، وقد رحبت الدول الخليجية الأربع بتلك الشراكة وكان مجمل التصريحات الرسمية أن تلك الشراكة تدعم الأمن في الخليج العربي بالنظر لخبرات الناتو ولكونه أيضاً يضم في عضويته دولاً كبرى لها شراكات أمنية مع دول الخليج العربي، إلا أن سلطنة عمان رفضت الانضمام لتلك المبادرة انطلاقاً من سياسة الحياد التي تنتهجها، بينما رأت المملكة العربية السعودية ضرورة إبعاد المنطقة عن التحالفات.
وخلال السنوات التي تلت انضمام دول الخليج العربي الأربع للمبادرة أسفرت عن تعاون أمني بين تلك الدول والحلف من خلال توقيع الدول الأربع اتفاقيات بشأن تبادل المعلومات،فضلاً عن اتفاقية المعابر بين الحلف ودولة الكويت عام 2017م، والتي تتضمن عبور قوات الناتو عبر الكويت لدول أخرى شريطة ألا تستخدم تلك القوات لدعم هجوم عسكري ينطلق من الأراضي الكويتية، وكذلك إجراء مناورات بين الحلف ودول المبادرة عام 2008م، استضافتها دولة الكويت، ومع أهمية مجالات التعاون تلك فقد كان للأمن الناعم نصيب كبير فخلال الفترة من عام 2009 وحتى عام 2020م، عقدت كلية الدفاع بحلف الناتو دورات دراسية بعضها استغرق ستة أشهر والبعض الآخر شهرين ونصف تضمنت تقديم محاضرات في كافة القضايا ذات الصلة بالأمن الإقليمي لدول الخليج العربي شارك فيها أكثر من 600 مشارك من دول الحلف ودول الخليج أعضاء المبادرة مدنيين وعسكريين بالإضافة لمشاركين من كل من عمان والسعودية بالرغم من كونهما لايزالا خارج المبادرة وقد أتاح ذلك الالتقاء المباشر التأسيس لفهم مشترك لواقع البيئة الأمنية وكيفية العمل معاً لمواجهة تهديداتها.
وقد واصل الحلف اهتمامه بمنطقة الخليج العربي من خلال الزيارات رفيعة المستوى وكذلك من جانب دول الخليج لمقر الحلف ومؤسساته التعليمية وتوج ذلك التعاون بافتتاح الحلف المركز الإقليمي لحلف الناتو ومبادرة إسطنبول في الكويت عام 2017م، والذي يضطلع بتقديم دورات تدريبية في مجالات أمن الطاقة والأمن السيبراني والأمن البحري وإدارة الأزمات.
ومع أهمية استفادة دول الخليج العربي من مبادرة إسطنبول على النحو المشار إليه يقدم الكتاب مقترحات أخرى منها إمكانية استفادة دول الخليج العربي من العقيدة الدفاعية للحلف سواء من حيث كيفية هيكل القوات المسلحة التابعة للحلف والتي تضم قوات الرد السريع والدفاع الأساسية وقوات التعزيز، فضلاً عن ضرورة استجابة الحلف لتلبية الاحتياجات الأمنية الراهنة لدول الخليج العربي وخاصة في مجالات الأمن البحري والأمن السيبراني وإدارة الأزمات والكوارث البحرية.
واستهدف مؤلف الكتاب تقديم تحليل استراتيجي للإطار الإقليمي الأوسع لعمل الحلف من خلال تخصيص فصل كامل تضمن تهديدات الأمن البحري والتهديدات الإيرانية وتجربة حلف الناتو في دعم قوات الأمن العراقية وكذلك مكافحة الإرهاب وصولاً إلى أمن الطاقة وهي مجالات لم تكن ضمن مبادرة إسطنبول التي اتسمت بنودها بالعمومية بما يعنيه ذلك من أن الإطار الإقليمي يعد جزءًا لا يتجزأ من أمن الخليج العربي الذي يجب أخذه بالاعتبار من جانب الحلف مستقبلاً.
كما تضمن الكتاب تحليل معوقات تطور التعاون بين حلف الناتو ودول الخليج العربي أعضاء مبادرة إسطنبول وهي طبيعة المبادرة ذاتها والتي تحول دون تقديم الحلف مساعدة أمنية عاجلة لأي دولة شريكة بسبب المادة الخامسة التي تنص على دعم الدول الأعضاء فقط،بالإضافة للطابع الفردي للمبادرة التي تنهض على مبدأ الكل+1 بما يحول دون حدوث تكامل أمني بين دول الخليج العربي في علاقتها مع الحلف، من ناحية ثانية فإن لدول الخليج شراكات أمنية متميزة مع الدول الكبرى في الحلف وهو مايثير تساؤلات حول حدود الالتقاء والتعارض بين التزامات دول الخليج ضمن المسارين،ومن ناحية ثالثة الجدل حول تدخل حلف الناتو عسكرياً خارج أراضيه ،صحيح أنه كانت هناك حالات منها ليبيا عام 2011م، ولكن الحلف يرى أنه حصل على تفويض أممي لذلك،ومن ناحية رابعة يواجه الحلف عدة تحديات سواء على صعيد التزام دوله الأعضاء بإنفاق نسبة 2% من الناتج القومي الإجمالي على الدفاع في الحلف وأيضاً الحرب الأوكرانية وغيرها من التحديات التي ربما تحد من دور فاعل للحلف تجاه منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط عموماً.
وقد خلص الكتاب لعدة نتائج مهمة منها أن حلف الناتو وإن ارتبط وجوده بالصراع بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي خلال حقبة الحرب الباردة فإن انهيار الاتحاد السوفيتي قد حدا بحلف الناتو تغيير استراتيجيته سواء في مناطق العمل، أو أسلوب الشراكات ليتحول إلى لاعب دولي مهم في مناطق مختلفة من العالم، أيضاً استفادة دول الخليج العربي من المبادرة ليس على الصعيد العسكري البحت وإنما من خلال ما قدمه الحلف من مفهوم القيمة المضافة للأمن من خلال دعم قدرات دول الخليج العربي عبر البرامج الدراسية والدورات التدريبية وكذلك تقديم الاستشارات ولكن بالإمكان تعظيم الفائدة من تلك المبادرة مستقبلاً كما أشار الكتاب لذلك تفصيلاً، وعلى صعيد تهديدات الأمن الإقليمي فعلى الرغم من أنها لم تغب عن اهتمامات الحلف ولكن ربما لم ينخرط الحلف لمواجهة تلك التهديدات بشكل مباشر ومنها الأمن البحري ومواجهة التهديدات الإيرانية بالنظر لسياسة الحلف التي تقوم على مفهوم الردع أكثر منها المواجهة العسكرية المباشرة،وأخيراً يقترح مؤلف الكتاب لتطوير مبادرة إسطنبول بحيث تتضمن ضمانات أمنية لدول الخليج العربي في ظل تهديدات التكنولوجيا العسكرية الراهنة على سبيل المثال ، بالإضافة لتغيير مبدأ تعاون الحلف مع دول الخليج العربي بأن يكون الكل مقابل الكل.
وأخيراً الكتاب هو مساهمة متواضعة لتأسيس حوار فكري حول سياسات الناتو تجاه منطقة الخليج العربي من خلال مبادرة إسطنبول والتي أثارت-ولاتزال-الكثير من الجدل حول توقيت إطلاقها والهدف منها وهو تساؤل يجب أن يكون محل اهتمام بعد مرور عشرين عاماً على إطلاق الحلف لتلك المبادرة.