انسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 8 مايو 2018م، من الاتفاق النووي مع إيران واصفًا إياها بـ"الراعي الرئيسي للإرهاب" والمسؤولة عن تغذية النزاعات بالشرق الأوسط. تلا ذلك إعادة فرض عقوبات اقتصادية بما في ذلك عقوبات تصدير النفط. ودخل القرار حيز التنفيذ في 5 نوفمبر 2018م، لمنع إعفاء 8 دول سمح لهم باستيراد النفط لمدة 180 يومًا انتهت في 2 مايو 2019م.
كانت الهند إحدى هذه الدول التي تمكنت بموجب الإعفاء من شراء نحو 300 ألف برميل يوميًا من النفط الإيراني، وبانتهاء المهلة وجدت نفسها في موقف صعب، فمن جهة تعد شريكًا استراتيجيًا للولايات المتحدة ولا ترغب في خسارتها أو استعدائها، ومن جهة أخرى يربطها بطهران علاقات ومصالح اقتصادية تسعى للحفاظ عليها.
وجدت الهند نفسها أمام وضع مشابه لوضعها قبل توقيع الاتفاق النووي عام 2015م، حيث اضطرت للتعامل مع الضغط الأمريكي، بجانب تأمين مصالحها مع طهران، لكن في ظل وجود ترامب الذي اتبع نهجًا صارمًا ضد إيران يبدو الأمر أكثر صعوبة.
في ظل هذه التناقضات، حاولت نيودلهي الالتفاف على العقوبات الأمريكية بطرق عديدة من قبيل محاولة استخدام عملتها الروبية في دفع مستحقات النفط، واقتراح المقايضة أي النفط مقابل السلع غير الخاضعة للعقوبات.
تثير هذه المحاولات عدد من التساؤلات حول أهداف المساعي الهندية لتجاوز آثار العقوبات الأمريكية، والآليات الأخرى التي قد تتبعها في هذا المسار، وما إن تم تجاوز الأزمة، هل يعني ذلك بداية لآفاق جديدة من العلاقات الهندية ــ الإيرانية أم أن الأمر لا يخلو من تحديات؟
أولًا: التقارب الهندي الإيراني: مصالح مشتركة
تفاوتت المراحل التي مرت بها العلاقات الهندية ـ الإيرانية بين التقارب والتباعد، لكن المصالح المشتركة بين البلدين كانت دافعًا قويًا لاستمرار التعاون. فإيران واحدة من أكبر ثلاثة موردين للنفط الخام إلى الهند، واحتلت المركز الثالث بعد العراق والسعودية، فيما تمثل الهند ثاني أكبر مشترٍ للنفط الإيراني بعد الصين.
صحيح أن العقوبات الدولية المفروضة على طهران قبل توقيع الاتفاق النووي أثرت على التعاون بينهما حيث تراجعت الهند من المرتبة الثانية إلى المرتبة السابعة بنهاية 2013-2014م، إلا أنه مع توقيع الاتفاق، عادت نيودلهي لتحتل المركز الثاني فيما احتلت طهران المركز الثالث كمصدر للهند مجددًا. (1)
ارتفع حجم التجارة الثنائية بين الجانبين فبلغت عام 2016-2017م، نحو 12.89 مليار دولار، فيما كان معدل التجارة بينهما عام 2018-2019م، نحو 12.11 مليار دولار. (2) وبالرغم من فرض ترامب عام 2018م، عقوبات على النفط الإيراني، إلا أنه منح الهند إلى جانب دول أخرى، إعفاءات تسمح لها استيراده لستة أشهر، لتشتري الهند 300 ألف برميل يوميًا من النفط الإيراني. (3)
كذلك شكل ميناء تشابهار جنوب شرق إيران جانبًا مهمًا في علاقات البلدين. فمن خلاله يمكن للهند أن تكون جزءًا من اقتصاد آسيا الوسطى، إذ يمنحها الفرصة للارتباط بممرّ النقل الدولي من الشمال إلى الجنوب، وهو مشروع مشترك برئاسة الهند وروسيا وإيران لتعزيز توصيل البنية التحتية من روسيا عبر إيران إلى المحيط الهندي. وعند الانتهاء منه ستتمكّن الهند من تعزيز وصولها إلى آسيا الوسطى وإلى روسيا وأوروبا. وعبر تشابهار أيضًا يمكن للتجارة الهندية تفادي المرور بباكستان، وموازنة مشاريع الموانئ القريبة التي تسيطر عليها الصين مثل ميناء جوادار (4)
بلغت استثمارات الهند في الميناء نحو 500 مليون دولار، لكن المبلغ لم يذهب هباءً، إذ بدأت شركة موانئ الهند العالمية في تطويره بعد أن منحتها إدارة ترامب، استثناءً لتتمكن من الاستثمار في المشروع، وبالفعل قامت طهران في فبراير 2018 بتأجير الميناء للهند لمدة 18 شهر. (5)
وعلى الجانب السياسي سعت الهند إلى توظيف طهران في الاستراتيجية التنافسية التي تتبعها تجاه الصين، عبر استقطابها لمواجهة المخططات الصينية المتعلقة بإنشاء سلسلة من الشراكات الممتدة من آسيا إلى الشرق الأوسط وأوروبا من خلال مبادرة الحزام والطريق. (6)
في المقابل جاءت الجهود الإيرانية لتعزيز التعاون مع الهند ضمن محاولاتها المستمرة لتفادي العزلة الدولية، حيث وجدت طهران بها بديلًا يمكن الاعتماد عليه في جذب الاستثمارات، وتوفير السلع والخدمات التي قد يصعب الحصول عليها من الأسواق الأوروبية.
ثانيًا: التصعيد الأمريكي ضد إيران وتأثيره على الهند
أثرت العقوبات الأمريكية على طهران، حيث وصلت نسبة الانكماش في اقتصادها إلى نحو 6%، وبلغ معدل التضخم 51.4%، كما انخفضت صادرات الطاقة الإيرانية بنحو الثلث من ذروتها في يونيو 2018م. وامتد الأمر إلى السوق الإيرانية، فبدأت الهجرة الجماعية للشركات الأجنبية، خوفًا من فقدان سوقها الأمريكية الأكثر أهمية، وهو ما حدث مع شركة "توتال" الفرنسية حينما تراجعت عن تطوير حقل بارس الجنوبي. (7)
لم يقتصر الأمر على إيران، إذ امتد تأثيره إلى الهند. فاقتصاديًا، دفعت العقوبات الهند نحو تخفيض وارداتها من النفط الإيراني ما يعني فقدانها الميزة التنافسية التي تتميز بها حيث تمنحها طهران فترة سماح تصل إلى 60 يومًا لتسديد أثمان مشترياتها، وهي ضعف الوقت الذي يمنحه المنتجون الآخرون. (8)
يفرض هذا على نيودلهي عبئًا ماليًا أكبر، وسيؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط ما قد يكون له تبعات سلبية. فأسعار الوقود في الهند أعلى منها في الدول المجاورة بسبب معدلات الضرائب المفروضة على المستهلكين. وخلال الفترات التي ارتفعت فيها أسعار النفط العالمية، اعتبر المستهلكون الهنود أن أسعار الوقود المرتفعة نسبيًا مبررة إلى حد كبير بمثل هذه الظروف، لكن اليوم في ظل ارتفاع الأسعار من المُحتمل أن يضع الحكومة الهندية تحت ضغط تخفيف العبء على المستهلكين أو مواجهة الضغوط الشعبية (9).
وسياسيًا، تُشكل العقوبات تحديًا في إدارة الهند لعلاقاتها مع واشنطن، فالخضوع التام للضغط الأمريكي لا يتوافق مع سعي الهند لسياسة خارجية مستقلة، وفي الوقت ذاته إذا استمرت في شراء النفط الإيراني، فمن المُحتمل أن يؤثر ذلك على علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
ثالثًا: محاولات الهند للالتفاف على العقوبات الأمريكية
أثارت العقوبات الأمريكية غضب الهند، ولكن المخاوف التي فرضتها جعلتها مترددة، ودفعت العديد من شركات التكرير الهندية، مثل شركة "تشيناي" للبترول للتوقف عن شراء النفط الإيراني. ما تكرر مع القطاع المالي والبنوك وخاصة بنك الدولة الهندي الذي امتنع عن التعامل مع المدفوعات المتعلقة بالنفط الإيراني، ما أدى إلى انخفاض واردات الهند النفطية إلى نحو 523 ألف برميل يوميًا في أغسطس 2018م، بتراجع 32% عن الشهر السابق. (10)
حاولت الهند معالجة هذا التراجع عبر آليات عدة مثل الاتفاق مع طهران مع بدء فرض العقوبات في نوفمبر 2018م، على دفع مستحقات النفط بالروبية الهندية. وبموجب هذه الآلية يمكن لطهران استخدام الروبية في الحصول على سلع غير خاضعة للعقوبات مثل الغذاء والدواء من الهند، عبر بنك UCO أو IDBI نظرًا لأن البنكين ليس لهما تعاملات في الولايات المتحدة. (11)
وبعد انتهاء مدة الإعفاءات في مايو 2018م، اقترحت الهند على طهران مقايضة السلع، حيث أكد السفير الهندي في إيران، غودارد دارمندرا، أنه "في ظل المشاكل المصرفية بين الهند وإيران، من الأفضل أن يواصل البلدان التجارة بالمقايضة". (12)
رابعًا: مسارات القرار الهندي
رغم هذه المحاولات للحفاظ على تدفقات النفط، إلا أن نيودلهي تدرك جيدًا أنها ليست كافية للتغلب على العقوبات. ما دفعها لطرق موازية لتنويع مصادر النفط والحصول على إمدادات بعيدة عن النفط الإيراني. (13) ومن المحتمل أن تعتمد تلك الطرق على ثلاثة مسارات متوازية:
(1) الاتجاه نحو مصادر نفط بديلة عن طهران: يأتي في مقدمتها السعودية والإمارات، اللتان تعمقت علاقاتهما مع الهند؛ بخلاف الولايات المتحدة، وهي مصدر جديد نسبيًا للواردات للهند. ولعل أحد أبرز المؤشرات بهذا الصدد، الاتفاق بين شركة "ريلاينس" الهندية وشركة "أرامكو" السعودية، على شراء الأخيرة لنحو على 20% من أنشطة النفط والكيماويات للشركة الهندية. فبموجب هذا الاتفاق المبدئي ستزود "أرامكو" مصفاة "ريلاينس" بنصف مليون برميل يوميًا.
(2) عدم إلغاء جميع واردات النفط الإيراني: تسعى الهند للإبقاء على كمية من وارداتها من النفط ودفع مستحقاتها بالروبية أو المقايضة. الأمر الذي يدعمه تأكيد وزير البترول دارميندرا برادان بأن "الهند ربما تكون مستعدة لخفض إضافي لواردات النفط من إيران، لكنها ليست مستعدة للتوقف التام". (14)
(3) التفاوض مع الولايات المتحدة: لتفهم موقفها والحصول على إعفاء جديد مراعاة للشراكة الاستراتيجية بينهما والدور الجديد الذي اكتسبته نيودلهي في منطقة المحيط الهادئ كقوة موازنة مقابل الصين، ويتضح ذلك من إظهارها الامتثال للعقوبات تجنبًا لنشوب خلافات بينهما.
مع هذا لا يخلو الأمر من تحديات، حيث إن احتمال منح إدارة ترامب الإعفاء مرة ثانية أمر صعب لأنها تدرك وجود ما يكفي من النفط في السوق الدولية وتريد ممارسة أقصى ضغط على طهران لتغيير سلوكها (15)
ورغم هذه المسارات، إلا أن الأمر سيتوقف بالنهاية على موقف الإدارة الأمريكية من طهران، إلى أي مدى سيصل التصعيد ضدها، وإلى أي مدى يمكن أن تستمر طهران في مواجهة هذا التصعيد في ظل وضعها الاقتصادي المتأزم.
والأمر المُحتمل هنا، أن تستمر طهران في اتباع سياسة النفس الطويل ومحاولة الصمود بوجه التصعيد الأمريكي حتى الانتخابات الأمريكية المقبلة ٢٠٢٠م. على أمل وجود رئيس من الديمقراطيين يمكن البدء معه في تفاهمات أقل حدة. (16)
لكن إذا لم يأت ذلك الرئيس وفاز ترامب مجددًا، أو جاء رئيس له نفس النهج، فحينها ستضطر طهران للتنازل والتفاوض معه لتخفيف التصعيد والحصار الاقتصادي مقابل تلبية بعض مطالبه الخاصة بتقليص دورها الإقليمي بالمنطقة وتدخلها بشؤونها الداخلية.
سيعتمد الأمر أيضًا على مدى ثبات أو تغير مواقف الدول الداعمة لطهران، التي عادة تتوقف على علاقاتهم بالولايات المتحدة. فالاتحاد الأوروبي مثلًا غير راض عن السياسات الإقليمية لطهران، ويرغب فقط في إتمام الاتفاق النووي. أما الصين، فينبع موقفها من التصعيد الذي شنته الإدارة الأمريكية ضدها وكذلك مصالحها مع إيران، لكن إذا انتهى التصعيد الأمريكي أو اختلفت مصالحها مع طهران، فسيختلف موقفها عما عليه الآن.
بصفة عامة فالمواقف الدولية حاليًا لا تنبع من عقيدة ثابتة، لكنها مواقف آنية تتغير بتغير المصالح والظروف. وهذه المواقف المتغيرة، واشتداد الخناق الاقتصادي، تشير إلى أن إيران لا تمتلك خيارات كثيرة أمام التصعيد الأمريكي، وقد تضطر للتفاوض. (17)
خامسًا: مستقبل العلاقات: تحديات وتشابكات متعارضة
التغلب على التحديات الاقتصادية في علاقات البلدين، لا يعني أنها ستأخذ مسارًا مختلفًا، فالعامل الاقتصادي لم يكن التحدي الوحيد أمامهما، وهناك تحديات أخرى تعرقل الشراكة، وتتعلق بشكل أساسي بعلاقات الهند المتنامية مع دول الخليج العربي، والولايات المتحدة وإسرائيل كذلك. هذا فضلًا عن علاقات طهران مع دول تسود بينها وبين نيودلهي سياسات تنافسية كما هو الحال في الصين، وأخرى عدائية مثل باكستان. وبصفة عامة، فأبرز التحديات بين الجانبين يمكن إيجازها كالتالي:
(1) شراكة الهند مع الولايات المتحدة
منذ توجهها إلى شرق آسيا لموازنة النفوذ الصيني المتنامي، طورت واشنطن العلاقات مع نيودلهي إلى حد الشراكة الاستراتيجية، حيث وجدت فيها حليفًا ووكيلًا لزيادة نفوذها في مواجهة التمدد الصيني. وانطلقت الشراكة بين الجانبين بمختلف المجالات، حيث ارتفعت الاستثمارات الأمريكية في الهند من 7.7 مليار دولار عام 2004م، إلى 28 مليار دولار عام 2017م، وتضاعفت التجارة الثنائية من 36 مليار دولار عام 2005 إلى 142 مليار دولار عام 2018.
عسكريًا، بدأ الاستثمار في تعزيز القوة العسكرية الهندية، عبر اتفاقيات عدة حصلت بموجبها الهند خلال السنوات الـعشر الماضية، على أكثر من 15 مليار دولار من المعدات والخدمات العسكرية الأمريكية، حتى تحولت العلاقات الدفاعية بينهما من علاقة بين المشتري والبائع إلى شراكة في التنمية والإنتاج. (18)
كما تقلصت الفجوة التقليدية بينهما بشأن باكستان، حينما قطع ترامب المساعدات العسكرية والأمنية عن إسلام أباد، ووضعها على "قائمة المراقبة الخاصة"، معتبرًا إياها مصدر تهديد لاستراتيجيته بجنوب آسيا. (19)
ستظل المكاسب الاستراتيجية التي حصلت عليها الهند عائقًا أمام تطوير التعاون مع طهران، وستدفعها إلى الحفاظ على الشريك الأمريكي، حتى لو تخللت الشراكة بعض الخلافات بشأن صفقات الدفاع الهندية مع روسيا.
(2) التوجه غربًا والتقارب الهندي المتنامي مع دول الخليج
شهدت العلاقات بين الهند ودول الخليج العربي تطورًا كبيرًا على مختلف المجالات ضمن سياسة "التوجه شرقاً" التي انتهجتها دول مجلس التعاون، و"التوجه غرباً" التي اتبعتها الهند تجاه منطقة الخليج العربي.
كان مجال الطاقة القوة الدافعة لعلاقات الجانبين بصفة عامة؛ فالهند رابع أكبر مستهلك للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة والصين واليابان، واعتمدت على دول الخليج في الحصول على 42 % من إجمالي وارداتها النفطية، وحصلت من السعودية وحدها على نحو 20% من تلك الواردات. (20) تشير بعض التوقعات إلى أن الهند قد تكون أكبر مستورد للنفط عالميًا بحلول عام 2050م، وأنها ستلبي احتياجاتها المتزايدة من الطاقة، من منطقة الخليج، لتصبح ثاني أكبر سوق للصادرات الخليجية بعد الصين. (21)
أما عن المعدل التجاري، فقد ارتفع بشكل فاق معدل التبادل التجاري بين الهند والدول الآسيوية وكذلك دول الاتحاد الأوروبي، حيث بلغ نحو 104 مليار دولار عام 2017-2018م، بزيادة 7 % عن عام 2016م، التي وصل بها إلى 97 مليار دولار، فيما بلغ بينها وبين الآسيان في الفترة ذاتها نحو 81 مليار دولار، وحوالي 102 بينها وبين الاتحاد الأوروبي. (22) كذلك وصلت العمالة الهندية بالخليج إلى ما يقرب من 7.6 مليون فرد، تركزت في السعودية (2.8 مليون) والإمارات (2.6 مليون)، ولعبت دورًا هامًا في النمو الاقتصادي للهند عبر تحويلاتها المالية التي تقدر بنحو 40 مليار دولار سنويًا. (23)
سياسيًا، يأتي التقارب الهندي المتنامي مع دول الخليج في إطار استراتيجية رئيس الوزراء ناريندرا مودي الرامية إلى تضييق الخناق على باكستان، بتوثيق التعاون مع الخليج، فضلًا عن فتح أبواب دبلوماسية أوسع إزاء الشرق الأوسط.
وأمنيًا، عززت الهند التعاون الأمني مع الخليج، عبر اتفاقيات التعاون الدفاعي المشترك مع السعودية والإمارات وقطر وعمان، فضلًا عن معاهدات أخرى خاصة بمكافحة تمويل الإرهاب، وغسل الأموال، وتسليم المجرمين. (24) ولا يمكن هنا إغفال رؤية الهند للعلاقة الخاصة بين أمن الخليج العربي وأمنها القومي، فمازالت الهند تنظر إلى الخليج على أنه امتداد حيوي لأمنها الذي يمتد من الخليج غربًا إلى بنجلاديش ونيبال شرقًا (25).
دفعت هذه العوامل الهند إلى التعامل مع دول مجلس التعاون الخليجي من منظور استراتيجي وليس منظور اقتصادي فقط، ما شكل تحديًا أمام دفع علاقاتها مع طهران إلى آفاق الشراكة الاستراتيجية.
(3) التعاون الهندي مع إسرائيل
رأت الهند في إسرائيل فرصة لتحقيق مصالحها السياسية عبر توظيفها في تطوير علاقاتها مع الولايات المتحدة، والفوز بدعم اللوبي اليهودي الأمريكي في الحصول على احتياجاتها الدفاعية، وتنويع وارداتها العسكرية. فسعت لدفع العلاقات لآفاق جديدة، عبر زيارة رسمية إلى تل أبيب قام بها مودي في يوليو 2017م، ليصبح أول رئيس حكومة هنديًا يزور تل أبيب، منذ استقلال الهند عام 1947م.
مثلت الزيارة نقطة الانطلاق نحو التطوير الحقيقي لعلاقات الجانبين، حيث ارتفع حجم التجارة بينهما من 200 مليون دولار لعام 1992م، إلى 4 مليارات دولار في 2016م، ونحو 4.13 مليار دولار عام 2018م، حسب وزارة الاقتصاد والتجارة الإسرائيلية، كما زاد التعاون العسكري بينهما وأصبحت إسرائيل من كبار موردي الأسلحة إلى الهند. (26)
لعل أحدث هذه الصفقات، شراء الهند لأنظمة صاروخية منها منظومة "باراك 8"، من شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية الحكومية، وهي الصفقة التي وقعها البلدان عام 2018م، ووصلت قيمتها إلى أكثر من نصف مليار دولار.
(4) العلاقات الإيرانية مع الصين وباكستان
ترتبط إيران بعلاقات ومصالح متشابكة مع الصين منافس الهند. وتعزز هذا الارتباط مع التصعيد الأمريكي ضد كلتا الدولتين. فبالتزامن مع هذه السياسة الصارمة التي اتبعها ترامب إزاءهما، اتجهت الدولتان لتعزيز التعاون بينهما. كان المجال التجاري أبرز مجالات التعاون، حيث ارتفع التبادل التجاري بينهما ليصل إلى 48 مليار دولار .
كانت الخطوة بمثابة ردًا واضحًا من بكين على فرض واشنطن الحزمة الجديدة من التعريفات الجمركية على وارداتها الصينية. وأعقبت تلك الخطوة بتوقيع عقدٍ تجاريٍّ مع إيران لإعادة تصميم وتجديد مُفاعل "آراك" لإنتاج المياه الثقيلة، وتعهدت بمواصلة لعب دور بنّاء لتنفيذ الاتفاق النووي ردًا على نقض واشنطن له.
أظهرت تلك الخطوات وغيرها، الدور الحيوي الذي تلعبه الصين في علاقاتها مع طهران، فقد أصبحت الحليف الذي أخد على عاتقه مهمة إنقاذها من وطأة الأزمة التي وضعتها بها الإدارة الأمريكية، واتضح ذلك في مسارعتها وإبداء اهتمامها بشراء نحو 50.1% من مشروع حقل غاز "باريس" الجنوبي البحري بمجرد انسحاب شركة "توتال" من العمل بالمشروع. (27)
سيدفع انتهاء الإعفاءات الأمريكية على النفط الإيراني، نحو مزيد من التعاون بين طهران وبكين، خاصة أن الأخيرة لم تبد أي نية لتقليص الواردات. هذا التعاون، سيظل عائقًا أمام تطوير العلاقات بين إيران والهند إلى حد الشراكة الاستراتيجية، إذ لا يعقل أن تتحالف الهند مع إيران التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الصين منافسها الرئيسي.
وإذا أضفنا إلى هذا الخلاف بينهما حول أفغانستان وعلاقة طهران مع باكستان التي ازداد العداء بينها وبين الهند مع قرار الأخيرة إلغاء الحكم الذاتي لكشمير، يبدو واضحًا أن التعاون بينهما يواجه تحديات ستحصر دوره على النطاق الاقتصادي.
ختامًا، يمكن القول إن العلاقات بين الهند وإيران مازالت تواجه تحديات سياسية كبيرة تشكل عائقًا أمام دفعها إلى آفاق التحالف أو الشراكة الاستراتيجية، لكن هذه التحديات لا تمنع نيودلهي من محاولة التقارب مع طهران لتحقيق مصالحها الاقتصادية المتعلقة بالنفط والطاقة والاستثمار في ميناء تشابهار، أو الاستراتيجية المتعلقة بتعزيز نفوذها الإقليمي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*باحثة في العلاقات الدولية ـ مصر
الهوامش
(1) Meena Singh Roy, India’s Iran Dilemma, Economic Times, April 29, 2019, https://bit.ly/2L9585B.
(2) Nagapushpa Devendra, Consolidating India-Iran Cooperation, Institute for Defense Studies and Analysis, February 14, 2019, https://bit.ly/2H0kapZ.
(3) Ibid.
(4) Hina Pandey, India-iIran relations: beyond strategic optics, South Asian voices, April 29, 2018, https://bit.ly/2OYtjWB.
(5) مكاسب محتملة: لماذا أعفت الهند مدفوعات النفط الإيراني من الضرائب؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 08 يناير, 2019، https://bit.ly/2IvOHvP.
(6) Meena Singh Roy, India and Iran Relations: Sustaining the Momentum, Institute for Defense Studies and Analysis, May 20, 2013, https://bit.ly/2ZNYqF6.
(7) المختصر المفيد حول العقوبات الأمريكية على إيران، دويتشه فيله، 4 نوفمبر 2018، https://bit.ly/2TkzHWH.
(8) How the U.S. Is Complicating India's Relationship With Iran, stratfor, opst.
(9) Ibid.
(10) خيارات مُكَلِفة: هل تستمر الهند في شراء النفط الإيراني بعد العقوبات الأمريكية؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 14 أكتوبر 2018، https://bit.ly/2YUJweV.
(11) Meena Singh Roy, India’s Iran Dilemma, Economic Times, opst.
(12) خالد المنشاوي، تحركات هندية لكسر العقوبات الأميركية على إيران... المقايضة حل أخير، اندبندنت عربية، 8 مايو 2019، https://bit.ly/2I8M6ZR.
(13) اقتصاد الهند تؤمن مصادر بديلة بعد تخليها عن نفط إيران، العين الإخبارية، 2 مايو 2019، https://bit.ly/2Ks8yhs.
(14) Tanvi Madan, Trump tightens sanctions on Iran’s oil exports—How India will respond, brookings, April 23, 2019, https://brook.gs/2DvlrDw.
(15) Muddassir Quamar, Rising US-Iran Hostilities and Challenges for India, opst.
(16) هاني سليمان، أيام طهران الصعبة .. تأثير الأزمات على الدور الإقليمي لإيران، المركز العربي للبحوث والدراسات، 29 أبريل 2019، http://www.acrseg.org/41190.
(17) علي صلاح، هل تمتلك إيران فرصاً للصمود في مواجهة العقوبات الأمريكية؟، هسبريس، 23 سبتمبر 2018، https://bit.ly/31HeuJB.
(18) Mahrukh Khan, Growing India-US Strategic Cooperation: An Analysis, Institute of Strategic Studies, Islamabad,https://bit.ly/2YVYaGP.
(19) محمد عمر، لهذا السبب انقلبت أمريكا على باكستان وحرمتها المساعدات، إضاءات، 7 يناير 2018، https://bit.ly/2yRhHtF.
(20) Rahul Roy-Chaudhury, India and the Gulf region: building strategic partnerships, The
International Institute for Strategic Studies, August29, 2018, https://bit.ly/2UdVPln.
(21) إبراهيم غالي، التوجه غرباً: عوامل التحرك من جنوب وشرق آسيا إلى الخليج، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 28 أغسطس، 2014، https://bit.ly/31CSm2V.
(22) Rahul Roy-Chaudhury, India and the Gulf region: building strategic partnerships, opst.
(23) كديرا بثياغودا، العالقات بين الهند ودول مجلس التعاون الخليجي: فرصة استراتيجية لدلهي، مركز بروكنجز الدوحة، العدد 18، فبراير 2018، ص9، https://brook.gs/33rUOe6
(24) دينا حلمي، العلاقات السعودية- الهندية.. بين المتطلبات الاستراتيجية والمنافع الاقتصادية، السياسة الدولية، 27 فبراير 2019، https://bit.ly/2IWrbf2 .
(25) فهد مزبان خزار، الأبعاد الجيوستراتيجية لعلاقات الهند بدول مجلس التعاون الخليجي وآفاقها المستقبلية، مجلة الخليج العربي، المجلد 42، العدد 1-2، 2014، ص27، https://bit.ly/33qI0ou
(26) دينا حلمي، الهند وإسرائيل: تطبيع حذر وتناقضات على هامش المصلحة، إضاءات، 24 يناير 2018، https://bit.ly/31uYQ3D.
(27) إيران والصين في ظلّ العقوبات الأمريكيَّة، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، مرجع سابق.