بعد عدة سنوات من الجمود، شرعت كلا من الولايات المتحدة وإيران مجدداً في صياغة عمل دبلوماسي بشأن إحياء معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية لعام 2015م، والتي ألغتها إدارة الرئيس دونالد ترامب عام 2018م، بصورة أحادية. وبحسب الوضع الراهن، لن تنضم واشنطن مجددًا إلى المعاهدة إلا في حالة عودة طهران إلى الامتثال، حيث أفادت كذلك برغبتها في بحث اتفاق للمتابعة بهدف تناول برنامج إيران الصاروخي ودورها الإقليمي.
وفي المقابل، ترغب طهران في عودة واشنطن أولًا إلى الاتفاق دون إعادة التفاوض. وبطبيعة الحال، فلقد طالبت طهران بتعويضات بقيمة 1 تريليون دولار من جراء العقوبات. وتفيد بعض التقارير بأن إيران قد رفضت كذلك عرضًا من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإجراء محادثات نووية مباشرة. ومن المقرر أن يستمر هذا التأرجح بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية في يونيو 2021م، ومن الممكن أن يشهد حالة من الجمود في حال تولى أحد المحافظين منصب الرئيس القادم.
وبينما كان ولا يزال حظر السلاح النووي الإيراني أحد الأولويات التي تلقى دعمًا دوليًا واسعًا، فمن المثير للاهتمام ملاحظة النهج الصيني حيال المسألة بوصفها أحد المنافسين الدوليين للولايات المتحدة ولكونها تقف على مسافة واحدة من كافة الدول على جانبي الخليج. وجنبًا إلى جنب مع منافس الولايات المتحدة، روسيا، تدفع الصين إدارة الرئيس جو بايدن من أجل العودة الكاملة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، والتي تم توقيعها من قبل موسكو وبكين، وتتزامن رسالة بكين مع رسالة طهران ألا وهي: أن الوضع الراهن حاسم وينطوي على فرص وتحديات على حد سواء، وأن إحياء الاتفاق ورفع العقوبات هو السبيل إلى كسر الجمود.
غير أن الصين تبدي تعاوناً مع إدارة بايدن لتسهيل التوصل لاتفاق مع إيران عبر عرضها استضافة مؤتمر دولي، كما اقترحت أيضًا إنشاء منتدى إقليمي في الخليج لتعزيز الحوار متعدد الأطراف بشأن تسوية المسائل الأمنية الإقليمية. ولقد أعربت روسيا عن تأييدها العام للمقترح الصيني، وفي محادثة هاتفية تم إجراؤها في فبراير، تحلى الرئيس شي جين بينغ بالمرونة عندما أخبر الرئيس بايدن بأنه "في ظل هذا الوضع الدولي المتقلب، تحمل الصين والولايات المتحدة التزاماً ومسؤولية مشتركة بصفتهما عضوين دائمين في مجلس الأمن."
وفي مارس، أيدت الصين "عودة الولايات المتحدة غير المشروطة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة في أقرب وقت ممكن وعودتها للامتثال وإلغاء جميع العقوبات ذات الصلة، وعلى هذا الأساس، يتعين على إيران استئناف الامتثال الكامل...وتحافظ الصين على الاتصال الوثيق مع جميع الأطراف المعنية. إننا ندعم النهج التدريجي والمتبادل وسنواصل العمل مع الأطراف المعنية والمجتمع الدولي بهدف إعادة خطة العمل الشاملة المشتركة إلى مسارها الصحيح."
ومن جهته، أكد نائب وزير الخارجية، ما تشاوشو، هذه الرسالة إلى المبعوث الأميركي الخاص إلى إيران، روبرت مالي. ولقد أضافت وزارة الخارجية الصينية أنها "تقدر المسألة النووية الإيرانية تقديرًا بالغًا وتعمل بنشاط على دفع عجلة عملية التسوية الدبلوماسية وتدعم النظام الدولي لعدم الانتشار النووي فضلًا عن السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. ولقد بذلت الصين جهودًا كبيرةً ولعبت دورًا رئيسيًا في إعادة خطة العمل الشاملة المشتركة إلى مسارها الصحيح."
وفي الوقت نفسه، وبعد انسحاب إدارة ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة وفرضها عقوبات جديدة، اتجهت إيران بشكل كامل إلى الشرق عبر تعزيز التعاون الاستراتيجي مع الصين وروسيا، وبينما كانت واشنطن تطبق "أقصى قدر من الضغط" على الأنشطة الاقتصادية الإيرانية، كانت كلا من بكين وموسكو تعززان "أقصى قدر من الدبلوماسية" مع إيران. ولقد أعلنت طهران في فبراير أنها ستنضم إلى روسيا، من بين جهات أخرى، بصفتها عضوًا كامل العضوية في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
ولقد تلقت الصين ما يقرب من مليون برميل من النفط يوميًا في أوائل مارس، وهو الرقم الأكبر خلال عامين وكان ذلك بسعر مخفض. ويقف البلدان في الوقت الراهن في منتصف التفاوض على خطة تعاون شاملة مدتها 25 عامًا وتبلغ قيمتها 400 مليار دولار، وتشمل المجالات الاقتصادية ومجالات الطاقة والسياسة والأمن، وتتفاخر طهران بالاتفاق الاستراتيجي بوصفه دليلًا على عدم عزلتها، بيد أن الاختيار وقع على الصين لثلاثة أسباب على الأقل، أولًا: ترغب الصين في مواصلة عملها المتوازن في منطقة الخليج نظرًا لأن لديها علاقات جيدة بنفس الدرجة مع معظم دول مجلس التعاون الخليجي، وثانيًا: تفضل الصين إبقاء القنوات الدبلوماسية مفتوحة مع الولايات المتحدة وذلك بخصوص التعاون الثنائي وبخصوص المسائل المتعلقة باستقرار الخليج على حد سواء، وثالثًا: تقر الصين بالحاجة إلى تحقيق التوازن بين العلاقات مع خصم إيران الآخر، إسرائيل، والذي يعد أحد الشركاء الرئيسيين وقام بالتوقيع على "اتفاق إبراهيم" مع القليل من الدول العربية عام 2020م.
ونظرًا إلى جميع التعقيدات تلك، يقترح بعض المفكرين الصينيين تكتيكات دبلوماسية فريدة، بما في ذلك الوساطة من أجل الدفاع عن المصالح التجارية بدلًا من الأمنية و"إدارة" الصراع بدلًا من "حله"، وتعزيز العلاقات المتناغمة بين شركاء الصين الاستراتيجيين ومنهم هؤلاء المتواجدين في الخليج.
وتخدم تلك الأفكار غرضين: الأول، أنها تخفف النقد حول عدم اهتمام بكين بالمساهمة في استقرار الشرق الأوسط، وثانيًا، كونها تعزز المفهوم الصيني المتمثل في النهج الدبلوماسي المتوازن الذي يعتمد بدرجة أكبر على الوساطة البارعة عوضًا عن التدخل العدواني.
ويمثل الشرق الأوسط، بما في ذلك دول الخليج، جزءًا رئيسيًا من مبادرة الحزام والطريق التي تعد بالغة الأهمية لإمداد الطاقة الصينية والعلاقات التجارية مع باقي دول العالم. ولهذا، فإن الاستقرار يمثل أحد الاهتمامات الرئيسية للصين في خضم عداوات لا هوادة فيها والتي تشمل الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وإيران وتركيا، من بين جهات أخرى.
وتعزز إحدى الأفكار، "دبلوماسية شبه الوساطة"، الدفاع عن "المصالح التجارية والسياسية والدبلوماسية بدلًا من المصالح الأمنية والاستراتيجية الجوهرية."، وسوف يتضمن هذا النهج "المشاركة غير المباشرة" التي من شأنها أن تقلل من المخاطر التي قد تجابهها الصين وسط دوامة الصراعات في المنطقة. كما أن الصين "تسعى إلى إيجاد أرضية مشتركة مع الحفاظ على أوجه الاختلاف"، بما يعني إدارة الصراع بدلًا من حل الصراع، وهو النهج الذي طالما اعتمدته واشنطن.
وعلى عكس التصور الشائع، أجرت الصين "دبلوماسية وساطة" من خلال تعيين مبعوثين خاصين على صعيد عملية السلام بالشرق الأوسط والحرب السورية والسودان، كما لعبت دورًا هامًا في محادثات مجموعة 5+1 وإيران، والتي أسفرت عن خطة العمل الشاملة المشتركة. وفي واقع الأمر، قدم الرئيس باراك أوباما الشكر إلى الرئيس شي عام 2015 بعد أن حثت الصين إيران على دراسة الاتفاق عقب إعادة انتخاب أوباما عام 2012.
وتتماشى أفكار إدارة الصراع الجديدة الصينية مع التأييد الروسي للمقترح الإيراني بخصوص " معاهدة عدم الاعتداء" مع دول مجلس التعاون الخليجي في عام 2019م، والذي قد يقلل بشكل كبير من خروج خطر الصراعات عن السيطرة، وبالتالي، حماية المصالح الاقتصادية الصينية.
وبالنسبة للمشككين في المقصد الصيني، فثمة أمثلة على تعاون بكين مع واشنطن، وحتى إن كان ذلك على حساب إيران؛ ففي تسعينيات القرن الماضي، ألغت بكين عقودًا لبيع أحد المفاعلات النووية ومرفق تحويل اليورانيوم إلى إيران تحت ضغط من إدارة كلينتون. كما صوتت الصين لصالح القرار 1929 (2010)، والذي يحظر التعاون مع إيران إلى جانب الاستثمارات في الصواريخ النووية والباليستية.
وفي ضوء ذلك، فإن المصالح الرئيسية للصين في الدفع من أجل التوصل لاتفاق نووي تتمثل فيما يلي: أولًا: منع استخدام القوة ضد إيران سواء من قبل واشنطن أو تل أبيب حيث يمكن أن يسفر ذلك عن زعزعة الاستقرار الإقليمي وبالتالي الإضرار بالمصالح الصينية، وثانيًا: تعزيز دور الوساطة الصيني بوصفها عضوًا دائمًا في مجلس الأمن.
وعليه، فعلى الرغم من أن بكين تبدو منحازة لصالح إيران، إلا أنها تسعى فعليًا إلى موازنة مصالحها الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإيران والاتحاد الأوروبي وإسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي؛ إذ أن جميعهم شركاء اقتصاديون حيويون.