ما تعرضت له اليمن من دمار هائل بسبب الانقلاب الحوثي على السلطة الشرعية، والحرب الأعنف في دورات الصراع المتعاقبة في اليمن منذُ زمن، أدت إلى خسائر بشرية غير مسبوقة في تاريخ اليمن القريب وقضت على البقية الباقية من مقدرات الشعب اليمني بما في ذلك البنية التحتية والاقتصاد الهش أصلاً، ودفعت غالبية الشعب اليمني إلى حافة الفقر والمجاعة نتيجة انكماش الناتج المحلي، وتدهور الإنتاجية، وضعف الطاقة التشغيلية. لهذه الأسباب أصبح إعداد خطة استراتيجية لإعادة الإعمار والتعافي ضرورة وطنية ملحة وفق رؤية استراتيجية شاملة (قصيرة – متوسطة – وطويلة المدى) للقطاعات الحيوية في الجمهورية اليمنية، تكون بمثابة الإطار المرجعي لعملية إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأمني، والذي يجب أن ينجز من خلال الاستفادة القصوى من برامج إعادة الإعمار والمنح والقروض الخارجية وتحفيز القدرات المحلية من أجل تطوير القطاعات الحيوية والتي تشمل قطاع الطاقة، والتعليم، والصحة، والبنى التحتية من المياه والصرف الصحي والطرقات، كما يجب أن تشمل معالجة الأوضاع الإنسانية الطارئة والتصدي لمشكلة الفقر والبطالة. وهذا كله لن يتأتى إلا في ظل سلام دائم وعادل مبني على ما توافق عليه الشعب اليمني في مخرجات الحوار الوطني وفي ظل المرجعيات الإقليمية والأممية ذات الصلة.
إن الحرب التي تدور رحاها منذ ما يزيد على ست سنوات قد عصفت بكل مقومات الحياة في المجتمع اليمني، وأدت إلى خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات، وتسببت بموجات كبيرة من النزوح الداخلي والخارجي، بما يزيد على ثلاثة ملايين نازح، وألحقت أضراراً كبيرة بالبنية التحتية، وأضعفت القدرة على تقديم الخدمات في القطاعات جميعها: الاقتصادية والاجتماعية على وجه الخصوص. ولكن مع الأسف الشديد فإن هذا الدمار الذي لايزال مستمرًا حتى كتابة هذا المقال لم يتم الوقوف على تقييم آثاره ميدانيًا من قبل الجهات المختصة اليمنية، أو الجهات الدولية ذات الخبرة والاختصاص لمعرفة وتقييم حجم الدمار، والأضرار التي لحقت بالأرض والإنسان اليمني، بسبب استمرارية الحرب والتي لا تزال مشتعلة في أكثر من منطقة من الجغرافيا اليمنية. إلا أن هناك جهودًا بذلت من قبل مجموعة البنك الدولي بالتعاون مع الحكومة الشرعية للجمهورية اليمنية وذلك لإجراء تقييم أولي لحجم ذلك الدمار والخراب الحاصل، من خلال الاعتماد على مصادر بعيدة للبيانات كتحليل صور الأقمار الصناعية وغيرها، وقد أصدرت مجموعة البنك الدولي بناءً على تلك البيانات عددًا من التقارير المحدثة (Damage Need Assessment) والتي كان من توقعاتها أن الاحتياجات المقدرة للتعافي وإعادة الإعمار قد تفوق (88) ثمانية وثمانين مليار دولار. كما ان البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة كذلك قد قام بإصدار دراسة عام 2019م، وضح فيها ان عدد القتلى المتوقع نتيجة الحرب قد يفوق (233) مئتين وثلاثة وثلاثين الفًا، وأن خسارة الاقتصاد الوطني قد تصل إلى نحو (90) تسعين مليار دولار، وأن ما يقارب 65% من السكان يعانون من المجاعة الشديدة. ناهيك عن الأضرار غير المباشرة لهذه الحرب، كتهتك نسيج المجتمع اليمني بصورة غير مسبوقة، وبروز ظاهرة الكراهية، ونبذ الآخر، والتعصبات المناطقية والجهوية والطائفية، كما أن ظهور جيل جديد من الشباب اليمني في ظل ظروف الحرب، بل وإقحام عدد كبير منهم في جبهات القتال من قبل ميليشيا الحوثي الانقلابية، ليمثل تحديًا كبيرًا في كيفية إعادة بناء عقول وأفكار ذلك النشء ليتجه إلى التعليم والبناء والسلام بدلاً من العنف والاحتراب.
إن هذا الإرث غير المسبوق من الدمار والخراب لكافة القطاعات الحيوية في اليمن، يستدعي الوقوف بجدية وبدون تسويف، في العمل الجاد ومع الشركاء الإقليميين والدوليين لإيقاف هذه الحرب أولاً: وبما يضمن لليمنيين سلامًا دائمًا وعادلاً شاملاً، لا يؤسس لحروب قادمة، وثانيًا: في وضع استراتيجية وطنية شاملة لإعادة الإعمار والتعافي، استراتيجية عابرة للحكومات، لأنها ستكون على مدى زمني لا يقل عن عشرين عامًا تقسم الى خطط مرحلية خمسية، يشارك في إدادها وصياغتها ممثلين من الجانب الحكومي، وبالشراكة مع القطاع الخاص اليمني، وبالاستعانة بالكفاءات الوطنية، وبيوت الخبرة العالمية، وبالتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة ومؤسسات التمويل الدولية والإقليمية، وذلك لإعداد استراتيجية إعمار وتعاف تتناول المحاور الرئيسية الآتية:
- إعادة بناء ما دمرته الحرب من منشآت عامة وخاصة، ومنازل للمواطنين.
- إعمار البنية التحتية الأساسية الداعمة لتحريك عجلة التنمية المستدامة، كالكهرباء والصحة والتعليم والطرقات والمياه والصرف الصحي وغيرها.
- إعادة بناء مؤسسات الدولة وفق مخرجات الحوار الوطني الشامل، وبما يخدم تنفيذ خطة إعادة الإعمار والتعافي
- إعادة بناء النسيج الاجتماعي اليمني وبما يضمن التعايش السلمي، وقبول الآخر، ويهيئ لجيل الشباب البيئة المجتمعية الداعمة لتحقيق تطلعاتهم، وبناء مستقبلهم بعيدا عن الصراع والتناحر.
يوجد العديد من الفوائد والمبررات لوجود تلك الخطة الاستراتيجية الشاملة لإعادة الإعمار والتعافي لعل من أهمها، هو إيجاد إطار استراتيجي جامع لبرامج الإعمار والتعافي جميعها، كما أنها ستساعد على حشد الموارد من قبل المانحين وتؤدي إلى التسريع في استيعاب برامج إعادة الإعمار وانشطته، وتحديد الأولويات في التنفيذ، بعيدًا عن العشوائية والارتجال، وتضمن التوزيع العادل لتلك البرامج في مناطق الجمهورية اليمنية جميعها، كما أنها ستسهل عملية التنسيق بين الشركاء المحليين والإقليميين والدوليين.
ولكي يتم ذلك فهناك متطلبات أساسية لإعداد استراتيجية الإعمار والتعافي وهي:
- تشكيل لجنة عليا لإعادة الإعمار والتعافي بقرار من رئيس الجمهورية، يشترك فيها الجانب الحكومي وممثلين من القطاع الخاص، ومن الكفاءات الوطنية، لتقوم بالمهام التالية:
- وضع الموجهات الاستراتيجية والسياسات العامة لإعادة الإعمار والتنمية، التي تحقق إعادة البناء والاستقرار الاقتصادي، والتنمية الاقتصادية المتوازنة والمستدامة.
- الإشراف على إعداد خطة استراتيجية شاملة للإعمار والتنمية، (طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى)، ومحددة الأهداف والأولويات والبرامج والمشاريع.
- مناقشة خطة الإعمار والتعافي مع الجهات الإقليمية والدولية الداعمة لبرامج إعادة الإعمار والتنمية المستدامة.
- الإعداد لمؤتمر دولي للمانحين، لتوفير التمويل والدعم لخطة الإعمار والتنمية
- الإشراف على إعداد الترتيبات المؤسسية لإعادة الإعمار والتنمية، بالاستفادة من أفضل الممارسات الدولية.
- تشكيل لجنة فنية بقرار من رئيس اللجنة العليا لإعادة الإعمار، بحيث تتولى إنجاز المهام الآتية:
- إعداد منهجية العمل والأدلة الإرشادية لإعداد خطة إعادة الإعمار والتعافي.
- جمع البيانات اللازمة لتقييم الوضع الاقتصادي والاجتماعي والإنساني، والآثار الناجمة عن الحرب.
- تنظيم اللقاءات التشاورية مع شركاء التنمية من القطاع الخاص المحلي، والمجتمع المدني، والمانحين
- تشكيل فرق العمل الفنية المساعدة، بحسب الحاجة على مستوى القطاعات، وعلى المستوى المركزي والمحلي
- اعداد مسودة خطة إعادة الإعمار والتعافي ورفعها إلى اللجنة العليا لمناقشتها وإقرارها.
- تشكيل فرق عمل فنية مساعدة على مستوى القطاعات، وعلى المستوى المركزي والمحلي: تتولى جمع البيانات والمعلومات اللازمة لتقييم إعادة الإعمار والتعافي، واقتراح البرامج والمشاريع ودراستها، والمساعدة في إعداد مسودة محاور الخطة، بالتشاور مع مختلف الأطراف ذات العلاقة على المستويين المركزي والمحلي.
- إعداد الموازنة اللازمة لإعداد خطة إعادة الإعمار والتعافي الشاملة وصياغتها.
وبناءً على هذه الرؤية، فقد تم رفع مشروع تصور لإعداد استراتيجية وطنية لإعادة الإعمار والتعافي للجهات المعنية في أجهزة الدولة؛ للاطلاع عليها، ومناقشتها مع الجهات ذات الاختصاص، ومع الخبراء المعنيين، لإثرائها واتخاذ الإجراءات المناسبة حيال هذا الملف الهام من حيث حسن التخطيط والاعداد ونجاعة وسلامة التنفيذ.
الجدير بالذكر أن البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن قام بمبادرات مقدرة ومشكورة، منذ تأسيسه في عام 2018م، بتنفيذ برامج تنموية عدة في اليمن، توزعت على شقين: الشق الأول، تخفيف آثار الحرب على قيمة العملة الوطنية من خلال وديعة نقدية في البنك المركزي اليمني في عدن تقدر بملياري دولار، وكلك تقديم منح من المشتقات النفطية لتشغيل المحطات الكهربائية في المناطق المحررة، وذلك لتخفيف الطلب المحلي على العملة الأجنبية.
أما الشق الثاني: فهو عن طريق تنفيذ بعض المشاريع التنموية في قطاع الكهرباء والتعليم والنقل والصحة والثروة السمكية.
هناك جهد محلي وإقليمي ودولي للدفع بعملية إعادة الإعمار والتعافي، من خلال عقد ورش عمل متعددة تقوم بها الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، ومجموعة البنك الدولي، والبرنامج التنموي للأمم المتحدة، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وغيرها من الجهات الداعمة والمانحة، بالتنسيق مع الحكومة اليمينة: وذلك لاستعراض التجارب الدولية السابقة المماثلة لما عليه الحال في اليمن، للاستفادة منها في كيفية إعداد برامج إعادة الإعمار في اليمن وتنفيذها، ولكن نظرًا لاستمرار العمليات الحربية نتيجة لتعنت ميليشيا الحوثي الانقلابية أمام فرص السلام جميعها، فإن برامج إعادة الإعمار ستظل تواجه تحديات ومعوقات كثيرة، لأن عملية الإعمار والتنمية قائمة على السلام، وبدون السلام لن تنال الشعوب ما تصبوا إليه من التنمية والازدهار، فالإعمار هو السلام.