تعاني أغلب الكتابات في مجال التحليل السياسي من غياب المنهجية الواضحة في دراسة القضايا المطروحة، مما يؤدي إلى تغليب العواطف والأماني في النتائج. لتجنب ذلك، لابد من اعتماد منهجية تضمن الوصول إلى نتائج بعيدة عن هوى النفس والضغوط الخارجية. ولعل من أبسط قواعد التحليل السياسي الدرس الذي أتذكره من أستاذ التأريخ في الثانوية الذي كان يلخصه لنا في المقولة: "الغرب ليس له أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون، وإنما مصالح دائمة"، وهي قاعدة مهمة تقوم على أساس تتبع المصالح في تحليل القضايا السياسية. هذه النظرة الموضوعية أكثر ماهي مطلوبة في مسألة شائكة ومعقدة مثل العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية التي يصاحبها الكثير من الضجيج مع شعارات رنانة الغاية منها التعمية عن حقائق الواقع. لذلك نسعى في هذه المقالة إلى تتبع نقاط تقاطع وتعارض المصالح الأمريكية-الإيرانية وأين تلتقي وأين يمكن أن تفترق، وهي نظرة على درجة كبيرة من الأهمية لأن السياسة العالمية عامة وأوضاع المنطقة خاصة تقفان على منعطف حرج يحتاج إلى إدراك واضح لمستقبل الأوضاع، آخذين في الاعتبار تداعيات الحرب في أوكرانيا والمتغيرات العالمية التي رفعت الصين وروسيا إلى قمة اهتمامات الولايات المتحدة وحلفائها، وتقاطع العلاقة بين إيران والولايات المتحدة مع القضيتين وانعكاسات ذلك على واقع أمن وسلام المنطقة.
تطور العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية
الموقف الأمريكي من إيران، أو أية دولة أخرى عدوة كانت أو صديقة، تحكمه المصالح ولذلك فإن موقف العداء يمكن أن يتغير إلى الصداقة إذا ما تغيرت المصالح وفرضت مثل هذا التغيير والعكس صحيح. من هذا المنظور فإن العلاقات الأمريكية-الإيرانية شكلت على مدى العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية نموذجًا للترابط الوثيق بين المواقف والمصالح. فعلى سبيل المثال فقد كان الموقف الأمريكي من المنطقة وإيران قبل الحرب العالمية الثانية محكوماً بالتوجهات البريطانية التي كانت ترعى ضمن مناطق نفوذها ومن أهمها الخليج، المصالح الأمريكية والتي كانت محصورة آنذاك بالنفط وضمان بقاء المنطقة في حالة تشرذم وانقسام جسدته اتفاقية سايكس-بيكو سيئة الصيت. لذلك نلاحظ أن المواقف البريطانية كانت تميل دائمًا لصالح إيران على حساب دول الخليج حيث استخدمت بريطانيا نفوذها المطلق في المنطقة لفرض تنازلات من قبل الدول العربية لصالح إيران ومن ذلك إنهاء وجود الإمارات العربية على الساحل الشمالي الشرقي للخليج مثل إمارات المحمرة ولنجة وفرض اندماجها مع إيران تحت تهديد القوة والميل نحو المواقف الإيرانية في جميع النزاعات الحدودية مع العراق وكذلك احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث بعد انسحاب بريطانيا منها.
ورثت الولايات المتحدة الإرث البريطاني في المنطقة فأصبح الشاه هو الحاكم المفضل لديها لأنه الأقرب إلى إسرائيل والأبعد عن دول الجوار العربي التي يعتبرها مصدر التهديد الأول لأمن إيران القومي. وهي قضية مهمة في فهم المواقف الإيرانية آنذاك وإلى يومنا هذا. برزت أهمية دور الشاه حينما عهدت إليه الولايات المتحدة مهمة "شرطي الخليج" عندما أرادت إدارة المنطقة عن بعد بسبب انشغالها بالحرب في فيتنام وأوضاعها الداخلية واستطاع من خلال ذلك الحصول على الدعم السياسي والعسكري من الولايات المتحدة ومن ذلك بناء مشروعه النووي الطموح.
تغيير الدور الإيراني في السياسة الأمريكية
دور الدول في السياسة الأمريكية لا يستند على العلاقات الشخصية وإنما على قدرة الدول على التكيف مع الأدوار المطلوبة منها في المنظومة العالمية. فعلى الرغم من أن الشاه كان الحليف الذي يعتمد عليه في المنطقة عندما كانت الأولوية هي احتواء الاتحاد السوفيتي، إلا أن ذلك تغير بسبب التغيير الجذري في السياسة الأمريكية تجاه الاتحاد السوفيتي الذي تحول من سياسة الاحتواء إلى العمل على التفكيك من خلال إحاطته بدول دينية وهو المبدأ المعروف "بمبدأ بريجنسكي" نسبة إلى واضع النظرية السياسي والأكاديمي "زبنجييف بريجنسكي" المولود في بولندا والذي أصبح فيما بعد مستشاراً للأمن القومي في إدارة الرئيس كارتر وبموجب هذا التغيير أصبح نظام الشاه وهو العلماني المفرط في علمانيته خارج الصلاحية.
بدأت عمليات تنفيذ المخطط الجديد من خلال انتفاضتين ضد حكومتين تقفان على طرفي نقيض وهما الحكومة الشيوعية في أفغانستان التي كادت أن تتهاوى أمام الهجمات التي تشنها قوى المعارضة الإسلامية وحكومة شاه إيران التي بدأت تتأرجح أمام قوة المظاهرات الشعبية التي انطلقت بداية عام 1978م، وانتهت بسقوط حكم الشاه بعد عام من بداية التظاهرات التي أوصلت الخميني إلى حكم إيران. قام الاتحاد السوفيتي بالخطأ الذي سوف يؤدي إلى نهايته وهو غزو أفغانستان عام 1979م، الذي أدخله في نفق مظلم لم يستطع الخروج منه إلا مفككاً.
عاد الخميني إلى إيران منتصراً وغير العديد من السياسات التي كانت سائدة إيام حكم الشاه لكنه لم يغير شيئاً مهماً وهو استراتيجية الأمن القومي الإيراني القائمة على أساس أن دول الجوار العربية وفي مقدمتها العراق والسعودية تمثل التهديد الاستراتيجي الأول لإيران ولذلك كان العمل الخارجي الأول هو إشعال فتيل الحرب العراقية-الإيرانية. لم تقف الولايات المتحدة موقف المتفرج كما يشاع بل كانت ترى مصلحة كبيرة في إدامة الحرب وتحويلها إلى حرب استنزاف لقوة الطرفين وموارد المنطقة. لذلك قامت من خلال التحالف الثلاثي (الأمريكي /الإسرائيلي /الإيراني) بدعم إيران من خلال عملية "إيران كونترا" عندما ظهر تفوق العراق وكان على وشك حسم المعركة وكان ذلك بعد اجتياز النظام الإيراني الجديد لاختبار العلاقة مع إسرائيل والذي تجسد في التعاون بينهما في الهجوم الإسرائيلي على المفاعل النووي العراقي في سنوات الحرب الأولى حيث استفادت إسرائيل من تفاصيل الصور الجوية للمجمع والدفاعات العراقية التي جمعتها الطائرات الإيرانية أثناء قصفها العراق.
نهاية الحرب الباردة ولدت حرباً جديدة إذ لا يمكن للعالم أن يدار من دون صراع وهذه المرة كانت الحرب على الإرهاب وهنا مرة أخرى أثبتت إيران فائدتها لأنها رأت في تلك الحرب مصلحة من جهتين أولها أنها دفعت بتعريف الإرهاب على أنه نابع من الإسلام السني والذي يجعل من الدول المجاورة هدفاً لتلك الحرب ولذلك سارعت للمساعدة في عمليات غزو أفغانستان ومن بعد ذلك العراق فكوفئت بمنح أطراف المعارضة العراقية المرتبطة بها الدور الأساس في حكم العراق بعد الغزو كما أن الولايات المتحدة حرصت على إبعاد أي نفوذ عربي في العراق. أما المصلحة الثانية فهي أنها اتخذت من ذريعة الحرب على الإرهاب وسيلة للتواصل مع الولايات المتحدة فكانت القوات الأمريكية تقاتل جنباً إلى جنب مع الميليشيات الإيرانية في العراق وسوريا. وبسبب هذه الفوائد فقد كانت متحمسة في تقديم الدعم اللوجستي المباشر لتنظيمي القاعدة وداعش واستطاعت أن تسخر هذه العمليات لصالح مشروعها الطائفي في المنطقة.
الموقف الأمريكي من الاتفاق النووي
بادئ ذي بدء لابد من القول بأن المشروع النووي الإيراني لا يشكل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة وإسرائيل طالما أنه بقي ضمن الحدود الإقليمية المرسومة له ويدفع بالدول العربية وخصوصاً المملكة إلى العمل على الحصول على السلاح النووي. لذلك سمح له بالاستمرار طيلة العقود الماضية ولم يكن مصيره مثل المشاريع المشابهة في العديد من الدول العربية لكن مع السعي إلى الوصول إلى اتفاق يحول بين إيران والسلاح النووي. وقد توجت تلك الجهود بتوقيع الاتفاق أيام إدارة الرئيس الأسبق أوباما، لكن إدارة ترامب كانت لها وجهة نظر أخرى في ذلك الاتفاق الذي منح إيران الكثير وتغاضى عن العديد من القضايا ومنها مشروع الصواريخ الباليستية ولذلك قررت الخروج منه وفرض عقوبات على إيران. وعندما جاء بايدن قرر العودة إلى الاتفاق بعد إجراء بعض التعديلات التي لم يشملها الاتفاق السابق. لكن الأوضاع تغيرت بشكل متسارع ومنها الموقف السياسي الداخلي الحرج للإدارة الجديدة وإصرار إيران على رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب كشرط أولي بالإضافة إلى اتخاذ إيران سياسة جديدة أكثر انحيازاً للصين وروسيا مع اندلاع الحرب في أوكرانيا. كذلك جاءت أخبار اكتشاف مواد مشعة في أماكن لا تعلم بها وكالة الطاقة الذرية لتزيد من تعقيد الأمور وإضافة عامل جديد يساهم في إضعاف الثقة وتعقيد سير المفاوضات.
الموقف الأمريكي من التظاهرات
بدأت موجة جديدة من التظاهرات الشعبية ضد الحكومة بعد وفاة الشابة مهسا أميني في سبتمبر (أيلول) الماضي بعد احتجازها من قبل الشرطة بسبب عدم التزامها بالحجاب. فجر الحادث موجة من الغضب الذي اجتاح البلاد بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية وغلاء الأسعار. سبقت هذه التظاهرات احتجاجات أخرى في منطقة خوزستان (الأحواز) بسبب تجفيف مياه نهر الكارون والتلوث الذي حصل في مياه النهر والأهوار التي تعتبر مصدر معيشة سكان المنطقة. تزامنت التظاهرات مع وصول المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة حول العودة للاتفاق النووي إلى طريق مسدود لذلك رحبت الولايات المتحدة بالتظاهرات لأنها وفرت وسيلة أخرى للضغط على النظام الإيراني من خلال انتقاد سياسته في التعامل مع المتظاهرين وفرض مزيد من العقوبات ولكنها اكتفت بذلك ومن دون تقديم اي دعم للمتظاهرين.
لأن الولايات المتحدة ليست راغبة بإسقاط النظام على الأقل ليس الآن وليس على يد المتظاهرين فقد سمحت بالتنفيس عنه للحيلولة بينه وبين السقوط وكان ذلك من خلال غض النظر عن تهريب النفط خارج منظومة العقوبات حيث أشارت وكالة بلومبيرغ في تقرير لها بأن صادرات النفط الإيرانية وصلت إلى أعلى مستوياتها منذ عودة العقوبات الأمريكية قبل أربع سنوات لتصل إلى حوالي 1.3 مليون برميل في اليوم وهي مرشحة للارتفاع بما يساوي 200 ألف برميل إضافية. وهي خطوة الهدف منها التخفيف عن النظام الإيراني كما وأن ذلك يساعد في زيادة الإنتاج لتعويض النقص الحاصل بسبب العقوبات على تصدير روسيا للنفط بالإضافة إلى إرسال رسالة إلى أوبك بلس.
انقطاع المفاوضات بين أمريكا وإيران لم يكن نهاية التواصل بينهما فقد أشارت تقارير صحفية إلى لقاء تم في نيويورك بين مندوب إيران لدى الأمم المتحدة مع السفير روبرت مالي المنسق الأمريكي للمفاوضات مع إيران. وقد توجهت وسائل الإعلام بالسؤال للناطق الرسمي باسم الخارجية الأمريكية الذي لم ينف اللقاء لكنه أضاف بما يفيد الإثبات وهو الإشارة إلى أن الحكومة الأمريكية وعلى الرغم من توقف المفاوضات إلا إنها حرة في إرسال الرسائل التي تعتقد أن عليها إرسالها إلى إيران وأن رسالتها تضمنت ثلاث قضايا أساسية هي: التوقف عن قتل المتظاهرين السلميين، التوقف عن بيع السلاح لروسيا الذي تستخدمه في حربها في أوكرانيا، وإطلاق سراح الأمريكان المحتجزين في إيران وقد أشارت التقارير إلى أن اللقاء لم يكن لقاءً واحداً بل عدة لقاءات.
هل تغيرت قواعد اللعبة الأمريكية مع إيران؟
قلنا سابقاً بأن الموقف الأمريكي من إيران في المرحلة الماضية كانت تحكمه الحسابات الإقليمية المتمثلة بالاستفادة من الأنشطة الإيرانية في استنزاف موارد المنطقة من خلال إدخالها في صراعات طائفية وعرقية والضغط على دول المنطقة لطلب المساعدة من إسرائيل لحمايتها من التهديدات الإيرانية. لكن المعادلة الإقليمية بدأت تتغير بسبب ظهور بوادر حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى وهي مسألة من شأنها أن تحدث تغييراً في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة ومنها الدور الإيراني حيث بدأت بعض البوادر التي تشير إلى أن المعادلة بدأت تتحول من الحسابات الإقليمية إلى معادلة جديدة تأخذ التطورات العالمية بنظر الاعتبار. ولعل من أهم الدوافع وراء التغيير ما يلي:
- التعاون العسكري الروسي-الإيراني: التطور الأهم في الآونة الأخيرة ظهر على شكل زيادة التعاون العسكري بين إيران وروسيا والذي وصل إلى التوقيع على اتفاق شراكة عسكرية بين البلدين وإقامة تعاون في مجال تصنيع الطائرات المسيرة حيث من المتوقع أن تزود إيران روسيا بأكثر من ألف طائرة مسيرة تستخدمها في حربها على أوكرانيا. بعد أن أثبتت الطائرات الإيرانية فائدتها الكبيرة في الحرب لأنها أقل كلفة من الصواريخ بعيدة المدى وبالإمكان استخدامها في الوصول إلى أهداف محددة. وتخشى الولايات المتحدة أن تتحول هذه العلاقة إلى اتفاق دفاع مشترك بين روسيا وإيران وهو أمر سوف يفتح لروسيا منفذاً استراتيجياً مهمًا في محاولتها لفك طوق الاحتواء الأمريكي الغربي المفروض عليها كذلك الإخلال بمعادلة الأمن الإقليمي الهشة.
- التعاون الاقتصادي بين إيران وروسيا والصين: إيران متمثلة بالمواقف والتوجهات التي يتبناها المرشد الأعلى علي خامنئي قد حسمت أمرها وانحازت إلى المعسكر الروسي-الصيني هذه القضية تجلت بوضوح من خلال العديد من المواقف والقرارات ومن أهمها التوقيع على اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع الصين وهو الذي جرى في الأيام الأخيرة من رئاسة الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني الذي تفاوض على اتفاق الشراكة بين البلدين. هنا تبرز أهمية دعوة الرئيس الصيني شي إلى زيارة المملكة العربية السعودية ولقاء زعماء الخليج والقادة العرب بالإضافة إلى توقيع اتفاق شراكة مع المملكة وهي جهود تهدف فيما تهدف إليه جذب الصين إلى دول الخليج وبعيداً عن إيران لذلك سارع الرئيس الإيراني إلى زيارة الصين قبل أيام للتأكيد على أهمية الشراكة بينهما وكان الملفت هو أن طغيان الطابع الاقتصادي على الزيارة حيث يطمح الطرفان إلى إيجاد وسائل مالية خارج منظومة القيود الأمريكية لعملية شراء النفط الإيراني الذي تستورده الصين الآن بمعدل مليون برميل في اليوم.
- الموقف الإسرائيلي الجديد بعد وصول تحالف اليمين المتشدد برئاسة نتنياهو إلى السلطة الذي غير هو الآخر المقاربة مع إيران لحسابات داخلية. فقد أعلنت الحكومة الإسرائيلية برنامجها الحكومي الذي تقدمت به إلى الكنيست الذي وضع التصدي للمشروع النووي الإيراني بوصفه الأولوية الأولى. حكومة نتنياهو لها حساباتها الخاصة من وراء التصعيد مع إيران في أغلبها لا تتعلق بالتهديد الإيراني ومن ذلك استغلال التصعيد مع إيران للتقارب مع الدول العربية من خلال تهديدها بالخطر الإيراني وكذلك للتغطية على ممارساتها في الداخل الفلسطيني بالإضافة إلى الضغط على الحكومة الأمريكية للحصول على تنازلات عسكرية وسياسية. ولأن إسرائيل تم تحويلها من مسؤولية قيادة أوروبا في الجيش الأمريكي إلى قيادة العمليات الوسطى التي تشمل منطقة الشرق الأوسط وأفغانستان فقد تسارعت التدريبات المشتركة والمناورات بين القوات الأمريكية والإسرائيلية لرفع مستوى الاستعداد كان الهدف منها إرسال رسائل واضحة إلى أن اهتمام الولايات المتحدة بالحرب في أوكرانيا يجب أن لا يفهم على أنه فرصة للمنافسين لتحقيق مكاسب استراتيجية في المنطقة وكذلك فقد كانت الغاية من العمليات التي شملت القوات الجوية أكثر من غيرها وشملت التزود بالوقود وعمليات قصف وتدمير مواقع محصنة تحت الأرض إرسال رسالة خاصة إلى إيران. هنا تقف الإشكالية الكبيرة أمام نتنياهو فهو بين نارين أولها من تحالف الأحزاب اليمينية الذي يقف وراء حكومته والذي يسعى إلى تغيير الأوضاع على الأرض من خلال اتخاذ سياسات متشددة مع الفلسطينيين وهي سياسات تتعارض مع التوجهات الأمريكية الساعية إلى دفع الدول العربية وفي مقدمتها المملكة والعراق إلى التطبيع مع إسرائيل من خلال حل الدولتين وتحقيق حلمها القديم في إنشاء منظومة أمن إقليمي. لذلك فإن نتنياهو بحاجة إلى الولايات المتحدة والدول العربية وفي مقدمتها السعودية ومصر والعراق والأردن لتحقيق وعده الأول وهو إنهاء المشروع النووي الإيراني كما أنه بحاجة إلى تحالف أحزاب اليمين لكي يضمن البقاء في السلطة. فهل يستطيع توحيد جبهته الداخلية من خلال لجم أحزاب اليمين عن أفعالها التصعيدية ومن ثم ينطلق مطالباً الولايات المتحدة والدول العربية بالتحالف معه ضد إيران؟
الموقف الإيراني العام سوف يتضح وبسرعة من خلال ردة الفعل على التحرشات الإسرائيلية وسوف يكون واحداً من اثنين فإما أن تسعى إيران إلى تقوية جبهتها الإقليمية من خلال الانفتاح على جيرانها في الخليج وخصوصاً المملكة وهذا أمر مستبعد أو أنها سوف تسعى إلى التصعيد مع جيرانها وتمنح نتنياهو المبرر الذي يبحث عنه للتصعيد كما حصل في السابق.
كانت أول بوادر التغيير في المقاربة الأمريكية تجاه إيران عملية ضبط السياسات المالية في العراق وخصوصاً فيما يتعلق بوضع معايير لتحويل العملات إلى الخارج وكذلك السيطرة على مزاد الدولار في البنك المركزي والحيلولة بين إيران وسحب الدولارات من خلال مزاد العملة باستخدام الواجهات المصرفية التي بنتها في العراق منذ بداية الاحتلال الأمريكي بالإضافة إلى عدم السماح للعراق بتسديد قيمة وارداته من إيران بالدولار بل بالدينار العراقي وهو الذي أدى إلى هبوط قيمة الدينار العراقي هو الآخر. لهذه الأسباب رأينا هبوط الريال الإيراني وخسارته الكبيرة لقيمته خلال الشهرين الأخيرين من العام الماضي حيث وصل إلى 43 ألف ريال للدولار الواحد مما أدى برئيس البنك المركزي إلى الاستقالة. هذا التدني مستمر لحد الآن حيث تشير الأرقام إلى وصول الدولار إلى 47 ألف ريال إيراني.
خاتمة القول بأن الملف الإيراني بدأ يتصاعد في سلم الأوليات بالنسبة للإدارة الأمريكية بسبب تقاطعه مع أولوياتها في احتواء روسيا والصين وأن بوادر التغيير بدأت بالظهور على شكل ترتيب نظام التعاملات المصرفية في العراق والتي كانت إيران تستخدمها كبوابة خلفية للحصول على العملة الصعبة. زيادة الضغوط الأمريكية من خلال العقوبات وتردي الأوضاع الاقتصادية والمعاشية وعجز الحكومة الإيرانية عن إيجاد المخارج من هذه الأزمات بالإضافة إلى تصاعد العمليات الخاصة الإسرائيلية ضد المنشآت العسكرية الإيرانية قد تدفع بإيران إلى نقل الأزمات إلى الخارج من خلال تفجير الأوضاع في المنطقة وضرب الأهداف الهشة كما حصل في السابق أو اللجوء إلى إعادة الروح في التنظيمات الإرهابية مثل القاعدة وداعش. جميع الدلائل تشير إلى أن المنطقة مقبلة على مرحلة ساخنة أشد حرارة من قطعة صفيح في صيف الربع الخالي.