array(1) { [0]=> object(stdClass)#13382 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 199

6 أسباب وراء عدم تحقيق الاستفادة الكاملة من فرص مبادرة إسطنبول

الخميس، 27 حزيران/يونيو 2024

قبل عشرين عامًا، في قمة إسطنبول، أعلن حلف الناتو مبادرة إسطنبول للتعاون الموجهة لدول مجلس التعاون الخليجي. قررت أربع دول خليجية، هي الإمارات وقطر والكويت والبحرين، الانضمام لهذه المبادرة. في هذا المقال يتم وضع سياسة التعاون مع شركاء حلف الناتو في سياقها السياسي والأمني، كما يجري تحليل وتقييم أوجه التعاون بين دول الخليج والناتو، ومعوقات وآفاق هذا التعاون.

خلفية سياسية وأمنية

تأسس حلف الناتو عام 1949م، كحلف عسكري تقوده الولايات المتحدة، ويضم في عضويته أغلب دول غرب أوروبا. القارة الأوروبية هي ميدان العمل الرئيسي للحلف، والهدف هو حماية الدول أعضاء الحلف من اعتداء محتمل من جانب الاتحاد السوفييتي. لقد انهار حلف وارسو الذي قاده الاتحاد السوفييتي، ثم تفكك الاتحاد السوفييتي نفسه، فتغير هيكل النظام الدولي، وتغير هيكل التهديدات التي تواجه دول حلف الناتو. لقد أثبت حلف الناتو فعاليته في مواجهة تهديدات المرحلة السابقة، وقرر أعضاء الحلف الإبقاء عليه رغم اختفاء التهديد السوفييتي، على أن يقوم الحلف بالتكيف المتواصل مع الطبيعة المتغيرة للبيئة الدولية.

منذ ذلك الوقت تبنى حلف الناتو عددًا من البرامج والمبادرات غير التقليدية. وفي وثيقة المفهوم الاستراتيجي لحلف الناتو الصادرة عام 1991م، والتي صدرت بينما كانت تداعيات تفكك الكتلة السوفييتية آخذة في الحدوث، جاء أنه "بالنقيض مع التهديد الواحد شديد الخطورة الذي واجهه الحلف في الماضي، فإن المخاطر التي تواجه الحلفاء في المرحلة الجديدة تتسم بتعدد الوجوه وتعدد الاتجاهات، ويمكنها الظهور بأشكال متعددة؛ وأن حلف الناتو يجب أن يكون قادرًا على التعامل مع هذه المخاطر من أجل ضمان الاستقرار في أوروبا وتوفير الأمن للحلفاء".

لقد بدا الصراع على قمة النظام الدولي كما لو كان قد انتهى تمامًا، وكان حلف ناتو هو التحالف العسكري الدولي الوحيد القائم في العالم، وبدلًا من قصر مهمته في الدفاع عن الغرب ضد تهديد واحد خطير مصدره الاتحاد السوفييتي، وسع الحلف نطاق مسؤولياته ليشمل مواجهة أخطار منتشرة ومشتتة تستعصي على التعريف، وهو نوع من المخاطر والتهديدات التي كان ينظر لها في السابق على أنها أقل أهمية بالمقارنة بخطر الدمار الشامل الناتج عن حرب نووية.

حدثت إذا تحولات في الرؤية الاستراتيجية للحلف من التعامل مع تهديدات، إلى التعامل مع مخاطر؛ ومن التعامل مع التهديد المباشر بالحرب من جانب عدو محدد، إلى التعامل مع تبعات وآثار غير مباشرة لعدم الاستقرار في مناطق الجوار، خاصة في الجوار المباشر في أوروبا الشرقية والوسطى، المناطق التي كانت في المرحلة السابقة ضمن حلف وارسو بقيادة موسكو.

بعد نهاية الحرب الباردة لم تعد المخاطر التي تواجه الناتو تأتي من جهة حلف وارسو والاتحاد السوفييتي في جهة الشرق فقط، وإنما أصبحت تهديدات متنوعة تأتي من اتجاهات عدة في المحيط الأوسع للمنطقة التقليدية لعمل الحلف في أوروبا، واهتم حلف الناتو في هذه المرحلة بالجوار الأوسع، ففي الوثيقة نفسها يؤكد الحلف اهتمامه "بالحفاظ على علاقات سلمية وغير عدائية مع بلاد جنوب المتوسط والشرق الأوسط، لأن الاستقرار والسلام في المحيط الجنوبي للحلف مهم لأمن الحلف، بسبب الحشود العسكرية وانتشار تكنولوجيا التسلح في منطقة الإطار الجنوبي، بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل والصواريخ الباليستية القادرة على الوصول إلى بعض البلاد أعضاء حلف الناتو"، وأن "أمن دول الناتو لا يقتصر على تعرضها لهجمات عسكرية، ولكن أيضا بسبب مخاطر مثل انتشار أسلحة الدمار الشامل، واعتراض تدفق موارد حيوية، وأنشطة الإرهاب والتخريب".  

لقد أصبحت المنطقة المشمولة بعمل بحلف "ناتو" أكثر اتساعًا، فيما أصبحت المخاطر التي يواجهها الحلف أقل تحديدًا، وأقل حدة، تظهر آثارها على المدى الأبعد، لا تكفي القوة المسلحة، وهي أهم ما يمتلكه الحلف، لمواجهتها. في مواجهة هذا الواقع الجديد طور حلف الأطلنطي استراتيجيات جديدة للتعامل مع الواقع المتغير، بما يعزز قدرته على التعامل مع التهديدات والمخاطر التي زادت أهميتها، خاصة التهديدات المتعلقة بالإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية وانتشار التكنولوجيات ذات التطبيقات القاتلة.

في هذا السياق طبق الناتو سياسة طموح من أجل بناء شراكات مع الدول الواقعة في الإطار المحيط بالناتو، وهي المنطقة التي أصبحت مصدرًا محتملًا لمخاطر متزايدة الأهمية، وهي المخاطر التي أراد الناتو التعامل معها دون أن يلزم نفسه بالتزامات مسبقة خارج النطاق الجغرافي التقليدي الذي يعمل فيه.

 

تحولات أدوار حلف الناتو

 

مارس حلف ناتو بعد الحرب البارة أدوارًا وسياسات جديدة تختلف عن سياسات الحلف التقليدية، المعتمدة على علاقته بالخصم العدو، والاستخدام المكثف لأساليب التلويح بالقوة، أو سياسات الإكراه المرتبطة عادة بالأحلاف العسكرية. تبنى ناتو بعد الحرب الباردة سياسة التنشئة والرعاية والتوطين لأفكار ونخب سياسية متوافقة مع سياسات الحلف. بلغت هذه الممارسة أقصاها في دول شرق ووسط أوروبا التي أصبحت أعضاء في الناتو ضمن عمليات التوسعة المتتالية. فقد احتاجت هذه الدول المرور بعمليات تأهيل طويلة ومعقدة لتصبح عضوًا في "الناتو". يختلف حلف "الناتو" في هذا عن الأحلاف العسكرية التقليدية، التي كان يكفيها وجود عدو مشترك حتى تتشكل. فالانضمام لحلف الناتو هو قرار سياسي له أبعاد مؤسسية وفكرية وقيمية، حيث يمثل التوافق السياسي والفكري ضرورة لضمان التماسك في الحلف. يتمسك حلف "الناتو" بدقة بهذه الجوانب كشرط لقبول العضوية، أما بالنسبة للشركاء فإن هذه المبادئ تظل موجودة ويسعى الحلف للتعريف بها والترويج لها، وإن فعل ذلك بطريقة مرنة تستهدف تعميق التفاهم المتبادل وليس تطبيق أي نوع من المشروطية.   

تعددت الأدوار التي يقوم بها حلف "الناتو" بعد الحرب الباردة، ومن بين الأدوار المهمة الجديدة التي أصبح يقوم بها دوره كوسيط للتغير agent of change. هذا هو الدور الذي قام به الناتو في الدول الأعضاء الجديدة، والتي جاء أغلبها من بين الأعضاء السابقين في حلف وارسو. فعملية توسيع الناتو الأكبر في تاريخ الحلف لم يكن لها أن تتم بنجاح دون أن تترك أثرًا سلبيًا على تماسك الحلف لولا عملية التحويل التي تمت في الدول المرشحة لعضوية الحلف، من أجل توطين القيم والمؤسسات الليبرالية في الدول المرشحة للعضوية.

لقد مارس "الناتو" الدور نفسه في إطار علاقات الشراكة المتعددة التي دخلها، وإن كان عمق التأثير الذي مارسه الحلف في هذه الحالة كان أضيق نطاقًا بكثير بسبب السقوف المنخفضة لعلاقات الشراكة، وطموحات الحلف الأقل، وتمسك الدول الشريكة بسيادتها واستقلالها في صياغة الاستراتيجيات المحققة لأمنها، والطابع الطوعي لبرامج الشراكة، مقارنة بالطابع الإلزامي لعلاقة الترشح وعضوية الحلف.

شراكات الناتو وشركائه

الشراكة هي برنامج لتعزيز الأمن عبر أساليب غير قتالية. ظهر مفهوم الشراكة في وثائق الناتو بعد انتهاء الحرب الباردة، ففي وثيقة المفهوم الاستراتيجي لعام 1991م، جاء فيه أن هناك فرصة لإقامة "شراكة أصيلة بين كل البلاد الأوروبية في التعامل مع مشكلات أمنية مشتركة"، وجاء فيه أيضًا أن "الشراكة بين أعضاء الحلف وأمم أخرى في التعامل مع مشكلات محددة سوف يكون عنصرًا أساسيًا في التحرك إلى ما وراء انقسامات الماضي في اتجاه أوروبا واحدة واحدة".

للتعامل مع البيئة الأمنية المتغيرة أطلق الناتو عددًا من الشراكات مع مجموعات مختلفة من الدول. البداية كانت في إطلاق الشراكة من أجل السلام، التي تم إطلاقها عام 1994م، وكانت موجهة بالأساس إلى الدول أعضاء حلف وارسو السابق، وكذلك إلى الدول التي ظهرت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي. الأمن الأوروبي بالمعنى المحدد هو الهدف الأهم من إطلاق هذا البرنامج. شارك في هذا البرنامج منذ تأسيسه 34 دولة، أصبح 15 منها أعضاء في الحلف بعد فترة من علاقات الشراكة التي تم خلالها تهيئة هذه الدول لعضوية الحلف، فيما واصلت الدول الأخرى الاستفادة من مزايا الشراكة مع حلف الناتو دون مستوى العضوية الكاملة. الصلة قوية بين برنامج الشراكة من أجل السلام وسياسة توسيع عضوية حلف الناتو، والتي مثلت أهم استراتيجيات حلف الناتو للتكيف مع عالم ما بعد الحرب الباردة.   

في نفس العام 1994م، أطلق حلف "الناتو" مبادرة الحوار المتوسطي، والموجهة للدول الواقعة جنوب البحر المتوسط في منطقة شمال إفريقيا وشرق البحر المتوسط. بشكل متزامن مع طرح مبادرة الحوار المتوسطي طرح الاتحاد الأوروبي مبادرة الشراكة الأوروبية المتوسطية، بما يعكس الصلة الوثيقة بين حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وقد انضمت لمبادرة الحوار المتوسطي خمسة بلاد هي: المغرب، والجزائر، وتونس، ومصر، والأردن.

بعد ذلك بعشرة أعوام، في عام 2004م، طرح حلف الناتو في قمة إسطنبول مبادرة إسطنبول للتعاون، الموجهة للدول أعضاء مجلس التعاون الخليجي، وذلك لتوسيع نطاق شراكات الحلف إلى منطقة الخليج.

تتسم الشراكات التي يقيمها حلف الناتو بالمرونة الشديدة، حيث تستطيع كل دولة شريك الاستفادة من الشراكة مع حلف الناتو بالطريقة الملائمة لها، في حدود التصورات والأطر التي يطرحها الحلف. في البداية كان لكل واحدة من هذه الشراكات طبيعتها الخاصة، لكن الناتو في قمة لشبونة 2010م، أخذ قرارًا من أجل التنسيق بين هذه المبادرات بحيث تصبح أكثر تشابهًا وتناسقًا، وبحيث تصبح مجالات التعاون المختلفة متاحة لعدد أكبر من الشركاء المنضويين في الشراكات المختلفة. حتى ذلك الوقت كان برنامج شركاء من أجل السلام هو الأكثر تطورًا وعمقًا وتنوعًا، نظرًا لارتباطه باهتمامات الحلف الأمنية في أوروبا، حيث تضم الشراكة من أجل السلام قائمة من 1400 نشاط سنوي يمكن للدول الشريكة المشاركة فيها. في عام 2011م، جاءت قمة برلين لتفتح كل البرامج التي كانت في الماضي متاحة فقط لأطراف برنامج "شركاء من أجل السلام" لأطراف الشراكات الأخرى، وبحيث أصبح لكل الشركاء في البرامج والمبادرات المختلفة المشاركة فيما يلائمهم من بين 1400 نشاط سنوي يتيحها الحلف للشركاء، والتي تتوزع على مجالات رئيسية عدة، أهمها الدفاع، إصلاح الدفاع، تخطيط سياسات الدفاع، العلاقات المدنية العسكرية، التعليم والتدريب العسكري، المناورات المشتركة والعلاقات بين الجيوش، الاستجابة للطوارئ، والتعاون في قضايا العلم والبيئة، وقضايا أمنية غير تقليدية، مثل أثر التغير المناخي على الأمن، والأمن السيبراني، والأمن الإنساني، والمرأة، كل ذلك عبر التركيز على التدريب وزيادة قدرات الشركاء في المجالات المختلفة.

مبادرة إسطنبول للتعاون

في ختام أعمال قمة حلف الناتو في مدينة إسطنبول عام 2004م، تبنى الحلف مبادرة إسطنبول للتعاون، والتي قدمها للدول المهتمة في المنطقة، بدءًا بالدول أعضاء مجلس التعاون الخليجي، من أجل تعزيز العلاقات الثنائية المفيدة في تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، عبر التركيز على التعاون في جوانب ذات طابع عملي يمكن لحلف الناتو أن يقدم فيها قيمة مضافة لأمن دول المنطقة.

يلاحظ أن دول المنطقة لم تتلق مبادرة إسطنبول للتعاون بحماس واضح. وهو نفس رد الفعل الذي حدث قبل ذلك من جانب دول جنوب المتوسط عندما أعلن الحلف عن مبادرة الحوار المتوسطي. يرجع ذلك إلى أن إطلاق هذا النوع من المبادرات جاء من جانب الحلف بشكل منفرد، ودون إجراء مشاورات مسبقة مع الدول المعنية، بحيث بدا الأمر وكأنه شأنا يخص الحلف. ولأن حلف "الناتو" ليس مؤسسة مانحة توزع المساعدات بلا مقابل، فإن الدول المعنية نظرت بتشكك لهذه المبادرات، بحثًا عما قد يكون وراءها من أهداف خاصة.

لقد تم تحقيق قدر من التقدم في علاقات التعاون بين الطرفين منذ إعلان المبادرة، ومن أهم مظاهر التقدم التي تم تحقيقها توقيع اتفاق بين حلف الناتو ودولة الكويت في مارس 2016م، لتقديم تسهيلات لنقل الأفراد والمهمات التابعين لحلف الناتو إلى أفغانستان. وفي عام 2017م، تم إنشاء المركز الإقليمي لمبادرة إسطنبول/الناتو للتعاون في الكويت، والذي قام بتنظيم عدد من الأنشطة الهامة للتباحث حول قضايا حيوية ذات صلة بأمن المنطقة، بما فيها التعاون في مجالات غير تقليدية، مثل التعاون العلمي، والتبعات الأمنية للتغير المناخي، والتعليم والتدريب والدبلوماسية العامة. ومع هذا فإن تحقيق الاستفادة الكاملة من الفرص التي تتيحها المبادرة لم يتجسد بعد لأسباب يمكن تلخيصها في نقاط محددة.

  1. تتسم الصورة الذهنية الموجودة لدى قطاعات من الرأي العام عن حلف الأطلنطي ببعض ليس قليل من العناصر السلبية، بما يقلل من فرص التعاون بين الجانبين، ويتسبب في نوع من التحفظ لدى دول المنطقة على العلاقة مع حلف الناتو. فرغم أن دول المنطقة تقيم علاقات تعاون أمني وثيقة مع دول غربية من أعضاء حلف الناتو، إلا أن العلاقة مع الحلف يتم النظر لها بشكل مختلف.
  2. تتمسك دول المنطقة بسيادتها واستقلالها بشكل قوي، لذا فإنها تتردد كثيرًا قبل الدخول في علاقات قد يكون لها تأثير على السيادة والاستقلال.
  3. يوجد تفضيل في دول المنطقة للتعامل على أسس ثنائية، وليس في أطر متعددة الأطراف، اعتقادًا بأن قدرة الدولة على توجيه العلاقات الثنائية أكبر كثيرًا من قدرتها على توجيه العلاقات متعددة الأطراف، التي تتسم بقدر كبير من التعقيد.
  4. هناك نقص في المعرفة المتعلقة بالهيكل التنظيمي والطريقة التي يعمل بها حلف الناتو، وما هي المهمات التي يمكن للحلف كمؤسسة القيام بها دون حاجة للرجوع للدول الأعضاء، وما إذا كان التعامل مع الحلف يضيف تكلفة جهد ووقت وتنسيق يمكن تجنبها بالتعامل مباشرة مع الدول أعضاء الحلف.
  5. عدم وضوح القيمة المضافة التي يمكن لحلف الناتو تقديمها لدول المنطقة، والتي تقيم بالفعل علاقات تعاون أمني ودفاعي وثيق مع الدول الرئيسية أعضاء الحلف. وتخشى دول المنطقة من الدخول في أنشطة تمثل تكرارًا لأنشطة مماثلة يتم تنفيذها في إطار العلاقات الثنائية مع دول أعضاء في الناتو، دون أن يكون لذلك قيمة مضافة حقيقية.
  6. في الظروف الدولية الراهنة، خاصة منذ نشوب الحرب في أوكرانيا، أصبح حلف الناتو طرفًا في استقطاب وصراع دولي حاد، بما قد يجعل للتعاون مع الحلف تكلفة سياسية إضافية يمكن تجنبها لو تم التعامل مع الدول أعضاء الحلف مباشرة.

  آفاق المستقبل

كما جرت الإشارة سابقًا، فإن الترجمة العملية المحدودة لمبادرة إسطنبول للتعاون ترجع في جانب كبير منها إلى تفضيل دول الإقليم لعلاقات التعاون الثنائي مع الشركاء، بما في ذلك الحلفاء الغربيين من أعضاء حلف الناتو، على التعاون مع الحلف كمؤسسة متعددة الأطراف. كانت هذه الطريقة في التعامل مع تحديات الأمن في المنطقة لعقود طويلة منسجمة مع مرحلة في تطور النظام الدولي كانت فيها الولايات المتحدة الأمريكية حريصة على الاحتفاظ بوجود قوي ومباشر في الشرق الأوسط والخليج، وعلى القيام بالدور الرئيس في توفير الأمن لحلفائها فيها. لقد تغير هذا الوضع الآن، ولم تعد الولايات المتحدة حريصة على الاحتفاظ بوجود مباشر في المنطقة، على العكس فالولايات المتحدة تبحث عن فرصة للتخفف من التزاماتها في المنطقة، لتوفير الموارد الضرورية لمجابهة التحديات الأمنية المتزايدة في منطقة شرق آسيا. لا يعني هذا التخلي الأمريكي عن الحلفاء، ولكنه يعني عدة أشياء، أهمها إعادة تعريف التهديدات والمواقف التي تتطلب تدخلًا أمريكيًا مباشرًا، حيث تم استبعاد بعض أشكال العدوان والتهديد واعتبارها من فئة التهديد الأقل خطورة الذي يمكن لدول المنطقة التعامل معه مباشرة دون حاجة للضغط على الموارد الأمريكية. أيضًا فإن الولايات المتحدة وفقًا للتوجهات الجديدة تتوقع من حلفائها الاعتماد على أنفسهم بدرجة أكبر في توفير أمنهم، فيما يمكنهم الاعتماد على الولايات المتحدة في تزويدهم بالسلاح والتكنولوجيات العسكرية المتطورة والتدريب والمساعدة في التخطيط وتقديم الاستشارات.

لقد انعكس هذا التحول في قيام حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وشرق آسيا بزيادة الإنفاق الدفاعي، وتطوير أطر مبتكرة متعددة للتعاون الأمني والعسكري. في هذا السياق تكتسب مبادرة إسطنبول للتعاون أهمية مستحدثة، إذ يمكن لها أن توفر إطارًا إضافيًا مفيدًا للتعاون بين دول الخليج والتحالف الغربي، وخاصة لنقل المعرفة والتعاون العلمي والتدريب. بعبارة أخرى فإن الضغوط والطلب المتزايد على الخدمات الأمنية والعسكرية للولايات المتحدة يستلزم توسيع مساحات الشركاء لسد التراجع النسبي المتوقع في القدرات والموارد الأمريكية المتاحة للحلفاء، ويمكن للتعاون مع حلف الناتو أن يمثل أحد أساليب التكيف مع هذا التغير شديد الأهمية.   

لقد أصبح الأمن قضية متشعبة الأبعاد. وفي حين تركز علاقات التعاون العسكري الثنائي على قضايا الأمن الأكثر تقليدية ذات الصلة بالشؤون العسكرية والحرب، فإن التعاون متعدد الأطراف مع حلف "الناتو"، من خلال مبادرة إسطنبول للتعاون، يتيح إمكانية للتعاون وزيادة المعرفة في مجالات كثيرة غير تقليدية الطابع، مثل التبعات الأمنية للتغير البيئي والمناخي، وأمن الطاقة، والتبعات الأمنية للابتكارات التكنولوجية، وإدارة المواد الخطرة البيولوجية والكيماوية والنووية، والتهديدات ذات الطابع الهجين، ومرونة وصمود مؤسسات الدولة والمجتمع في وجه التحديات، وأمن البنية التحتية، والدفاع السيبراني، والتنبؤ الاستراتيجي متعدد الأبعاد، والجوانب الإنسانية والاجتماعية للأمن.  


 

مقالات لنفس الكاتب