array(1) { [0]=> object(stdClass)#13382 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 199

مبادرة صينية من 6 نقاط للخروج من مأزق التحالفات الأمنية التي لم تحقق الحماية أو الردع

الخميس، 27 حزيران/يونيو 2024

في مقال صدر عام 2022م، تحت عنوان " مراجعة لـ 70 عامًا من الناتو" ورد ما يلي:  إننا نحتاج إلى حلف شمال الأطلسي لأربعة أسباب: "الدفاع"، "الاستقرار"، "الحد من التسلح"، "وتشجيع الإصلاح السياسي"، هي مرتكزات لحلف عسكري نشأ في ظل ظروف مغايرة تمامًا لما يمر به عالم اليوم من تغيرات، وهو ما يجعل تلك الأسباب تستحق المراجعة خاصة أنّ العام الحالي هو العام العشرون لمبادرة إسطنبول والتي هي شراكة قائمة بين دول "مجلس التعاون الخليجي" وحلف "الناتو".

 في تلك المناسبة من الممكن أن تُطرح عدة أسئلة حول نوع الأمن الذي حققه "الناتو"، وماهية الأمن التي نحتاجها في عالم اليوم، وهل لم يزل الأمن العالمي هو أمن تقليدي مبنيّ على العسكرة فقط، أم أنّ مفهوم الأمن قد أصبح أكثر اتساعًا بحيث يشمل ما يؤدي إلى معالجة الجذور التي سبّبت تفاقم العجز الأمني العالمي، والذي هو ليس وليد اللحظة إنما له تاريخ طويل بدأ منذ زمن بعيد، ولعلّ ما يحصل من حروب وتوترات في مختلف دول العالم ليس إلا انعكاسًا لهذا العجز.  في هذا البحث ستتم مراجعة مبادئ حلف الناتو ومبادرة إسطنبول، مفهوم الإفراط في الاعتماد على العسكرة، حلف الناتو في الشرق الأوسط والعالم، وصولًا إلى المفهوم النظري لمبادرة الأمن العالمي.

الناتو ومبادرة إسطنبول

بالعودة إلى عام 1949م، أي إلى فكرة تأسيس حلف الناتو كان الهدف الرئيسي من فكرة التأسيس آنذاك وفقًا لما ورد في معظم المراجع التاريخية ردع أي تهديد توسعي من قبل الاتحاد السوفييتي في القارة الأوروبية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية. إذ نقلت المراجع أنه كان يُراد لهذا التحالف العمل بطريقة جماعية لتوفير الحماية المتبادلة لجميع الدول الأعضاء عبر الوسائل العسكرية والتي قد تترافق مع طرق سياسية. ووفقًا لما جاء في الفقرة الخامسة من المادة الخامسة لميثاق تأسيس الحلف والمتعلقة بالدفاع الجماعي: "تتفق الأطراف على أن أي هجوم مسلح ضد أي عضو أو أكثر في الحلف سواء في أوروبا أو أمريكا الشمالية، يُعدّ هجومًا ضد جميع أعضاء الحلف. وبناء على ذلك، تتفق الدول الأعضاء في الحلف على أنه في حالة وقوع هجوم مسلح يحق لجميع الأعضاء ممارسة حق الدفاع عن النفس بشكل أحادي أو جماعي بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لمساعدة العضو أو الأعضاء الذين تعرضوا لهجوم بكافة الوسائل الممكنة فورًا سواء بشكل أحادي أو جماعي، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لاستعادة الأمن في منطقة   شمال الأطلسي والحفاظ عليه".

منذ عام 1999م، بدأ أعضاء هذا الحلف يزدادون بشكل تدريجي فقد انضمت دول منظمة "فيسغراد" الإقليمية والتي تتألف من كل من: "المجر" و"بولندا" و"جمهورية التشيك". أما في عام 2004م، فقد انضمت إلى الحلف دول أخرى مثل: "بلغاريا"، "إستونيا"، "لاتفيا"، "ليتوانيا"، "رومانيا “،” سلوفاكيا" و"سلوفينيا". وفي عام 2009م، وافق حلف الناتو على انضمام "ألبانيا" و"كرواتيا"، ليبلغ عدد أعضائه 30 دولة مع انضمام "الجبل الأسود" الواقعة في جنوب شرق أوروبا عام 2017م، و"مقدونيا الشمالية" عام 2020م، وحتى اليوم لم يزل يوجد بعض الدول التي تصنف على أنها دول تطمح للانضمام إلى "الناتو".

في عام 2004م، نشأت فكرة الشراكة الاستراتيجية بين حلف الناتو وبعض دول الخليج المتمثلة في 4 دول والتي هي: "قطر، الكويت، البحرين والإمارات". وفقا لما ورد سابقًا فإن الفكرة الأساسية لتلك المبادرة نشأت طبقًا إلى مجموعة من الاعتبارات التي تعكس رغبة كلا الطرفين في تأمين مصالحهما على نحو يلائم طبيعة التطورات التي لحقت بالنظام الدولي، والتفاعلات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط عمومًا، لاسيما في أعقاب انتهاء الحرب الباردة مطلع تسعينات القرن الماضي، وما أفرزته هذه التطورات من تداعيات هيكلية وتغييرات جوهرية، دوليًا، وإقليميًا، وخليجيًا. عمومًا تقوم العقيدة الدفاعية لحلف الناتو على أسس متعددة منها:

  • "تعزيز الاستقرار في أنحاء العالم التي من الممكن أن تؤدي إثارة الفوضى فيها إلى التأثير على مصالح أعضاء الحلف حاضرًا ومستقبلا" وهو ما يعني أن مصلحة أعضاء الحلف هي بالدرجة الأولى بغض النظر عن مصالح الدول الأخرى.
  • بناء "الأمن من خلال الشراكة" وهو ما يتضمن تعزيز التنسيق الأمني والعسكري مع باقي الدول، وهو ما قد يكون له صلة مباشرة بإنشاء مبادرة "إسطنبول" لتعزيز التعاون الأمني مع دول الخليج العربي.
  • تطوير عقيدة عسكرية للتعامل الفعّال مع التحديات الأمنية الجديدة بدءًا من القيام بعمليات بناء وحفظ السلام في جنوب شرق أوروبا وحتى في آسيا، مرورًا بمكافحة الإرهاب الدولي، وحتى الاستعداد لدرء مخاطر وتهديدات أسلحة الدمار الشامل.

يرى البعض أن تطور عقيدة الناتو من "الدفاع" إلى "الأمن" تكرّست بـ "مبادرة إسطنبول" فهي عبارة عن تعاون أمني استراتيجي مع دول مجلس التعاون الخليجي (قطر، الكويت، البحرين والإمارات)، وطُرحت على أساس تقديم الحلف المساعدة والمشورة في مجال الأمن الإقليمي، وبناء حوار مع دول الخليج حول القضايا الأمنية الحيوية في المنطقة. وتتراوح الأنشطة في إطار المبادرة من التخطيط الدفاعي وإعداد الميزانية الدفاعية إلى مكافحة الإرهاب وعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل والتأهب المدني. وترتكز المبادرة على أساس ستة مبادئ أساسية: عدم التمييز، والتمايز الذاتي، والمشاركة الثنائية، وعدم الفرض، والتنوع، والتكامل مع المبادرات الدولية الأخرى في المنطقة. ويرى مراقبون أنّ تلك المبادرة حتى اليوم لم تحقق أية نتائج، وكانت تأثيراتها أقل مما هو متوقع. ووفقًا لما ورد في معظم الأبحاث والمقالات والأخبار السياسية، فإنه وعلى الرغم من دعوات الناتو المتكررة فإن المملكة العربية السعودية قد أبدت تحفّظًا على الانضمام إلى هذه المبادرة جاء بناء على عدة نقاط منها: أن المملكة لا ترغب بالدخول في أي نوع من التحالفات لا يعطيها هامش حرية لبناء أمنها وخياراتها. وهو ما يطابق حقيقة أن السعودية لها رؤية خاصة بها تقوم على تنوع الخيارات الاقتصادية بعيدًا عن الأحلاف العسكرية التقليدية.

وكان قد صرّح الأمير خالد بن سعود بن خالد وكيل وزارة الخارجية عام 2008م، رداً على سؤال حول إمكانية انضمام المملكة السعودية إلى مبادرة إسطنبول مع حلف الناتو ما يلي: "نحن نحاول إبعاد المنطقة عن التحالفات الإقليمية والدولية"، مشدداً على "إننا نريد منطقة خالية لأنه يكفيها ما فيها من مشاكل ولا نريد أن نضيف إليها مشاكل ثانية". وهو ما يُحيلنا إلى نقطة أخرى سنناقشها في الفقرة التالية، ألا وهي: هل بات التوجه نحو الإفراط في الاعتماد على العسكرة مفيدًا لدول الشرق الأوسط خصوصًا، ولدول العالم عمومًا؟

الإفراط في العسكرة

منذ أكثر من 30 عامًا طرحت وزيرة الخارجية الأمريكية "مادلين أولبرايت" السؤال التالي: "ما الفائدة من امتلاك هذا الجيش الرائع الذي نتحدث عنه دائمًا إذا لم نتمكن من استخدامه؟ وهو ما يقودنا إلى طرح السؤال التالي: "ما الهدف من استخدام الجيش؟" بشكل مُبسّط يُشكّل ما قالته "أولبرايت" خير مثال على فكرة الإفراط في استخدام العسكرة والعنف. هي سلسلة من الحروب شُنّت ومعظمها كان تحت شعارات "الحرية" و "الديمقراطية"، ومعظمها لم يكرّس أية قيم إنسانية. في هذا الإطار ترى "مايا زيفوس" في بحث نُشر عام 2012م، أن التدخلات العسكرية باسم الإنسانية غالبًا ما تكون متواطئة في “إعادة تمثيل العلاقة الاستعمارية بدلاً من التغلب عليها، باعتبارها المشكلة وليس الحل”. وهو ما يُعيدنا إلى التفكير في كل الحروب السابقة التي شُنت على مختلف الدول هل كانت تهدف فعلًا إلى إقامة حروب بهذه الخطورة، أم أنها كانت حروبًا ناتجة عن رغبة في استخدام الجيوش على حد تعبير "أولبرايت" بغية تشغيل الآلة العسكرية وتحقيق ربح اقتصادي. وعلى الرغم من الروايات الإنسانية التي دفعت إلى التدخل العسكري والحرب، فإن هذا النوع من العنف الناتج عن عسكرة فائضة إن صحّ التعبير، سيؤدي دائمًا إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا والوفيات بين المدنيين. وعلى الرغم من خوضها باسم الإنسان والإنسانية، إلا أنها، على نحو متناقض تقتل الملايين، فهل يُنقذ الملايين بقتلهم. وإذا أخذنا الحرب الأخيرة على غزة مثالًا يمكن أن نرى بوضوح أنّ حصار الشعب الفلسطيني الذي امتد لسنوات طويلة، حتى أصبحت غزة أكبر سجن مفتوح في العالم، لم يؤدي إلى إزالة العنف بل أدى إلى استمراره، وإطالة أمده وإدامته، حتى لو أنه تم تقديم هذا الحصار ر على أنه "بديل إنساني للحرب" إلى أن التوتر الدائم سيولّد عنفًا في النهاية، وهو ما يعني أن جميع العقائد المتمحورة حول "الدفاع" و "الأمن" لن تجدي نفعًا. كما لا بد من التنويه إلى أن تفسير الحرب والخروج بنتائج توحي بأهمية العسكرة للقضاء على سلبيات الوقائع المنتشرة والحماية هو تفسير سطحي لا يؤدي إلا إلى مزيد من العنف، لا سيما وأن الحرب تؤدي إلى تعميق الآثار السلبية من خلال تقويض أي عملية تنموية واقتصادية وإنتاجية عن طريق استهداف البنية التحتية، وبالتالي الحد من الوصول إلى سبل العيش التي تليق بمستوى إنساني، فضلاً عن الغذاء والماء والتعليم والرعاية الصحية، وهو ما يشكل في حد ذاته انتهاكات إنسانية. والملفت أنه وبعد انتهاك حقوق الشعوب بالعسكرة والصراعات تأتي الدول المهيمنة لتوزع المساعدات القسرية على طريقتها للدول التي تم انتهاك سيادتها بالعنف، ولذلك لا بد من القول إن التدخل العسكري حتماً يؤدي إلى خلق أشكال جديدة من الأزمات الإنسانية، على سبيل المثال، من خلال تدمير البنية التحتية المادية والخدمية وما ينتج عنه من أزمات صحية، بسبب عدم الوصول إلى المياه النظيفة مثلًا.

قد يكون في بعض الحالات طرح بعض الأمثلة العملية والواقعية مفيدًا، وكمثال على الجذر الاقتصادي للمشاكل المتفشية والتي لا يؤدي العنف ضدها إلا إلى مزيد من العنف، لأنها تحتاج إلى حلول بطريقة أكثر عمقًا، يُمكن الحديث عما أطلقه كل من حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي في عام 2016م، من عمليات عسكرية ردًا على أزمة اللاجئين المستمرة في البحر الأبيض المتوسط، وقد تحضّرت عندها ألمانيا بمساعدة أمريكية وطلب من كل من تركيا واليونان على الدفاع عن أمن الاتحاد الأوروبي عبر "مراقبة" سفن المهاجرين على حد تعبيرهم. ولكن وبسؤال بسيط يمكن طرحه ما الذي يدفع اللاجئين إلى الهروب من دولهم إلى الدول الأخرى الأكثر تقدمًا، أو ما الذي يدفع الشعوب إلى الهجرة من دول الأطراف إلى المراكز الصناعية المتقدمة؟ أو ما الذي يدفع دول الجنوب إلى الهجرة إلى دول الشمال؟ أليس هو ذاته النهب الاستعماري لبلدانهم، عبر نهب ثرواتهم وتصديرها إلى دول الشمال وهو ما يضطر سكان تلك الدول إلى الهجرة عبر البواخر ورمي أنفسهم في البحار معرضين حياتهم وحياة أطفالهم للخطر رغبة بحياة أكثر إنسانية، فتأتي الحروب والدول المهيمنة ذاتها على ثروات بلدانهم وتقتلهم بحجة الإنسانية. وفي هذا السياق يمكن الإِشارة إلى مفهوم التعاون بين دول الجنوب الذي أطلقته الصين مؤخرًا، والذي يؤدي إلى إعادة إحياء دول الجنوب من خلال تنميتها وتنمية اقتصاداتها، بما لا يؤدي إلى تشكيل عالم يتألف من شمال متقدم وجنوب متأخر. إذ بات هذا النوع من الأساليب التعاونية بين دول العالم بمثابة حاجة لدوره تشكيل دورة تنموية أكثر عدالة وإنصافًا، وقد يغني عن إقامة أحلاف أمنية وعسكرية.

الناتو في دول الشرق الأوسط والعالم

من أحدث ما فشل فيه الناتو اليوم هو أنه وسبب اعتماده المفرط على العسكرة، بدأ يوسع نفوذه بناء على جوانب القوة العسكرية التي تولد حلقات غير منتهية من العنف، وقد يكون من المنصف القول إن "حلف الناتو" هو في النهاية تحالف عسكري أُنشئ بغاية الردع، ولذلك من الطبيعي أن يقوم بالاعتماد على العسكرة، ولكن هل هي من الحلول المجدية دائما؟  فمثلًا في الوقت الذي يزداد فيه عمق الأزمة الاقتصادية في أوروبا، والتي لم يتم حتى اليوم إيجاد حلول فعلية لها، فإن الإنفاق الدفاعي في العام 2023م، ازداد بنسبة غير مسبوقة بلغت 11% في جميع أنحاء أوروبا وكندا. هذا الإنفاق الدفاعي ذاته شكّل مشكلة بين الرئيس الأمريكي السابق ترامب وبعض دول الاتحاد الأوروبي، فقد اعترضت إدارة "ترامب" في وقت سابق على عدم التزام غالبية أعضاء الجانب الأوروبي من حلف الناتو بإنفاق النسبة المتفق عليها والتي هي تقابل ما قيمته 2% من الناتج المحلي الإجمالي. ولا بد من الإشارة إلى أن الحرب الروسية / الأوكرانية حدثت بعد التلويح بدخول أوكرانيا لحلف الناتو وهو ما أدخل أوروبا بحالة اقتصادية سيئة قد تزداد تداعياتها يوما بعد يوم، وحتى اليوم فإن الدول الأوروبية ترغب بتبعية أقل للجانب الأمريكي. وهو ما لا تستطيع القيام به، الأمر الذي ولّد نوعا من الانشقاق والخلاف في جانبي الحلف الأمريكي والأوروبي، على سبيل المثال قد صرّح الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" بعد زيارته للصين قائلًا: "أن تكون حليفاً لا يعني أن تكون تابعاً... ولا يعني أنه لم يعد من حقّك أن يكون لك تفكيرك الخاص، فرنسا تؤيّد الوضع القائم بين مضيق تايوان الصينية، وتؤيد سياسة الصين الواحدة والتوصّل لتسوية سلمية للوضع"، الأمر الذي بالطبع لن ترضى عنه الولايات المتحدة الأمريكية.  وهو ما يعني أنه وفي ذروة الإنفاق على العسكرة فإن الأزمات الاقتصادية تلاحق تلك الدول. وفي إطار الحديث عن عسكرة الأزمات غير العسكرية قد يكون من المفيد مراجعة ما قام به الناتو سابقًا في الشرق الأوسط بدءًا من أفغانستان، إذ أنه وعقب أحداث 11 سبتمبر في عام 2001م، قام حلف الناتو بغزو أفغانستان وبقي فيها مدة 20 عامًا، وعندما غادرت قواته أفغانستان كانت قد عاثت دمارًا وقتلًا، وهو ما يعيدنا إلى ما ورد سابقًا في الفقر السابقة، "القتل للحماية!!". أو مثلا التدخل في ليبيا في عام 2011م، ضمن ما يُسمى بثورات الربيع العربي، فحتى اليوم لم تتمكن ليبيا من الخروج مما هي فيه بعد تدخّل قوات الناتو. فبعد أن دعمت قوات الناتو ما يسمى بـ "الثوار" في ليبيا صرّح وزير الخارجية الألماني في ذلك الوقت "غيدو فيسترفيله" أن وفاة القذافي بدت للسياسيين الغربيين كفرصة لبداية جديدة وقال: "نأمل أن يتمكن الشعب الليبي الآن بعد عقود من الديكتاتورية من فتح فصل جديد سلمي وديمقراطي".  فهل تمكنت  ليبيا من الخروج من الدمار حتى اليوم.

وهو ما يدفع إلى طرح السؤال التالي: "هل أدت الحماية والردع والدفاع والتي هي بمثابة مبادئ أساسية لدى حلف الناتو إلى تحقيق نتائج مرضية لكل الأطراف؟"، لا سيما وأن أحد أطراف الحلف ذاته قد وقع في مأزق اقتصادي من الممكن أن يستمر في حال استمرار الحرب الأوكرانية.  ما سبق لا يحيلنا إلا إلى استنتاج وحيد، تغيّرت المفاهيم، ولم يعد مفهوم الأمن يعتمد على العسكرة بقدر ما يعتمد على حوكمة لا تملكها الأحلاف العسكرية التقليدية التي كانت قائمة ولم تزل. وهو ما يحيلنا إلى الحديث عن مبادرة الأمن العالمي التي اقترحها الرئيس الصيني "شي جين بينغ"

المفهوم النظري لمبادرة الأمن العالمي

لا يمكن للصين أن تنظر إلى الأمن العالمي وفقًا للمفهوم التقليدي السائد، ولذلك كانت قد أطلقت مبادرة الأمن العالمي، فالتوترات القائمة في عالم اليوم تحتاج إلى حلول مبتكرة، سواء ما يتعلق بالحرب الروسية / الأوكرانية مرورًا بتواجد القوات الأمريكية في بحر الصين الجنوبي وصولًا إلى التوترات الأخيرة في مقاطعة تايوان الصينية والتي هي جزء لا يتجزأ من الصين باعتراف الأمم المتحدة عام 1971م، إذ قامت الجمعية العامة للأمم المتحدة بإصدار قرار 2758 والذي اعترف بجمهورية الصين الشعبية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للصين في الأمم المتحدة.

في عام 2022م، أقيم حفل افتتاح المؤتمر السنوي لمنتدى "بواو" الآسيوي "هاينان"، وقد ألقى الرئيس الصيني شي جين بينغ كلمة تحت عنوان " يداً بيد لمواجهة التحديات، والتعاون لفتح آفاق للمستقبل"، طرح خلالها "مبادرة الأمن العالمي" للمساهمة في الحلول والحكمة الصينية لتعزيز الأمن العالمي، في مواجهة عجز السلام العالمي المتزايد، والعجز الأمني، وعجز الثقة، وعجز الحوكمة، وقائمة التحديات الأمنية المتزايدة التي تواجه المجتمع البشري.، إذ أنّ دول العالم اليوم تواجه عجزًا غير مسبوق، يقتضي التحرك نحو الابتكار، فعندما تنادي الصين بأهمية الابتكار، والتوجه نحو الحلول المبتكرة، فإنها تقصد بالابتكار شموليته وعدم اقتصاره على الجوانب التكنولوجية أو العلمية، خاصة أنّ ما وصل إليه العالم اليوم من مشاكل يوحي بضرورة الإسراع نحو حلول مبتكرة وغير تقليدية تخدم القيم الإنسانية.

وبغية توضيح ما تنطوي عليه مبادرة الأمن العالمي من مفاهيم ومبادئ، فقد نشرت وزارة الخارجية الصينية رسمياً يوم 21 فبراير 2023م، "الوثيقة المفاهيمية بشأن مبادرة الأمن العالمي". ترتكز تلك الوثيقة على عدة اعتبارات وهي:

  • "الالتزام بمفهوم الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام، إذ يجب العمل بشكل مشترك على الحفاظ على السلام والأمن العالميين" وهو ما يعني أن مفهوم الأمن هو أمن مشترك لجميع الدول لا يطبق على دول بعينها بما يكفل مصالحها وأمنها بغض النظر عن الدول الأخرى.
  • "الالتزام باحترام سيادة ووحدة أراضي جميع البلدان، ودعم عدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام الخيارات المستقلة لمسارات التنمية والأنظمة الاجتماعية التي يتخذها الناس في مختلف البلدان". وهو ما يتنافى مع فكرة شن هجوم على دولة ما بغيّة إصلاحها.
  • "الالتزام بمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ورفض عقلية الحرب الباردة، ومعارضة الأحادية، والقول لا لسياسات التحالفات والمواجهة بين التكتلات".
  • "الالتزام بأخذ الشواغل الأمنية المشروعة لجميع البلدان على محمل الجد، والتمسّك بمبدأ الأمن غير القابل للتجزئة، من أجل بناء هيكل أمني متوازن وفعال ومستدام" وهو ما يعطي للاستدامة بعدًا أكثر عمقًا، بما يلا يقتصر على البيئة الخضراء فقط، بل على أمن وسلام مستدامين.
  • "الالتزام بالحل السلمي للخلافات والنزاعات بين الدول من خلال الحوار والتشاور، ودعم كل الجهود التي تؤدي إلى التسوية السلمية للأزمات، ورفض المعايير المزدوجة، ومعارضة الاستخدام التعسفي للعقوبات الأحادية والولاية القضائية طويلة الذراع".
  • "الالتزام بالحفاظ على الأمن في المجالات التقليدية وغير التقليدية، والعمل بشكل مشترك على حل النزاعات الإقليمية والتحديات العالمية مثل الإرهاب وتغير المناخ والأمن السيبراني والأمن البيولوجي." وهو ما يؤكد على أن الأمن هو مفهوم متعدد الأبعاد.

وأما السبب الرئيسي لطرح تلك المبادرة فهو الطرق المسدودة التي توصلت إليها التحالفات الأمنية والتي لم تتمكن من تأمين الحماية أو الردع بل على العكس تمامًا كانت النتائج كارثية على الأطراف كافة. إذًا فإن جوهر ما يمكن فعله لإقامة أمن عالمي هو التوجه نحو جذر المشكلة وأصلها عبر حلها من خلال إقامة تعاون بين دول العالم كافة لإحلال سلام عالمي قائمة على توازنات اقتصادية واجتماعية بالدرجة الأولى، ومن ثم فإن التوازنات الأمنية عندها تصبح أكثر واقعية.

خاتمة

قد تؤدي عملية فصل المفاهيم إلى عدم وضوح في الرؤية، فمن يفصل الاقتصاد عن السياسة عن الأمن وحتى عن الحضارة. وحتى من يفصل نفسه عن الآخر، ويعتبر أن كل دولة تعيش في جزيرة منعزلة عن الأخرى، لن يصل به الطريق إلا ما     وصل إليه العالم اليوم من إخفاق. فكما قال الرئيس الصيني: "في هذا العالم ، يوجد أنت ويوجد أنا". كما لا بد من التأكيد على أنّ مشاكل الدول المتخلّفة لن تُحل بالغزو العسكري لإحلال السلام فيها، فكما يُقال باللغة العربية: "ما بُني على باطل فهو    باطل" وما بني على عسكرة وعنف لن يفضي إلى السلام.

أخيرًا: في عالم اليوم لا يمكن للعسكرة المفرطة إلا أن تنتج المزيد من الحروب، وهو ما يدفع إلى التأكيد مرارًا على أهمية التوجه نحو حلول أمنية غير تقليدية تُنتج السلام للعالم كله. في كتاب حول "نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" ترد العبارة التالية: "إن كان كل شيء واقع فيما مضى، يصبح في مجرى التطور غير واقع، وبذلك فإنه ومحل الواقع المحتضر يحل واقع جديد صالح للحياة"، وهو تمامًا ما يحصل اليوم إذ أنّ مشاكل العالم الراهن التي تراكمت وأنتجت واقعًا عنيفًا، لا بد من أن تنتهي ليحل محلها واقع جديد أكثر إنسانية.


 

مقالات لنفس الكاتب