array(1) { [0]=> object(stdClass)#13478 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 200

أوامر المحكمتين أوجدت ديناميكية ‏غير مسبوقة للتعبئة القانونية ‏في ‏تاريخ نضال الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه

الإثنين، 29 تموز/يوليو 2024

منذ قيام إسرائيل عام 1948م، دأبت أمريكا على عرقلة كل ‏المحاولات الفلسطينية الرامية ‏إلى الاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة ذات سيادة وانضمامها ‏كعضو كامل ‏العضوية لمنظمة الأمم المتحدة. وعندما قررت منظمة التحرير الفلسطينية، من خلال مجلسها الوطني، ‏في الجزائر في 15 ‏نوفمبر 1988م، ‏إعلان قيام دولة ‏فلسطين على حدود الرابع من يونيو 1967م، ‏فيما عرف بوثيقة الاستقلال، توالى اعتراف مئة دولة رسمياً بالدولة ‏الفلسطينية المستقلة.

وحصلت فلسطين، في تصويت ‏تاريخي في نوفمبر عام 2012م، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ‏على "صفة دولة ‏مراقب غير عضو في الأمم المتحدة"، يحق لها الانضمام إلى ‏هيئات الأمم المتحدة ‏ووكالاتها المتخصصة، ‏وكذلك الانضمام إلى المعاهدات الدولية الجماعية المبرمة في ‏إطارها، ذلك دون أن تتمتع بالعضوية ‏الكاملة وحق التصويت. ‏وانضمت فلسطين في عام 2012م، إلى اتفاقية ‏الأمم المتحدة لمنع جريمة إبادة الجنس ‏البشري والمعاقبة عليها ‏والصادرة في عام 1948م، (اتفاقية الإبادة)، وذلك ضمن عشرات الاتفاقيات الدولية التي أبرمت في نطاق المنظمة). ‏

وفي 13 يونيو 2014م، انضمت فلسطين إلى النظام ‏الأساسي للمحكمة الجنائية ‏الدولية في أعقاب الحرب الإسرائيلية ‏الثالثة على قطاع غزة في صيف ذلك العام، أما بالنسبة لمحكمة العدل الدولية، فقد اعترفت دولة فلسطين في ‏‏31 مايو 2024م، باختصاصها ‏الإلزامي بنظر آية منازعات ‏قانونية تكون دولة فلسطين طرفاً فيها. وفي 4 يونيو ‏‏2024م، ‏طلبت السلطة الفلسطينية ‏الانضمام كطرف في دعوى الإبادة الجماعية التي ‏رفعتها ‏جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في 29 ديسمبر ‏‏2023م.‏

في هذا المقال نلقي بالضوء على دور المحكمتين في التعامل ‏مع قضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وممارساته المنتهكة لأحكام ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي والإنساني الدولي، ‏ ومدى فاعلية هذا الدور، والتحديات التي تواجهه، وذلك على ‏التفصيل التالي: ‏

أولاً: المحكمة الجنائية الدولية: ‏

نتناول هنا النقاط التالية: ‏

‏1-‏ نبذة حول إنشاء المحكمة وطبيعتها واختصاصاتها: ‏

تأسست المحكمة عام 2002م، بموجب معاهدة دولية وافقت على ‏نصها النهائي 120 دولة في 17 ‏ يوليو 1998م،  في ‏ختام مؤتمر دبلوماسي عقد في روما، ما عرف ‏بـ نظام روما ‏الأساسي"، الذي دخل حيز النفاذ في 11 إبريل 2002م، وهو تاريخ ميلاد المحكمة.‏ ومن المهم التأكيد على أن هذه المحكمة تتسم بالديمومة، خلافاً ‏للمحاكم الجنائية الدولية المؤقتة التي سبقتها،‏والتي أنشئت بموجب قرارات خاصة من مجلس الأمن بموجب ‏الفصل السابع من ‏الميثاق، ومنها: المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة ‏التي أنشئت في بدايات ‏تسعينيات القرن الماضي، والمحكمة ‏الجنائية الدولية لرواندا، والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان ‏وغيرها. ‏

وتشمل أجهزة المحكمة الجنائية الدولية: ‏ جمعية الدول الأطراف، التي تتولى الدورين التشريعي والرقابي ‏للمحكمة، ‏والرئاسة المعنية بالشؤون الإدارية، والأجهزة القضائية ‏والتي تضم ثلاث غرف رئيسية هي: غرفة ما قبل ‏المحاكمة، ‏والمحاكمة، والاستئناف، ويضم كل منها ستة قضاة خبراء ‏ومتخصصون في القانونين الجنائي ‏والدولي، ومكتب المدعي ‏العام ومسجل المحكمة. ‏

وتجدر الإشارة إلى أن المحكمة ليست من أجهزة الأمم ‏المتحدة، حيث تعمل بصفة مستقلة عنها، ‏بالرغم من أنها مطالبة ‏بتقديم تقرير سنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة عن أنشطتها. ‏

وهناك فرق جوهري بين المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل ‏الدولية، فالأخيرة تختص ‏بتسوية المنازعات بين الدول، ‏بينما تختص الأولى بمحاكمة الأفراد عن جرائم أربع نص عليها نظامها ‏الأساسي ‏وهي: ‏جريمة الإبادة الجماعية، ‏جرائم الحرب، ‏الجرائم ضد الإنسانية و ‏جريمة العدوان. ‏

‏ وعرضت على ‏المحكمة، حتى العام الماضي، 32 قضية، بعضها ‏تضم أكثر من مشتبه به. ومن مجموع 49 أمر اعتقال ‏أصدرته ‏المحكمة، تم اعتقال 21 مشتبهاً به، بينما لايزال 20 متهماً طليقاً. ‏وتم إسقاط التهم عن 7 أشخاص ‏للوفاة. وأصدر قضاة المحكمة 11 ‏حكماً بالإدانة و4 أحكام بالبراءة. ‏

يقع مقر كلتا المحكمتين في لاهاي. وكل من المحكمتين يعتمد في تنفيذ ما ‏يصدر عن أي منهما من ‏أحكام أو أوامر بصفة أساسية على تعاون الدول ‏والوفاء بالتزاماتها ‏الدولية، والالتزام بمبدأ "حسن نية"، وهو مبدأ هام من مبادئ العلاقات الدولية، والذي أكده ‏ميثاق الأمم المتحدة ‏في المادة 2.

2-الولاية القضائية للمحكمة على الأراضي الفلسطينية ‏المحتلة: ‏

في 13 يونيو 2014م، أودعت حكومة فلسطين إعلاناً، ‏بموجب المادة 12 من نظام ‏روما الأساسي، تقبل بموجبه ‏اختصاص المحكمة على الجرائم المدعى بارتكابها في الأراضي ‏الفلسطينية ‏المحتلة بما فيها القدس الشرقية. لكن بسبب ضغوط أمريكية ‏هائلة مورست على السلطة الوطنية الفلسطينية ‏وعلى المحكمة ذاتها، ‏لم تتمكن هذه الأخيرة من التحرك فعلياً.

وحتى عندما أعلنت المحكمة، ‏في 18 نوفمبر2023م، أن جنوب إفريقيا ومعها أربع ‏دول أطراف في النظام الأساسي للمحكمة، ‏تقدمت بطلب للتحقيق في ‏مجريات وآثار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لم تفصح المحكمة ‏عما تعتزم القيام ‏به من إجراءات حيال هذا الطلب حتى الآن.

وقد اعتبر المدعي العام للمحكمة كريم خان (بريطاني من ‏أصل ‏باكستاني)، أن المحكمة ‏مختصة فيما يتعلق بالجرائم ‏المرتكبة على أرض فلسطين بما فيها ‏غزة، اعتباراً من 13 يونيو 2014م، بما في ذلك ‏الجرائم ‏التي يرتكبها مواطنون فلسطينيون داخل الأراضي الفلسطينية ‏أو خارجها. ومن ثم، للمحكمة ولاية قضائية ‏على المواطنين ‏الإسرائيليين والفلسطينيين أو غيرهم، ممن يرتكبون جرائم في غزة أو ‏الضفة الغربية. كما ‏أن لها ولاية قضائية على المواطنين الفلسطينيين ‏المدعى بارتكابهم جرائم على أراضي إسرائيل، هذا رغم أن ‏الأخيرة ليست ‏طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة. ‏

3-الجرائم المدعي بارتكابها والقانون الواجب التطبيق: ‏

في بيان متلفز بتاريخ مايو 2024م، اعتبر المدعي العام للمحكمة أنه ‏استناداً إلى الأدلة التي جمعها مكتبه، والتي ‏وصفها "بأنها نتاج ‏تحقيق مستقل ومحايد." وبناء على الدعم الذي قدمه له فريق من ‏الخبراء القانونيين الدوليين ‏‏"المحايدين"، بناءً على طلبه، ‏فإن لديه أسباباً معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو، ويوآف ‏جالانت وزير الدفاع، يتحملان المسؤولية ‏الجنائية عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في قطاع غزة اعتباراً من الثامن من أكتوبر 2023م، على الأقل. وتشمل هذه الجرائم: ‏

أ‌-‏ تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، باعتباره ‏جريمة حرب، والمعاملة ‏الوحشية باعتبارها جريمة حرب، وذلك بالمخالفة للمواد ذات ‏الصلة من نظام روما ‏الأساسي (المادة 8) ‏

ب‌-‏ القتل العمد باعتباره جريمة حرب وتعمّد توجيه ‏هجمات ضد السكان المدنيين باعتباره ‏جريمة حرب، والإبادة أو ‏القتل العمد، بما في ذلك الموت الناجم عن ‏التجويع، ‏باعتباره جريمة ضد الإنسانية، والاضطهاد باعتباره ‏جريمة ضد الإنسانية.

من ناحية أخرى، ذكر بيان المدعي العام أنه استناداً إلى الأدلة ‏التي جمعها مكتبه وفحصها، فإن لديه ‏أسبابًا معقولة ‏للاعتقاد بأن يحيي السنوار ‏ومحمد دياب إبراهيم المصري الشهير ‏باسم الضيف القائد الأعلى للجناح العسكري لحماس، ‏وإسماعيل هنية رئيس المكتب ‏السياسي لحماس، يتحملون المسؤولية عن جرائم ‏حرب وجرائم ‏ضد الإنسانية، ارتكبت في إسرائيل وفي ‏قطاع غزة اعتباراً من ‏7 أكتوبر 2023م، ‏على الأقل.

وأشار المدعي العام إلى أنه تقدم بهذه الطلبات للدائرة التمهيدية للمحكمة لاستصدار أوامر اعتقال للمشار إليهم. واستنتج الادعاء بأن النزاعين في إسرائيل وغزة يشملان نزاعاً مسلحاً دولياً، وهو ما تتطلبه جرائم الحرب، ونزاعاً مسلحاً غير دولي، يجريان بالتوازي.

4-كشف المدعي العام للمحكمة عن تعرض طاقم ‏المحكمة لضغوط هائلة لعرقلة عمل المحكمة: ‏

كان واضحاً منذ البداية، أن مكتب الادعاء العام ‏للمحكمة وقضاتها، وموظفيها بصفة ‏عامة، يتعرضون لضغوط ‏هائلة تعرقل اضطلاعها بعملها بالاستقلال والحيادية المطلوبة لأي ‏جهاز ‏قضائي. ‏

وحتى قبل إعلان المدعي العام استصدار مذكرات الاعتقال، ‏مارست أمريكا وإسرائيل ‏ضغوطاً شديدة على القيادة ‏الفلسطينية لتجنب اللجوء للمحكمة ابتداءً، وأصدرت وكالة ‏بلومبيرغ تقريراً نقلته الصحافة الإسرائيلية في 30 إبريل 2024م، -يفيد" بأن أمريكا ‏والدول الحليفة، بما فيها دول ‏مجموعة السبع الكبرى، أطلقت حملة خلف الكواليس ‏لإثناء المحكمة ‏عن إصدار أوامر الاعتقال." ولم تنكر أي من ‏الدول السبع ذلك، وتحدثت وسائل إعلام بريطانية وأمريكية عن ضغوط ‏وتهديدات مارسها رئيس ‏الموساد الإسرائيلي ‏السابق ضد المدعية العامة السابقة "فاتو بن سودا‏"

وفي بيان رسمي قال المدعي العام " إنني متمسك بـضرورة الإيقاف ‏الفوري لكل محاولات عرقلة مسؤولي المحكمة وإرهابهم، أو ‏التأثير عليهم بشكل غير ‏لائق. ولن يتردد مكتبي في التصرف ‏عملاً بالمادة 70 من نظام روما الأساسي، إذا استمر هذا ‏السلوك"

والصادم أنه بمجرد صدور بيان المدعي العام، وجهت كل من ‏أمريكا وبريطانيا، وإيطاليا ‏والتشيك، ‏انتقادات شديدة للمحكمة. ووصف الرئيس ‏بايدن، في تصريحات ‏لقناة ‏CNN‏ الأمريكية في 20 مايو ‏‏2024م، طلبات الاعتقال ضد القادة الإسرائيليين بأنها ‏‏"شائنة"، ‏وتعهد بالوقوف إلى جانب إسرائيل، وذهب مجلس النواب الأمريكي، إلى ‏مدى أبعد عندما أقر تشريعاً في 6 مايو ‏‏2024م، تحت عنوان " قانون العمل المضاد للمحكمة غير الشرعية"، بفرض ‏عقوبات على مسؤولي المحكمة الذين يستهدفون أمريكيين ‏وإسرائيليين بالتحقيق أو ‏المحاكمة.

5-ماذا لو أصدرت المحكمة أوامر اعتقال المشتبه فيهم ‏كطلب المدعي العام؟

بادئ ذي بدء، حتى الآن لم تصدر الدائرة التمهيدية للمحكمة ‏أوامر القبض التي أعلن المدعي العام أنه ‏طلب إصدارها في 20 ‏ مايو الماضي. وبفرض أنها ستقوم بذلك في مرحلة ما ‏في المستقبل، فما هي التدابير الواجب تنفيذها حينئذ؟

في حال صدور أوامر القبض تدعو المحكمة الدول ‏الأطراف في النظام الأساسي ‏المنشئ لها، وأحياناً مجلس الأمن الدولي، للمساعدة في تطبيقه. ‏ثم تخطر ‏الدول المعنية بفحوى القرار وبالعمل على تطبيقه، ومن ‏ثم يتم تعميم نشرات تتضمن بيانات الشخص المطلوب ‏ضبطه، وسبب ‏ذلك.

‏ لكن في ظل ‏عدم امتلاك المحكمة ‏وسائل ضبط وإحضار. تحتفظ كل دولة بحقها في ‏توقيف المتهمين، أو تجاهل ذلك. وقد سبق للمحكمة أن أصدرت في مارس 2009م، ‏مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني ‏الأسبق عمر البشير، غير ‏أن دولاً إفريقية أعضاء في نظام المحكمة رفضت توقيفه عندما ‏زارها. كذلك ‏أصدرت المحكمة أمر اعتقال، في مارس ‏‏2023م، بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ارتباطاً ‏بالحرب ‏في أوكرانيا، ولكنه زار دول عدة رفضت أيضاً توقيفه. ‏ كل ذلك بالرغم من نص المادة 89 من قانون المحكمة الذي يؤكد أنه يتعين على الدول الأطراف الامتثال لطلبات المحكمة، وأيضاً نص المادة 27 التي تؤكد عدم الاعتداد بالصفة الرسمية في تطبيق إجراءات القبض أو التسليم.

6-خلاصة وتقييم: ‏

هناك ما يشبه الإجماع على أن حصيلة المحكمة الجنائية الدولية ‏منذ إنشائها، وحتى الآن، غير مرضية ‏ومثيرة للجدل، نظراً ‏لتركيزها في عملها على القارة الإفريقية.  فبعد زهاء ‏عقدين من العمل ‏ونحو 30 قضية نظرتها المحكمة، تمخض ذلك ‏عن أربع إدانات تم تنفيذها في حق متمردين من إفريقيا ‏لارتكابهم ‏جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وقد اتهم الاتحاد ‏الإفريقي المحكمة "بالنزعة الاستعمارية"، ‏وممارسة ‏‏"مطاردة عنصرية" بسبب ملاحقتها الحصرية لجرائم ‏في إفريقيا. وكان لافتاً أن المدعي العام للمحكمة، ‏في مقابلة مع ‏قناة ‏CNN‏ الأمريكية في 21 مايو 2024م، نقل عن أحد كبار ‏السياسيين الغربيين قوله له، "هذه المحكمة أنشئت من أجل ‏إفريقيا والسفاحين مثل الرئيس الروسي بوتين"، على حد ‏تعبيره. ‏

وفي ظل ما سبق، ومنذ إنشائها، لازمت المحكمة اتهامات الكيل بمكيالين. وبسبب ‏تناقضات السياسة الخارجية الأمريكية الصارخة مثل ‏الدعم ‏المطلق لدور المحكمة في حالة أوكرانيا وفرض عقوبات عليها ‏في الحالة الفلسطينية، يشكك قانونيون كثر في قدرة المحكمة ‏على إدانة مسؤولين حكوميين. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه حتى أواخر عام 2020م، لم يتم تأكيد نحو 62% من اتهامات جهاز الادعاء خلال اجراءات ما قبل المحاكمة.

أخيراً من الصعب الادعاء بأن المحكمة جهاز قضائي مستقل، ‏خاصة في ظل سلطتي الاحالة والإرجاء، ‏اللتين يمنحهما نظام ‏روما الأساسي لمجلس الأمن الدولي بموجب المادتين 13 و16 ‏منه. وهنا تحديداً تكمن معضلة مدى التزام الدول ‏بالقواعد ‏الدولية، خاصة في ضوء حرص الدول ‏الخمس الدائمة العضوية على احتكار نفوذ مطلق ‏في المجلس، ‏"ولكن في إطار قانون مصالح الأقوياء وحسابات المصلحة ‏والمنفعة. ‏فالدول تتحرك في فضاء لا ‏يتسع إلا للعبة المصالح"، وذلك مثلما ذهب بعض شراح ‏القانون ‏الدولي المرموقون. ‏

ثانيًا: محكمة العدل الدولية والقضية الفلسطينية:

تناولت محكمة العدل الدولية، قضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ‏لأول مرة عام ‏‏2004م، ذلك عندما أصدرت ‏رأيا استشاريا في ‏‏9 يوليو من ذلك ‏العام حول التبعات القانونية لبناء ‏الجدار الفاصل على ‏الأراضي الفلسطينية ‏المحتلة.

وفي20 يناير 2023م، أصدرت المحكمة بياناً أعلنت ‏فيه ‏أنها ‏تلقت من الجمعية العامة للأمم المتحدة طلب إبداء الرأي ‏الاستشاري في ‏مسألتين قانونيتين يتعلقان بالآثار ‏القانونية ‏الناشئة عن انتهاك إسرائيل ‏المستمر لحق الشعب الفلسطيني في ‏تقرير المصير، وعن احتلالها ‏طويل الأمد ‏للأراضي الفلسطينية ‏المحتلة منذ عام 1967م، واستيطانها وضمها إليها، وتغيير التكوين الديموغرافي لمدينة القدس ‏الشريف ‏وكذلك طابعها التاريخي، أما ‏المسألة الأخرى فتتعلق بكيفية تأثير ‏سياسات إسرائيل وممارساتها على ‏الوضع ‏القانوني للاحتلال، ‏وماهي الآثار القانونية المترتبة على هذا الوضع بالنسبة ‏لجميع ‏الدول ‏والأمم ‏المتحدة.                  ‏‏        ‏

وقد جاء طلب الجمعية العامة هذا الرأي الاستشاري تنفيذاً ‏لقرارها 247/77، ‏بناء على تقرير لجنة ‏المسائل السياسة ‏الخاصة وإنهاء الاستعمار (اللجنة ‏الرابعة)، إحدى لجان الجمعية ‏العامة الست.  ‏

وبالإضافة إلى ما تقدم، وبناء على دعوى تقدمت بها جنوب ‏إفريقيا ضد إسرائيل ‏في 29 ديسمبر 2023م، ‏أصدرت المحكمة مجموعة أوامر ‏تضمنت التدابير ‏الموقتة "‏‎‎Provisional Measures‏"، وفقًا للمادة ‏‏14 من ‏نظامها الأساسي، من أجل حماية حقوق الشعب ‏الفلسطيني من ‏انتهاك ‏إسرائيل لالتزاماتها بموجب أحكام اتفاقية ‏الإبادة لعام 1948م، ‏وذلك لحين قيام المحكمة بالفصل في ‏موضوع القضية الذي قد ‏يستغرق ‏سنوات. ‏

وعلى ذلك، نتناول دور محكمة العدل الدولية ارتباطًا بقضية ‏الاحتلال الإسرائيلي ‏لفلسطين، من خلال النقاط التالية: ‏

  • محكمة العدل الدولية والقواعد ‏الواجبة ‏التطبيق أمامها: ‏

أفرد واضعو ميثاق الأمم المتحدة الفصل الرابع عشر (المواد من ‏‏92 إلى 96) ‏ لمحكمة العدل الدولية، الأداة القضائية الرئيسية ‏للأمم المتحدة، حيث تتكون من 15عضوًا، يتم ‏انتخابهم لمدة 9 ‏سنوات من قبل الجمعية ‏العامة، ومجلس ‏الأمن من قائمة يعدها الأمين ‏العام ‏للأمم ‏المتحدة، ويجوز إعادة انتخابهم. ويراعى في تشكيل المحكمة أن ‏يعكس ‏تمثيل الحضارات ‏الكبرى والنظم القانونية الرئيسية في ‏العالم.  ‏

وللمحكمة نوعان من الاختصاص: اختصاص إلزامي واختصاص ‏إفتائي. ‏ وينعقد الاختصاص الإلزامي بالفصل في المنازعات القانونية ‏التي تحيلها ‏عليها الدول في الأحوال التالية: ‏اتفاق أطراف ‏النزاع على عرضه على المحكمة، ‏ قبول الأطراف للاختصاص ‏الإجباري للمحكمة، ‏وحالة وجود معاهدة تتضمن نصاً يقرر وجوب إحالة ‏المنازعات المتعلقة ‏بتطبيقها على المحكمة.  ‏

أما عن القانون الواجب التطبيق أمام المحكمة، فقد نصت المادة 38 ‏من النظام ‏الأساسي للمحكمة على أن ‏وظيفتها هي " الفصل في ‏المنازعات التي ترفع إليها ‏وفقًا لأحكام القانون الدولي، وتطبق على الترتيب التالي: ‏

‏•‏‏ الاتفاقات الدولية العامة والخاصة التي تضع قواعد معترفاً ‏بها من جانب ‏الدول ‏المتنازعة. ‏

‏•‏ العرف الدولي الذي يعتبر قانون دل عليه ‏تواتر الاستعمال ‏

‏•‏ مبادئ القانون العام التي أقرتها الأمم المتمدينة. ‏

‏•‏ أحكام المحاكم ومذاهب كبار فقهاء القانون العام في ‏مختلف الأمم. ‏

ولا يخل ما تقدم بسلطة المحكمة في الفصل في القضية وفقاً ‏لمبادئ العدل ‏والإنصاف، متى وافق أطراف ‏الدعوى على ذلك. ‏

أما عن الاختصاص الافتدائي للمحكمة، فقد أقر الميثاق هذه السلطة ‏للمحكمة بناء على طلب الجمعية العامة و ‏مجلس ‏الأمن وسائر ‏فروع المنظمة، ممن ‏يجوز ‏أن تأذن لها ‏الجمعية العامة بذلك في أي وقت، فيما يعرض لها ‏من ‏المسائل القانونية الداخلة في نطاق أعمالها. ‏ويشار إلى أنه حتى إبريل2024م، أصدرت ‏المحكمة 157 حكمًا، وأكثر ‏من 660 قراراً و33 رأياً استشارياً. ‏

‏2– أوامر المحكمة في الدعوى التي قدمتها جنوب إفريقيا ‏ضد ‏إسرائيل: ‏

في 29 ديسمبر 2023م، تقدمت جنوب ‏إفريقيا بدعوى أمام ‏المحكمة ضد إسرائيل واتهامها بانتهاك ‏التزاماتها بموجب اتفاقية ‏الإبادة، وطلبت من ‏المحكمة الأمر بتدابير مؤقتة ‏فورية تلزم إسرائيل ‏باتخاذ ما يلزم لمنع جريمة الإبادة ‏الجماعية ‏حيث توجد أدلة موثقة وشواهد ‏ تشير إلى نية إسرائيل ‏ارتكاب هذه الجريمة، وجرائم ‏حرب أخرى ضد ‏الإنسانية، ‏تستوجب قيام المحكمة بإصدار هذه التدابير للحفاظ على ‏حقوق ‏الشعب ‏الفلسطيني. ‏

بالفعل أصدرت المحكمة، في 26 يناير 2024م، أمراً يشمل ستة ‏تدابير مؤقتة ‏ألزمت ‏إسرائيل بالامتثال إليها هي: ‏

  • اتخاذ جميع التدابير لمنع ارتكاب جميع الأعمال ‏التي ‏تحظرها المادة 2 من الاتفاقية ‏وبخاصة: قتل أعضاء المجموعة ‏‏الفلسطينيين، فرض ‏ظروف ‏معيشية قاسية متعمدة على المجموعة بهدف تدميرها ‏المادي، ‏كلياً ‏أو جزئياً،
  • وأمرت المحكمة ‏إسرائيل بأن تضمن فوراً عدم ‏قيام جيشها بارتكاب ‏أي من الأفعال المشار إليها، واتخاذ جميع ‏التدابير ‏لمنع ومعاقبة ‏التحريض المباشر والعلني على ارتكاب ‏الإبادة الجماعية لأبناء ‏الشعب الفلسطيني ‏في القطاع، ‏واتخاذ تدابير فورية لتمكين توفير ‏الخدمات الأساسية ‏والمساعدات الإنسانية اللازمة ‏بشكل عاجل للتغلب على ‏الظروف ‏المعيشية غير المواتية التي يواجهها الشعب الفلسطيني في غزة، ‏واتخاذ ‏تدابير فعالة لمنع التدمير. وضمان الحفاظ على أدلة ‏ ‏الادعاءات بارتكاب الأفعال المشار اليها في ‏المادتين 2 ‏و3 من الاتفاقية. ‏
  • أمرت المحكمة إسرائيل أن تقدم لها تقريراً (عادة ما يكون سرياً) ‏بشأن ‏جميع التدابير المتخذة من قبلها ‏خلال شهر واحد من تاريخ هذا ‏الأمر. ‏

وتقدمت جنوب إفريقيا بطلب ثاني عاجل إلى ‏المحكمة في 12 ‏ فبراير 2024م، ‏تلتمس فيه اتخاذ تدابير ‏فورية مؤقتة إضافية بشأن ‏هجوم عسكري واسع النطاق على ‏مدينة رفح، أعلنت إسرائيل ‏اعتزامها القيام به واستجابت المحكمة لهذا الطلب، مصدرة أمراً في 26 فبراير 2024م، يقضي بأن الوضع الخطير في غزة، " يقتضي التنفيذ الفوري والفعال للتدابير المؤقتة السابق الأمر بها في 26 يناير، بما لا يستدعي إصدار تدابير مؤقتة إضافية".

 ‏وفي 6 مارس الماضي، عادت جنوب إفريقيا، وتقدمت بطلب ثالث ‏تلتمس فيه من ‏المحكمة الأمر بتدابير ‏مؤقتة إضافية أو تعديل ‏أمرها الصادر في 26 ‏فبراير 2024م، في ضوء "حالة ‏المجاعة ‏الواسعة" الناجمة عن استمرار ‏الانتهاكات الإسرائيلية ‏الجسيمة لاتفاقية منع جريمة الإبادة والمعاقبة ‏عليها، ‏وعدم ‏امتثالها للتدابير المؤقتة التي أمرت بها المحكمة من قبل"

وطلبت إسرائيل في دفاعها من المحكمة عدم ‏الاستجابة لطلب جنوب ‏إفريقيا بدعوى عدم ‏حدوث أي تغير ‏جوهري في الظروف في غزة، إلا أن المحكمة أصدرت أمراً ‏ثالثاً جديداً في 28 ‏ مارس أقر بأن المجاعة "لم تعد ‏خطراً ‏على الفلسطينيين في غزة فقط، بل بدأت في الظهور ‏فعلياً". ‏ومن ثم ‏أقرت بإجماع قُضاتها الخمسة عشر تدبيرين ‏فوريين ‏إضافيين تلزم إسرائيل بتنفيذهما ‏وهما: ‏

‏•‏ ‏"اتخاذ كافة التدابير الفعالة لضمان ‏توفير الخدمات ‏الأساسية ‏والمساعدات الإنسانية الملحة دون عوائق وعلى نطاق واسع ‏من ‏قبل ‏الجهات المعنية كافة"

‏•‏ على إسرائيل "ضمان، وبشكل فوري، عدم ارتكاب قواتها ‏العسكرية أفعالاً ‏تُشكل انتهاكاً لأي من ‏حقوق الفلسطينيين في ‏غزة، ‏بما في ذلك ‏منع أي إجراء يحول دون توصيل ‏المساعدات ‏الإنسانية المطلوبة بشكل عاجل. وألزمت المحكمة ‏إسرائيل ‏بتقديم ‏تقريرها" عن كافة التدابير التي اتخذت لتنفيذ هذا القرار، ‏في غضون شهر واحد ‏من ‏تاريخ إصداره‏

كما أمرت المحكمة إسرائيل بالتعاون الكامل ‏مع ‏الأمم ‏المتحدة، بما في ذلك وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل ‏اللاجئين ‏الفلسطينيين (الأونروا)، حيث كانت ‏السلطات الإسرائيلية ‏أبلغت الأمم المتحدة ‏بأنها لن توافق على مرور أي من قوافلها ‏الغذائية إلى شمال غزة. ‏

أخيراً، وبناء على طلب جنوب إفريقيا أيضاً، أصدرت المحكمة ‏أمراً في 24 ‏ مايو 2024م، طلبت فيه ‏من إسرائيل وقف ‏عملياتها العسكرية في رفح ‏أقصى جنوب القطاع، وأي عمل من شأنه ‏أن يفرض على ‏الفلسطينيين في غزة ‏ظروفاً معيشية يمكن أن تؤدي إلى تدميرها المادي، كلياً ‏أو ‏جزئياً.

‏ووجدت المحكمة أن الظروف المعيشية الكارثية ‏للفلسطينيين في ‏القطاع تدهورت بشكل كبير منذ أمرها الأول ‏الصادر في 26 ‏يناير الماضي. ‏كذلك طلبت المحكمة من إسرائيل ‏فتح معبر رفح الحدودي مع مصر ‏‏"لتقديم ‏الخدمات الأساسية ‏والمساعدات الإنسانية، وضمان الوصول إلى قطاع غزة ‏دون ‏عوائق". والمؤسف أنه بعد يومين من صدور أمر المحكمة، وفي ‏‏26 ‏ مايو، أدت غارة جوية إسرائيلية على ‏مخيم للنازحين في ‏غرب رفح إلى ‏مقتل 45 شخصاً على الأقل، وفقاً لوزارة الصحة ‏في غزة، من بينهم ‏‏23 امرأة ‏وطفلاً وكبار سن، وإصابة 249 ‏آخرين. ‏

‏3-مدى إلزامية أحكام وأوامر المحكمة: ‏

رغم مثول إسرائيل أمام المحكمة والامتثال لإجراءاتها، في سابقة ‏هي الأولى من ‏نوعها منذ قيام إسرائيل، ‏وهو ما أرجعه بعض ‏الكتاب الإسرائيليين إلى خشية ‏المؤسستين الأمنية والعدلية الإسرائيلية من ‏توجيه اتهامات لهما ‏بالإبادة الجماعية من قبل ‏المحكمة، إلا أن ‏الحكومة الإسرائيلية تجاهلت تماماً أوامر المحكمة، ولم ‏تنفذ ‏أي ‏من التدابير المؤقتة التي أمرت إسرائيل بتنفيذها. ‏

وتجدر الإشارة هنا إلى أن المادة 94 من ميثاق الأمم المتحدة ‏تنص على أن: ‏

‏"(1) يتعهد كل عضو من أعضاء الأمم المتحدة بالامتثال لحكم ‏محكمة العدل ‏الدولية في آية قضية ‏يكون طرفاً فيها. ‏

‏(2) ‏ إذا أمتنع أحد المتقاضين في قضية ما عن القيام بما يفرضه ‏عليه حكم ‏تصدره المحكمة، ‏فللطرف الآخر أن يلجأ إلى مجلس ‏الأمن. وللمجلس، إذا ‏رأى ضرورة لذلك، أن يقدم ‏توصياته ‏أو يصدر قراراً بالتدابير التي يجب اتخاذها ‏لتنفيذ هذا الحكم"‏

ولقد كان واضحاً منذ البداية أن إسرائيل ستتجاهل أوامر ‏المحكمة، وهو ما أكده ‏قادة هذه الدولة وكبار ‏مسؤوليها، خاصة ‏أن المحكمة لا تملك صلاحية فرض ‏تنفيذ أحكامها، تماماً مثلما ‏رأينا فيما يتعلق بالمحكمة ‏الجنائية الدولية. ‏

وكان بوسع مجلس الأمن الدولي أن يقوم ‏ بدعم المحكمة في هذا ‏الشأن، وفقاً ‏للمادة 94 (2) من الميثاق، ‏إلا أنه لم يتحرك في ضوء التاريخ الطويل للحكومة الأمريكية في استخدام حق النقض لمنع اتخاذ إجراء ضد إسرائيل والإبقاء عليها بمنأى عن المحاسبة.

‏4-خلاصة وتقييم عام: ‏

‏1-‏ مما لا شك فيه أن قبول المحكمة دعوى جنوب إفريقيا ‏وإصدارها أوامر ‏بتدابير مؤقتة يتعين على ‏إسرائيل تنفيذها. يمثل ‏علامة فارقة في تاريخ نضال ‏الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال ‏الإسرائيلي، ‏وخطوة تاريخية غير مسبوقة حرصت وسعت ‏الولايات المتحدة ‏دائماً إلى حرمان الفلسطينيين من اللجوء إليها ‏لإنصافهم. ‏ويلاحظ في هذا السياق أن المحكمة لم تلتفت لادعاءات إسرائيل بأن ‏الخسائر المدمرة التي ‏لحقت بالسكان المدنيين في غزة، ‏كانت ‏نتاجاً لـ "مأساة غير محددة" أو ‏‏"مسؤولية حماس وحدها". فقد ‏عكس أمر المحكمة الصادر في ‏‏26 يناير الماضي، ‏اقتناعاً كاملاً، وجماعياً، أن هذه الخسائر المدمرة ‏كانت ‏نتيجة ‏لتكتيكات محددة تم اعتمادها من جانب إسرائيل كجزء من ‏عملية ‏عسكرية منسقة، بما في ذلك ‏الاستخدام الواسع النطاق ‏للذخائر غير الموجهة، أو ‏المسماة بـ "الغبية"، والقصف المدفعي ‏الثقيل في ‏المناطق المكتظة بالسكان، ‏وفرض قيود صارمة على ‏وصول الغذاء والماء والكهرباء وغيرها ‏من ‏الضروريات، على ‏السكان المحاصرين وعمليات الإخلاء القسري المتكررة ‏للسكان ‏من منازلهم، ‏والدمار الهائل للمباني السكنية والمدارس ودور ‏العبادة ‏والمراكز التراثية والثقافية الأخرى.‏

‏2-‏ في السياق عاليه، تشير بعض التقديرات إلى أن التحدي الإسرائيلي لأوامر ‏المحكمة من ‏شأنه أن يزيد من احتمالية ‏قيام الغرفة التمهيدية في ‏المحكمة الجنائية الدولية ‏بتأكيد التهم الموجهة ضد نتنياهو ‏ووزير دفاعه ‏يوآف غالانت وإصدار أوامر ‏اعتقال ضدهما. ‏

وتجدر الإشارة إلى أنه بعد يومين من إعلان المدعي العام ‏للمحكمة طلبه ‏استصدار أوامر ‏اعتقال ضد قادة إسرائيليين، أعلنت كل من ‏إسبانيا وإيرلندا ‏والنرويج، ثم ‏سلوفينيا وأرمينيا لاحقاً، اعترافهم ‏بدولة فلسطين. مما يعني أن ثمة ‏تداعيات ‏جيوسياسية هائلة تترتب على دعوي جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، ‏وانضمام العديد ‏من الدول إليها ‏وفقاً لأحكام المادتين 62 و63 من ‏النظام ‏الأساسي للمحكمة، مثل كولومبيا وإسبانيا وتشيلي ونيكاراجوا ‏وليبيا ‏والمكسيك ‏وتركيا، ومؤخراً فلسطين، وهي كلها دول أعضاء في ‏اتفاقية الإبادة وفي ‏النظام ‏الأساسي للمحكمة. ‏

‏3-‏ ارتباطاً بما تقدم، نتج عن أوامر المحكمة أيضاً –وخوفاً من المساءلة-قيام ‏بعض الدول ‏والشركات بتعليق تصدير ‏الأسلحة والمعدات ‏العسكرية إلى إسرائيل. ومن ذلك ‏شركة "ايتوشو" (‏Itochu‏) ‏اليابانية التي ‏أوقفت تعاونها العسكري مع شركة ‏إسرائيلية نظيرة ‏‏(‏Elbit‏). وقامت كل من إسبانيا وإيطاليا وكندا ‏بتعليق ‏نقل ‏الأسلحة إلى إسرائيل، حسبما أفادت تقارير دولية عديدة. ‏

من ناحية أخرى خلقت أوامر المحكمة حالة من التعاطف ‏الواضح والتفهم في ‏أوساط الرأي العام الدولي ‏لمحنة الشعب ‏الفلسطيني وقضيته العادلة، ودفعت ‏قطاعات لا يستهان بها من ‏منظمات المجتمع المدني ‏حول العالم إلى اللجوء ‏للمحاكم الوطنية، ‏خاصة في الدول التي تزود إسرائيل بالأسلحة، للكف ‏عن ‏ذلك ‏وتأييد الحقوق الفلسطينية. ‏وعلى سبيل المثال، أصدرت ‏محكمة الاستئناف الهولندية أمراً في ‏‏12 فبراير 2024م، ‏يقضي بوقف تصدير هولندا قطع غيار طائرات (‏F-35‎‏) ‏التي ‏تستخدمها إسرائيل في ‏غزة. ‏

‏4-‏ بعيداً عن مجلس الأمن، يمكن القول بأن أوامر المحكمة ‏بعثت الحياة في ‏النظام الدولي المتعدد ‏الأطراف ممثلاً في منظمة ‏الأمم المتحدة ووكالاتها المعنية. ‏ذلك أنه بجانب الأدلة الموثقة ‏من ‏البيانات والسياسات الرسمية لقادة إسرائيل، ‏والتي استشهدت ‏بها جنوب إفريقيا في دعواها. أخذت المحكمة بحزمة ‏واسعة ‏من ‏الأدلة المستفيضة والموثوقة من وكالات الأمم ‏المتحدة حول الأثر الإنساني ‏لعمليات الجيش ‏الإسرائيلي، ‏ووفقاً لبرنامج ‏الأغذية العالمي يواجه أكثر من نصف مليون فلسطيني ما يصنفه الخبراء بمستويات كارثية من الجوع. ‏وتشير منظمة ‏الصحة العالمية إلى أن ‏‏13 مستشفى فقط من أصل ‏‏36 مستشفى في غزة لاتزال ‏تعمل، ولكن بشكل جزئي فقط. ‏إنهم ‏غارقون في حالات الصدمة... وإن كارثة ‏الصحة العامة تتطور ‏بسرعة في غزة، حيث تنتشر الأمراض ‏المعدية في الملاجئ ‏المكتظة، وأن ‏الظروف الصحية مروعة"

والخلاصة هي أنه على حين لا تملك المحكمتين صلاحية إنفاذ ‏أحكامهما بالقوة ‏الجبرية رغم إلزاميتها ‏قانوناً، كما وأن أوامر ‏المحكمة، والتي تخاطب جميع ‏الدول الأطراف في اتفاقية الإبادة، ‏وتشكل أحكامها ‏جزءاً لا يتجزأ من مفهوم ‏‏"القواعد الآمرة" في ‏القانون الدولي الملزمة لجميع الدول، إلا إنها تشكل ‏الأن ‏ضغطاً ‏سياسياً وأخلاقياً كبيراً على الولايات المتحدة والدول الأخرى ‏الداعمة ‏لإسرائيل.‏ وقد وفرت هذه ‏أوامر المحكمة، بجانب إعلان المدعي ‏العام للمحكمة الجنائية الدولية ‏طلب استصدار أوامر اعتقال ضد ‏قادة ‏إسرائيليين، أداة ضغط أخلاقية وسياسية، ‏وخلقت ديناميكية ‏جديدة ونوع من التعبئة القانونية الدولية غير ‏المسبوقة ‏في ‏تاريخ نضال الشعب الفلسطيني من أجل نيل حقه في تقرير ‏مصيره.

مقالات لنفس الكاتب