لقد ترسخ مفهوم العدالة الدولية بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وشهد العالم توقيع ميثاق الأمم المتحدة بمؤتمر سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة في يونيو 1945م، وتمخض عنه مولد محكمة العدل الدولية كجهاز قضائي دولي مختص بالفصل في المنازعات القانونية بين الدول للحيلولة دون نشوب أي نزاع مسلح بسبب تلك المنازعات القانونية. وقد التصق النظام الأساسي المحكمة – وهو دستورها الأساسي – بميثاق الأمم المتحدة، وشرعت في عملها منذ انتخاب قضاتها في 1946م. ومنذ ذاك، نجحت محكمة العدل الدولية في الفصل في الكثير من المنازعات القانونية بين الدول وأرست العديد من المبادئ القانونية الهامة التي رسمت ملامح المفهوم الدولي للعدالة والحل السلمي للمنازعات. وما عزز دور المحكمة في ذلك هو سعة اختصاصها القضائي حيث يشمل منازعات جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وفقًا للمادة 93 من ميثاق الأمم المتحدة. وتجدر الإشارة إلى أن الدول وحدها يجوز لها – طبقًا للمادة 36 من النظام الأساسي للمحكمة -أن تحيل القضايا إلى محكمة العدل الدولية ضد دول أخرى قبلت أيضًا اختصاصها. وينطبق اختصاص المحكمة على جميع النزاعات التي تشمل عنصرًا قانونيًّا مثل تفسير أي معاهدة وأية نقطة في القانون الدولي، ووجود أية حقيقة إذا ما تأكدت ستشكل إخلالًا من جانب دولة بالتزاماتها الدولية، وطبيعة أو مدى التعويضات المقرر تقديمها مقابل الإخلال بهذا الالتزام.
طبقًا للمواد 4 إلى 19 من ميثاق المحكمة، تتكون هيئتها من خمسة عشر قاضياً ينتخبهم الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لمدة تسع سنوات من خلال انتخابات مرحلية، حيث يُنتخب خمسة قضاة كل ثلاث سنوات لضمان الاستمرارية داخل المحكمة. علمًا بأنه في حالة وفاة القاضي وهو في منصبه يُنتخب قاض في انتخابات خاصة لإكمال الفترة. ويمكن لأحكام وقرارات المحكمة أن تُقر الحقائق والقانون الواجب التطبيق وتحدِّد ما إذا كانت الدولة مسؤولة عن أي فعل ينتهك التزاماتها الدولية. فأي فعل يعتبر غير مشروع دوليًّا إذا ما أمكن عزوه إلى سلوك الدولة أو عامليها أو أي أفراد يتصرفون بالنيابة عنها أو تحت سيطرتها. ومثل هذا الفعل يقتضي مسؤولية دولية للدولة ويتيح مجالًا للتعويضات. وفي هذه الحالة، تكون الدولة المعنية ملزمة بأن تجبر بشكل كامل الأضرار التي نجمت عن سلوكها غير المشروع دوليًّا، وفقًا للمبادئ العامة للقانون الدولي العام فيما يتصل بمسؤولية الدولة. ومحكمة العدل الدولية هذه في الأساس لا تحدِّد بنفسها مبلغ التعويضات في أحكامها. فمسألة التعويضات تحال ثانية إلى التفاوض المباشر بين الدول. وفي دعوى الاختلاف بين الدول بشأن مقدار التعويض، في استطاعة الدول أن تقرر عرض هذا النزاع المحدَّد على محكمة العدل الدولية. كما أن للمحكمة دور جذري في تفسير وإرساء قواعد القانون الدولي حيث قدَّمت قرارات محكمة العدل الدولية (الأحكام والآراء الاستشارية) توضيحًا ودقة بشأن العديد من أفكار القانون الدولي التي تخص القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان بل أيضًا مسؤولية الدولة ومسؤولياتها الدولية، ولا سيما في مسائل الأمن والدفاع عن النفس والعدوان واحتلال الأراضي.
وقد تولت المحكمة العديد من القضايا الخلافية التي كادت تزعزع الثقة الدولية في شرعيتها ومهمتها نظرًا لما احتوته تلك القضايا من أبعاد سياسية، لعل أبرزها شكوى الولايات المتحدة عام 1980م، ضد إيران لاحتجاز رجال الثورة الإسلامية دبلوماسيين أمريكيين في طهران في انتهاك للقانون الدولي الذي يشدد من حماية البعثات الدبلوماسية، وكذلك الخلاف بين تونس وليبيا على ترسيم حدود الجرف القاري بينهما وشكوى من جمهورية الهند بشأن حكم بإعدام مواطن هندي، كولبوشان جادهاف، من قبل محكمة عسكرية باكستانية في 2021م.
ولعل أبرز تلك القضايا في يومنا هذا تلك المتعلقة بالهجوم الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والذي جاوز ضحاياه الـ40 ألف شهيد، وهو ما أثار حفيظة الدفاع عن الإنسانية لدى بعض الدول المحبة للسلام فعمدت لسلوك الطريق القضائي لوقف المذابح الإسرائيلية في فلسطين. وقد استهلت جنوب إفريقيا تلك الإجراءات برفع دعوى أمام المحكمة ضد إسرائيل لإلزامها بتطبيق الواجبات المفروضة في الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية، وهي القضية التي تداولت جلساتها وأمرت فيها المحكمة إسرائيل الضمان التام باتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع وقوع إبادة جماعية في قطاع غزة، كما أمرتها بوقف عملياتها العسكرية في رفح كونها تزيد من معاناة المدنيين.
ولكن، بالرغم من صدور تلك الأوامر القضائية من محكمة العدل الدولية وضرورة التزام إسرائيل بها طبقًا للنظام الأساسي للمحكمة، إلا أن الواقع العملي قد كشف عن عوار كبير بشأن إلزامية قرارات المحكمة وآليات تنفيذها، وهو ما هدد مصداقيتها القانونية وحجيتها القضائية. فإسرائيل لم تلتزم بتلك الأوامر القضائية – برغم وجود قاض إسرائيلي ضمن الهيئة التي أصدرتها – وشرعت تهاجم المحكمة وتتهمها في مصداقيتها، كما أنها لم تنفذ تلك القرارات متحدية المجتمع الدولي بأسره وهو ما أثار لدى أهل القانون إشكالية القدرة التنفيذية لقرارات المحكمة. وكان الأمر بتقديم المساعدات واحدًا من ستة تدابير مؤقتة أمرت بها المحكمة في 26 يناير2024م، ومنحت إسرائيل شهرًا واحدًا لتقديم تقرير عن امتثالها لهذه التدابير. وخلال تلك الفترة، واصلت إسرائيل، باعتبارها القوة المحتلة، تجاهل التزامها بضمان تلبية الاحتياجات الأساسية للفلسطينيين في غزّة.
إن الأحكام الصادرة عن محكمة العدل الدولية نهائية وملزمة لطرفي النزاع، وللمحكمة لضمان حجية أحكامها آليات متعددة لتنفيذ قراراتها تشمل الآتي:
- مراقبة تنفيذ ما تصدره المحكمة من قرارات وقتية وهي مسؤولية لجنة منشأة حديثًا لهذا الغرض قوامها ثلاثة قضاة طبقًا للمادة 11 من نظام المحكمة. وتباشر هذه اللجنة مهامها من خلال تقييم ما قدمه أطراف النزاع من تقارير بشأن تنفيذ قراراتها الوقتية وجمع المعلومات وإصدار توصيات بشأن تنفيذ تلك القرارات. وقد برز جليًا دور تلك اللجنة في منازعات مثل قضية جامبيا ضد ميانمار بشأن اضطهاد الروهنجيا. إن هذه اللجنة هي لجنة مراقبة رسمية هدفها ضمان تنفيذ أطراف المنازعة للقرارات الوقتية الصادرة من المحكمة استحدثتها المحكمة لكي تحمي حجيتها القانونية وفاعليتها سيما بعدما ظهرت إشكالية تجاهل أطراف النزاع لتلك القرارات كونها ليست حكمًا قضائيًا بالمعنى المعتاد وهو ما أفرغها من مضمونها.
- إصدار إجراءات مضادة للدولة الممتنعة عن تنفيذ قرارات وأحكام المحكمة وتكون في جوهرها تعويضًا للطرف الآخر عن امتناع خصمه عن التنفيذ. هذه الإجراءات قد تصدر كذلك عن مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة في حال أحالت المحكمة الأمر لأ يهما بشأن واقعة امتناع دولة طرف في نزاع عن تنفيذ أحكامها أو قراراتها.
- اللجوء لفرض عقوبات دولية – من خلال المنظمات الدولية -ضد الدولة الممتنعة تشمل إجراءات سياسية أو اقتصادية لإرغامها على الامتثال لقرارات المحكمة.
الواضح من تلك الإجراءات أنها ليست قضائية فالمحكمة ليس بإمكانها إجبار دولة على تنفيذ قراراتها ويتضح أن الجهات المنوط بها التنفيذ هي الأمم المتحدة ومجلس الأمن كونهما يملكان آليات الإلزام الكفيلة بتنفيذ قراراتهما. لذا صارت الحجية الحقيقية لقرارات المحكمة وأحكامها رهنًا بتموجات السياسة الدولية وما ترجحه الدول الكبرى المهيمنة على صناعة القرار في الأمم المتحدة بجمعيتها العامة ومجلس الأمن، وهو ما لا يستقيم منطقًا بشأن تحقيق الأهداف المنشودة من تلك المحكمة.
وبشأن قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل فقد تجلت عقبات عدة أمام تنفيذ قرارات المحكمة أهمها:
- التسيس المتعمد من إسرائيل لتلك القضية والتعامل معها بحساسية سياسية واتهام المحكمة بالتحيز ضدها، وهو ما جسدته غياب الإرادة السياسية لتنفيذ قرارات المحكمة.
- أخفقت السلطات الإسرائيلية في ضمان وصول السلع والخدمات المنقذة للحياة إلى السكان المعرضين لخطر الإبادة الجماعية والذين هم على شفير المجاعة بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل وتشديد حصارها غير القانوني المستمر منذ 16 عامًا. كما تقاعست إسرائيل عن رفع القيود المفروضة على دخول السلع المنقذة للحياة، أو فتح منافذ وصول ومعابر إضافية للمساعدات أو وضع نظام فعّال لحماية العاملين في المجال الإنساني من الهجمات.
- الدعم الأمريكي اللا محدود إسرائيل يمنحها القدرة على تجاهل أوامر المحكمة وتحدي المجتمع الدولي. هذا الدعم متجسد في توظيف حق النقض (الفيتو) بمجلس الأمن للحيلولة دون صدور أي قرار لا يتماشى مع مصالح إسرائيل. وهو ما يعطيه غطاء يمنع تنفيذ قرارات المحكمة، والتي تعتمد بالأساس على التنفيذ الطوعي من طرفي النزاع.
تلك العقبات المذكورة خلقت حالة من الوهن القانوني تجاه ما ترتكبه إسرائيل من جرائم حرب في فلسطين. جراء ذلك، تستمر إسرائيل في حربها الشعواء ضد المدنيين الفلسطينيين الذين أحدثت دماؤهم جرحًا لا يندمل في جبين البشرية، وهو ما أفقد قطاع عريض من أهل القانون ثقتهم في منظومة العدالة الدولية وجدواها الفعلية لحقن دماء البشر وإحلال السلام العالمي.
لذلك، من أجل حماية جدوى محكمة العدل الدولية في إحقاق الحق وتمهيد الطريق أمام الحل السلمي للمنازعات الدولية نخلص إلى وجوب ضمان تنفيذ قراراتها والعمل على حماية صداها في أرض الواقع وذلك من خلال الإجراءات التالية:
- إبعاد قرارات المحكمة وما يتعلق بأدائها وظيفتها عن أهواء السياسة وترجيحات المصالح الدولية وخلق معايير موحدة لآلية عمل المحكمة تنأى بها عن ازدواجية المعايير، وجعل المعيار الوحيد في ذلك هو المصلحة الفضلى للإنسانية.
- استحداث لجان عمل تابعة للمحكمة مباشرة تكون لها سلطة التنفيذ الجبري في العمل القضائي الدولي وتكون مهمتهما متابعة التزام أطراف النزاع بقرارات المحكمة ودعم عمليات التنفيذ مع إلزام الدول بإيجاد حيز لتلك اللجان لتعمل بحرية دون معوقات سياسية أو لوجستية عمدية أو غير عمدية. ويكون لها حرية التجول في مناطق النزاع المسلح في فلسطين دون أية عراقيل للوقوف على أي انتهاكات لقرارات المحكمة.
- إلزام الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن بمتابعة تنفيذ قرارات المحكمة ومنع استعمال أي حقوق تصويت أو نقض (فيتو) لعرقلة التنفيذ، بل وتعطيل حق النقض (الفيتو) فيما يتعلق بقرارات المحكمة وأحكامها لضمان سموها فوق اعتبارات السياسة. يعني ذلك تجريد الدول المعتدية مثل إسرائيل من الغطاء السياسي الأمريكي بمجلس الأمن وضمان وقوفها أمام العدالة الدولية سواء مع الشعب المعتدى عليه في فلسطين.
- إيجاد آليات مراقبة دولية مستقلة تتولاها المنظمات غير الحكومية والمختصين المستقلين بحقوق الإنسان لمتابعة تنفيذ قرارات المحكمة والإبلاغ عن أي توانٍ عن التنفيذ أو امتناع متعمد عنه مع إضفاء الحماية القانونية والدبلوماسية اللازمة لأداء مهمتهم الإنسانية.
لا شك أنه من خلال مثل تلك الإجراءات يدعم تنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية وهو ما يسهم إيجابًا في حسن أدائها لمهامها المنوطة بها في ترسيخ مفهوم العدالة الدولية ويترتب عليه زيادة ثقة أفراد المجتمع الإنساني في جدواها واستحقاقيتها لمكانتها الدولية كوسيلة سلمية لفض المنازعات بين الأمم ومنع اندلاع النزاعات المسلحة.