يمر العالم بمرحلة تحول غير مسبوقة، وبالطبع انعكس ذلك على منطقة الشرق الأوسط التي تأثرت بشدة بهذا التحول الذي بدأ منذ اندلاع الحرب الروسية / الأوكرانية، ثم جاءت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما طرأ على لبنان وسوريا، وأخيرًا دخلت هذه التحولات منعطفًا جديدًا وشديد الانحدار مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير الماضي، وبدأ يصدر قرارات متسارعة، ويردد شعارات غير مسبوقة في العلاقات الدولية، ومعها بدأ العالم يحبس أنفاسه منذ اليوم الأول لدخول ترامب إلى المكتب البيضاوي حيث توالى إصدار قرارات بالجملة مع تصريحات غير معتادة يرى العالم أنها غير مدروسة، أو غير مقبولة، بل رآها البعض غير عقلانية، ومنها رغبته في ضم دولة بحجم كندا إلى الولايات المتحدة، والمطالبة بضم جزر جرينلاند في أقصى الشمال، وكذلك المطالبة بقناة بنما، وخليج المكسيك، ثم إعلان رغبته بضم قطاع غزة بعد تهجير سكانه ليكون مشروعًا سياحيًا، أو كما أطلق عليه ريفيرا الشرق، واتجه إلى محاولة نسج سياسة ودية مع روسيا العدو التقليدي السابق لأمريكا، ومن ثم تغيير تركيبة معادلة الحرب الأوكرانية بالتقرب إلى موسكو والابتعاد عن أوكرانيا بدون استشارة دول الاتحاد الأوروبي الشركاء في هذه الحرب ، الأمر الذي كان بمثابة انقلاب على الحلفاء الأوروبيين، ما أدى إلى فتور العلاقة الأمريكية مع القارة العجوز الحليف التقليدي لبلاده ،وهو ما اعتبرته أوروبا تغيير نهج السياسة الأمريكية الراسخة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
واللافت أن السياسة الأمريكية الجديدة ليست سياسة واحدة، وليست ثابتة، بل متغيرة وتفتقد للمؤسساتية، ومرتبطة بمزاج الرئيس ترامب أكثر منها مرتبطة بقواعد اللعبة الأمريكية المتعارف عليها، حيث تقود سياسة ترامب المصالح وليس الأيدولوجيا التي تحكم العالم منذ 80 عامًا، والدليل محاولة تجاوز العلاقات مع دول أوروبا وتلويحه بتفكيك "الناتو" بالضغط على الأعضاء لزيادة حصصهم في تمويل الحلف، كل ذلك يؤكد أن المرحلة القادمة على الأقل في ولاية ترامب الثانية تختلف عما كانت قبلها، ومن أبرز معالم المرحلة الجديدة أن المصالح قاطرة العلاقات الأمريكية، وأن امتلاك أوراق الضغط هي الأداة الأهم في إدارة السياسة الدولية وفي الجلوس على طاولة المفاوضات، وهذا ما التقطته دول مجلس التعاون الخليجي، ونجحت بمقتضاه في التعامل مع إدارة ترامب، وتؤكد ثمار الجولة التي قام بها الرئيس الأمريكي للسعودية، وقطر ، والإمارات في الفترة من 13 إلى 16 مايو الماضي، أن الدول الثلاث حققت نتائج مهمة، وما تمخض عن زيارته للسعودية يؤكد أن المملكة حققت مكاسب مهمة من إدارة ملف العلاقات مع واشنطن، حيث أبرمت اتفاقيات متعددة ، مدنية وعسكرية للتعاون والاستثمار والتسليح مع واشنطن، بل نجحت في إبهار الرئيس الأمريكي الذي تغنى بما حققته السعودية من إنجازات على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي، كما أبدى استجابة للكثير من مطالب المملكة حول طبيعة التعاون الثنائي والتنسيق حيال القضايا الإقليمية ومنها سوريا وغزة، واستمع لمطالب المملكة ومنها ضرورة التقدم على مسار قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية ، قبل الحديث عن علاقات إقليمية أو أي ترتيبات أخرى.
والدروس المستفادة من الوضع الحالي في ظل السياسات الأمريكية والمتغيرات الدولية والإقليمية، هي أهمية التحرك العربي الجماعي وتنسيق السياسات والمواقف والتقريب بين المطالب الجماعية للتفاوض ككتلة عربية موحدة يكون لها تأثير قوي وصوت مسموع مقترن بأوراق تفاوضية مؤثرة تجد لها صدى لدى صانع القرار الأمريكي الذي لا يعرف سوى لغة المصالح، والاستفادة من قوة الدفع التي خلفتها زيارة الرئيس ترامب لثلاث دول خليجية، على أن يكون التنسيق بين مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية، وأن تقوم الدول العربية الفاعلة في النظام العربي الجماعي بدورها المنشود في التنسيق من أجل تفعيل الدور والقرار العربي وهنا يجب الاستفادة من نجاح السعودية بشكل كبير جدًا في التأثير على القرار الأمريكي والذي تجلى في إبرام عدد من الاتفاقيات بين الرياض وواشنطن، وفي الثناء الذي وجهه ترامب للقيادة السعودية على ما حققته من إنجازات.
ومن الضروري أن تتعامل الدول العربية بواقعية جديدة ومرونة غير ما كان في السابق تجاه العلاقات الدولية والإقليمية، مع قراءة جديدة للعقلية الأمريكية في عهد ترامب، والنظر برؤية مغايرة وغير تقليدية لطبيعة العلاقات الدولية على ضوء المتغيرات، وتركيبة المجتمع الدولي، وتغير مواقع صناعة القرار في المنطقة والعالم، والانفتاح الاقتصادي وإبرام الشراكات مع مختلف التكتلات الكبرى والاقتصادات الناشئة حتى يمكن مواكبة المتغيرات وتحقيق المصالح بما يخدم الشعوب ويحقق رفاهيتها، ويثبت الاستقرار والسلام الإقليمي، ويوفر مظلة أمنية قوية للمنطقة العربية.