المنطقة العربية والشرق الأوسط في مقدمة مناطق العالم التي قد تتأثر بتطبيق معيار القوة بدلًا من القانون في العلاقات الدولية الجديدة، كونها منطقة تتفاوت فيها معايير القوة العسكرية والاقتصادية والتوازن الاستراتيجي، ومحاطة بمتغيرات إقليمية شديدة التعقيد، إضافة إلى اختلاف وتنوع مصادر المخاطر والتهديدات، من منطقة إلى أخرى، وكذلك اختلاف قدرة واستعداد كل دولة على مواجهة تلك التحديات التي يبدو أنها مجتمعة سوف تشكل معالم المنطقة في المستقبل، حيث يقفز دور القوة الاقتصادية وتوظيف أدوات القوة الناعمة والذكاء الاصطناعي التي من المتوقع أن تكون الأدوات الفاصلة في تحديد معايير القوة لعالم المستقبل ومن ثم المشاركة في النظام الدولي الجديد، بعد أن تغيرت أدوات ومقومات ومفهوم "القوة" فلم تعد القوة الخشنة أو العسكرية التقليدية هي معيار للقوة الحديثة، بل أصبحت القوة الصلبة الجديدة تعتمد على التكنولوجيا، والأسلحة المتطورة الموجهة عبر المسافات، والاختراقات السيبرانية والعمل الاستخباراتي غير التقليدي، التي أثبتت أنها الأكثر حسمًا من الحروب التقليدية التي كانت سائدة من قبل ؛ وهذا ما أكدته حرب الـ 12 يومًا ـ الإسرائيلية /الإيرانية ـ على سبيل المثال.
وفي غضون هذه التحولات، يبدو أن هناك من يريد انكفاء دول المنطقة العربية، وتشتيت اهتمامها، وتحويل أنظارها عن متطلبات المستقبل واللحاق بركب التنمية وامتلاك عناصر القوة الحديثة ومن ثم يتراجع دورها في النظام الدولي الجديد، بل وتفريغها من عناصر قوتها لصالح قوى إقليمية طامعة تساندها قوى دولية تدافع عن مصالحها بأدوات إقليمية دون أن تخوض الحروب مباشرة، أو عبر شن الحروب الخاطفة كما فعلت أمريكا مع إيران من خلال مساندة ودعم إسرائيل في حرب الـ 12 يومًا. ولذلك تبدو المنطقة العربية على مفترق طرق تاريخي ولحظة فارقة تتطلب الكثير من التفهم للمتغيرات، والتنسيق والتكامل، وتكوين رؤى مشتركة تجاه التحديات والمخاطر واحتواء الصراعات الجانبية، والتدخل لإطفاء الحرائق المشتعلة والبؤر الملتهبة في الدول العربية التي تواجه حروبًا داخلية ، والتنازع على السلطة والثروة، ومحاصرة إحياء النعرات الطائفية المقيتة، وعلى الدول العربية الكبرى والفاعلة في المنطقة أن تقود السياسات والمواقف من منطلق فهمها لهذه التحديات مجتمعة، و تفعيل العمل الجماعي من أجل تحصين المنطقة من محاولات الاستفراد والتدخل الخارجي تحت ذرائع مختلفة لإطفاء جذوة التكامل العربي والمضي في تنفيذ خطط تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ.
وللحقيقة : تتوجه دول مجلس التعاون الخليجي نحو المستقبل بخطى ثابتة وبأدوات المعرفة، وتوفير متطلبات المستقبل بحكمة واقتدار، وتبدو التجربة السعودية ملهمة وتؤسس لمرحلة تاريخية مهمة تكون فيها المملكة واحدة من أقطاب المنطقة والعالم، وهى تستلهم تجربتها نحو المستقبل بأبعادها المختلفة، من أهداف رؤية2023 التي تجسدت من حلم إلى واقع على أرض المملكة، وهذه الرؤية اعتمدت على البناء الذاتي بالشراكة مع مختلف دول العالم شرقه وغربه، لتوطين المعرفة والتكنولوجيا وأدوات إنتاج صناعة المستقبل بكل أبعادها ومن مختلف زواياها المدنية والعسكرية، والاهتمام بكل عناصر القوة كالصناعة والإنتاج، والطاقة، والعلم، والترفيه والتنمية الثقافية والاجتماعية وغيرها، وهي في ذلك حريصة على الابتعاد عن الاستقطاب والانحياز إلى أي طرف من الأطراف الدولية المتصارعة على قيادة النظام الدولي الجديد، فهي ترتبط بعلاقات استراتيجية وثيقة بأبعادها المختلفة مع الولايات المتحدة، ولديها علاقات اقتصادية متطورة مع الصين وروسيا ودول الجنوب عامة، وتسير باتجاه تحقيق مصالحها الوطنية عبر الشراكة مع هذه الأطراف مجتمعة بما يحقق مصالحها وإقامة مشروعاتها التنموية، لذلك فإن هذه التجربة ملهمة للعمل الجماعي سواء على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، أو على مستوى العمل العربي المشترك، ويجب الاستفادة منها بعيدًا عن الروتين أو العمل التقليدي القديم، بل رؤية تحكمها المصالح لا العواطف والايدولوجيات، مع ترك هامش لكل دولة تتحرك فيه لخدمة مصالحها على الصعيد العالمي وفقًا لاحتياجاتها وطموحاتها ، وكذلك وفقًا للتحديات التي تواجهها، مع أهمية إدراك التحديات والمخاطر التي تهدد الأمن العربي الجماعي والاستفادة من المزايا النسبية لكل دولة للمساهمة في الحفاظ على هذا الأمن المشترك.
ومن الواضح أن التجربة الخليجية وفي مقدمتها التجربة السعودية ملهمة ويجب الاستفادة منها بالتفاهم بين الدول العربية القائدة في الإقليم لصياغة رؤية عربية جماعية للمستقبل يتم من خلالها الاستفادة من المزايا النسبية لكل دولة وقدراتها، للتعامل مع التحديات التي تواجه دول المنطقة بما يضمن للعرب المشاركة الإيجابية في النظام الدولي الجديد، وأن تكون الدول العربية صاحبة مبادرة ولا تنتظر ما تتركه لها الدول الكبرى، أو الدول الإقليمية الطامعة في قيادة المنطقة من خارج المنظومة العربية.