أصبح الحق في التنمية جزءاً لا يتجزأ من حقوق الإنسان، ويطرح مفهوم التنمية، كما في إعلان الأمم المتحدة بوصفه عملية شاملة تتناول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. وتهدف مشاريع التنمية إلى تحسين الظروف المعيشية للمجتمع ككل والأفراد على السواء، وذلك على أساس المشاركة النشطة والحرة في التنمية والتوزيع العادل للعائدات.
إضافة إلى الحقوق التي ينبغي على الدولة أن تكفلها لمواطنيها، كالحق في العمل اللائق، والحماية الاجتماعية، وتحسين الظروف المعيشية، وتأمين وضمان الصحة والتعليم لجميع المواطنين، تضمنت الاتفاقيات الدولية حق المواطنين في المشاركة الفاعلة، حيث إن الحقوق تقابلها الواجبات، ومفهوم الواجبات لا يقف عند حدود دفع الضرائب وإنما يتعدى ذلك إلى المشاركة الفاعلة في تحقيق التنمية. وباعتقادي أن أهم جوانب التنمية هو ما يتعلق بالمشاركة في الحياة الثقافية وما يرتبط بها من حقول إبداعية كحق أصيل للمواطنين على الدولة.
تأهيل المجتمع
تلعب المنظمات الثقافية والاجتماعية دوراً أساسياً في تنمية وتأهيل الأفراد للمشاركة في الشأن العام وخدمة المجتمع من مواقع متعددة، لاسيما بعد القصور الواضح الذي أبدته الدولة في تلبية الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطنين، الأمر الذي يستدعي المسارعة في توسيع المجال أمام تلك المنظمات لتكون شريكاً في عملية التنمية بوصفها الرافد الأساسي للموارد البشرية والمادية، وتتحدد هذه المجالات في:
1- مجال التنمية الاجتماعية: ويعتني بتوفير الخدمات للمجتمع من قبل جمعيات النفع العام والهيئات الخيرية والمنظمات غير الحكومية، ومحاولة الوصول إلى المناطق والبؤر التي لا تتمكن الدولة بمؤسساتها الرسمية من أن تصل إليها.
2- مجال التنمية البشرية: ويكون عن طريق المساهمة في العملية التنموية من خلال بناء القدرات والمهارات الفردية، وتقوية العمل المؤسسي والجماعي، وتدريب الأفراد على مختلف المجالات التنموية كالتخطيط الاستراتيجي وصياغة البرامج التنموية.
3- مجال التنمية الوطنية: ويكون عن طريق المساهمة في رسم السياسات والخطط العامة على المستوى الوطني، والرقابة على الأداء الحكومي، وحماية الحقوق والحريات العامة، وممارسة الضغط لتحقيق المطالب الشعبية.
المنظمات كرديف للسلطة
طبقاً لما سبق، يمكن القول إن منظمات المجتمع المدني تُعد الرديف الواقعي للسلطة القائمة في أي بلد. ففي الدول الديمقراطية تأخذ هذه المنظمات مكانتها كرديف للسلطة من خلال تفعيل أدوات الرقابة المجتمعية، وتقييم الأداء العام للدولة، والمحاسبة والمساءلة، والمساهمة في تطوير المجتمع من خلال نشر ثقافة التنمية، وبث المفاهيم المتعلقة بالحياة المدنية، فهي شريك أساسي في تحقيق التنمية، وتمتلك قدرة الوصول إلى كافة الشرائح والفئات الاجتماعية. كما أنها الأقدر على تشخيص احتياجات المجتمع، وتبين ذلك مع العجز الذي تبديه الدولة في الإيفاء باحتياجات المواطنين الأساسية لا سيما مع تنامي التحديات وتشعبها بما يفوق إمكانات الدولة.
وقد تنبهت الدول المتقدمة لهذا الدور في وقت مبكر نسبياً، فعمدت إلى دعم دور تلك المنظمات، فيما تضاءلت فاعلية هذه المنظمات في المجتمعات العربية حتى تكاد تختفي أو تضمر أدوارها إلى أدنى مستوى ممكن. ويُعتقد أن سياسات التهميش لقوى ومنظمات المجتمع المدني كانت السبب الرئيسي في تحول الكثير منها إلى منظمات تستبطن فعلاً سياسياً مناهضاً أو موالياً للحكم القائم، وفي كلتا الحالتين تكون تلك المنظمات قد خرجت عن مسارها السليم.
منظمات المجتمع المدني في دول مجلس التعاون يفترض أن تكون الرافد الأساسي للتنمية والتطوير
منظمات المجتمع المدني تُعد الرديف الواقعي للسلطة القائمة في أي بلد
مجلس التعاون ومنظمات المجتمع المدني
بسبب الطبيعة المغلقة للأنظمة السياسية في دول الخليج، فإن المنظمات المدنية فيها تفتقد القدرة على الفعل الإيجابي، وهي لا تزال بطيئة في ممارسة أدوارها لاسيما على الصعيد التنموي، وتضم دول الخليج العديد من المنظمات المدنية تتنوع أنشطتها وبرامجها لتشمل مساحة واسعة من الاهتمامات منها على سبيل المثال قضايا الثقافة والمرأة والطفل، بالإضافة إلى القضايا الاقتصادية والصحية والقانونية، لكنها حتى الآن تكاد تكون منفصلة عن مسار المجتمع وتطوراته، بمعنى أنها أقرب إلى الأنشطة الفردية والارتجالية غير المستقرة، كما أن أهدافها المتوسطة أو البعيدة غير واضحة المعالم.
ولا نكاد نعثر على أي منظمة مدنية في الخليج تلعب دوراً استراتيجياً في الشأن العام، لا نقول إنها جميعاً أخفقت في أدوارها، وإنما بتوصيف دقيق فإن المنظمات النشطة في الخليج تتسم حتى الآن بقصور نظر، ولم تسهم بفاعلية في تغيير مجتمعات الخليج أو تقديم تصورات أو خطط للتقدم نحو حال أفضل وذلك لأسباب عدة:
1- غياب رؤية واضحة لدور منظمات المجتمع المدني ومهام عملها وصلاحيتها، وأيضاً غياب الإطار القانوني الذي ينظم عمل هيئات المجتمع المدني في أغلب دول الخليج، وعدم وضوح آليات العمل التي تضمن مشاركة فعالة في صنع القرارات.
2- غياب التعاون بين المؤسسات الشبيهة باهتماماتها، فكل منظمة تعمل في جزيرة منعزلة عن الأخرى، فلا توجد أية خطط نحو التشبيك بين تلك المؤسسات أو بناء خطوط للتعاون بينها بما يسهل قيامها بالدور المطلوب منها، وتفعيل مساهماتها التنموية.
3- غياب التفاهم مع السلطات القائمة، واستمرار نظرة الشك والريبة لكل طرف ضد الآخر، بما يقلل من أثرها في الشأن العام، ويكون تأثيرها في الغالب بحكم المنعدم.
4- غياب آليات الإدارة الرشيدة داخل منظمات المجتمع المدني، كالشفافية والمساءلة والمشاركة وتداول السلطة، بما يجعل مساعي تلك المنظمات ساقطة أخلاقياً وغير ذات جدوى.
إن منظمات المجتمع المدني في دول مجلس التعاون يفترض أن تكون الرافد الأساسي للتنمية والتطوير، فهي محضن إنتاج الكفاءات الوطنية. كما أن الشكل الأمثل لإدارة كيان الدولة الخليجية اليوم يقوم على قوة مؤسساتها، وقوة مجتمعها، والتخفيف من قبضة المؤسسة الرسمية، وذلك بهدف ضمان تزويد المجتمع بفرص التطوّر والإبداع الذاتي. ولست بحاجة إلى التدليل على أن قوة الدولة ونظامها السياسي في عالم اليوم وتعزيز قوتها ومكانتها الدولية كل ذلك يتم عبر زيادة قوة الشعوب ومشاركتها الإدارية، فالرضا الشعبي هو الذي يمنح الدولة القوة السياسية.
تأسيساً على ذلك يمكن القول إنه في ظل غياب الإصلاحات السياسية المبنية على الإقرار بالتعددية السياسية وتفعيل المجتمع المدني واحترام سيادة القانون لا يمكن تعزيز الوحدة الوطنية وتقوية الجبهات الداخلية، بل لا يمكن مضي دول الخليج في مشروع التنمية الاقتصادية والبشرية بصورة مستقرة وآمنة إلا عبر إصلاحات سياسية وتشريعية ودستورية بالإضافة إلى مجتمع مدني فاعل.
فالمواطنة في دول الخليج لا يمكن أن تتكامل إلا عبر تمكين الأفراد من المشاركة المتساوية في الحقوق والواجبات، وانتقال المواطنة من وصفها انتساباً سلبياً للوطن إلى شراكة كاملة لا مكان فيها لمنطق الغلبة، فحتى يكون الوطن وطناً للجميع ينبغي أن ننظر إليهم بوصفهم شركاء في كل جزء فيه، فأهل السلطة لا يمتلكون جزءاً أكبر من الوطن، وبالتالي لا يمتلكون حقوقاً أكثر من سائر المواطنين. إن ذلك هو المعنى الحقيقي للتنمية الشاملة التي أضحت جزءاً لا يتجزأ من الحقوق الوطنية التي تناضل من أجلها وفي سبيلها شعوب الأرض.
مهام منتظرة
تقع على عاتق المجتمع المدني في الخليج اليوم مهام أساسية في سبيل إنجاز العملية التنموية الشاملة، وفي مقدمتها العمل على ترشيد مسار الأنظمة السياسية من خلال العمل على دمج الدور المواطني للإنسان الخليجي بالفعل السياسي المؤسساتي، وتأهيل المواطنين للتعاطي مع الشأن العام وقضاياه بكفاءة عالية، بوصفهم شركاء أساسيين في كل ما يتعلق بحاضر ومستقبل المنطقة الخليجية، سواء على صعيد القضايا الداخلية أو التحديات الخارجية.
وضمن هذه المفاهيم ينبغي أن تُفعّل منظمات المجتمع المدني في دول المجلس أدوارها كرديف للسلطة لتكتمل مقومات بناء الدولة الحديثة، فالمنظمات وفق ذلك تضطلع بمهام أساسية على رأسها:
1- تأهيل وإعداد الأفراد للمساهمة في الشأن العام من خلال تزويدهم بكافة المفاهيم اللازمة لأداء أدوارهم بكل قوة وإبداع، وبناء القدرات الذاتية للأفراد للمشاركة في صياغة الرؤى ووضع الاستراتيجيات وبرامج العمل.
2- توفير بيئة حاضنة وخصبة للإبداع والترقي الإداري والفني، وسد الثغرات الناتجة عن الخلل في عدم اعتماد التخصص في عمل منظمات المجتمع المدني داخل دول مجلس التعاون، ما تسبب في ضياع الطاقات والجهود، كما أدى إلى الفشل الذريع في تحقيق نتائج إيجابية من المشاريع المطروحة.
3- ترسيخ مفاهيم حرية إبداء الرأي واحترام الاختلاف والتنوع وقبول الآخر، وتعزيز القدرة على التعاون ضمن فرق عمل وتقديم الأولويات والمصالح العامة على المصالح الضيقة، بما يساهم في تجاوز العمل وفق النظام الاجتماعي القبلي والمذهبي والمناطقي، وهو أمر تعاني منه الكثير من المنظمات المدنية في الخليج والتي لا يزال بعضها يخضع لمنطق القبيلة أو المذهب أكثر من خضوعه لمنطق العمل المدني والوطني.
4- تقديم الرؤى والدراسات في مختلف المجالات لسد القصور في أداء مؤسسات الدولة، وتغطية كافة المجالات التي تسقط سهواً أو عمداً عن اهتمامات الدولة، مثل حاجيات ومتطلبات المناطق النائية، واختلال القيم المجتمعية، والانتهاكات غير المعلنة لكرامة بعض الفئات الاجتماعية.
5- تقديم المعلومات والاستنتاجات المتوافرة لدى منظمات المجتمع المدني للجهات المعنية في الدولة من أجل حل الأزمات داخل دول الخليج ومواجهتها بأدوات علمية، والمساهمة في حملات التوعية المجتمعية، وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار.
ويتطلب نجاح المنظمات الخليجية في أداء أدوارها تغييراً جوهرياً في فلسفة إدارة الدولة من خلال اعتماد مفهوم الرضا الشعبي أساساً للحكم بعيداً عن ثقافة الاستفراد والتهميش والإقصاء، والذي ثبت أنه عامل الاستقرار والثبات في زمن الرفض العربي العارم لكل صور الاستبداد، والنزوع الشعبي نحو المشاركة في القرار.