من المعروف أن هنالك أهمية كبيرة تتمتع بها مصر على صعيد تزعّم النظام الإقليمي العربي ولعقود طويلة، ولقد نمت خلال هذه العقود وتائر من العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي ومصر لاسيما بعد انتهاجها سياسة خارجية مغايرة، خلال نهاية عقد السبعينات من القرن المنصرم، لما كانت عليه خلال حقبة سابقة، وهي سياسة أدت إلى تقاربها مع منظومة دول الاعتدال العربي ومنها دول الخليج العربية.
مما لا شك فيه أن السياسة الخارجية لدول الخليج العربية ومجلس التعاون تقوم على ضرورة تهدئة الأوضاع في المنطقة العربية منطلقة من حساسيتها تجاه أي توتر إقليمي من الممكن أن تنشب أواره في معظم دول النظام الإقليمي العربي، ولذلك كان موقف دول الخليج من ثورة 25 يناير في مصر متأرجحاً بين تأييد الثورة ومحاولة حماية الرئيس المخلوع حسني مبارك. وسوف نحاول في هذه الورقة تبيان حجم ونوع العلاقات التي تربط مصر بدول مجلس التعاون مع إظهار أهم المفاصل الخاصة بهذه العلاقة.
أولاً: المشكلات الأمنية المتتالية في الخليج
كان للحظر النفطي الناجح والذي طبقته الدول العربية المنتجة للنفط، أثناء حرب أكتوبر 1973، أثر كبير في إدراك الدول الخليجية لأهمية دورها وثروتها على السواء. لكن تطورات العقود التالية لهذه الحرب والتي شهدت نشوب الحرب العراقية - الإيرانية، واحتلال العراق للكويت، والحملة المعادية للإسلام عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، والغزو الأمريكي للعراق في 2003، أثرت سلباً في قدرات دول الخليج على التأثير في الأحداث، وأبرزت مدى انكشاف أمنها القومي، وحاجتها لبناء منظومة جديدة لحماية أمنها وثرواتها.
في بداية الثمانينات، وجدت دول الخليج نفسها بين شقي الرحى العراقية - الإيرانية، وتعرضت تلك الدول إلى ضغط استراتيجي قبل أن تتحول إلى دعم العراق ضد إيران، لأسباب مختلفة، وقبل أن يؤدي قيام العراق بعد ذلك باحتلال الكويت عام 1990 إلى استدعاء قوات دولية لإزالة آثار العدوان العراقي. وكان لذلك بدوره أثر كبير في إحداث انقسام حاد في المنطقة العربية، وفي تحول علاقة الخليج بالقلب العربي، ممثلاً في مصر، من تعاون عربي عضوي في إطار نظام إقليمي، إلى علاقة بائع ومشتر للأمن. وتراجع التعاون من المستوى القومي، كما كان عام 1973، إلى مستوى وطني يتمثل في العلاقات الثنائية بين دولتين، ثم إلى المستوى العائلي والشخصي. وقد أثر كل ذلك سلباً في علاقات دول الخليج بمصر، باعتبار أن هناك من يستطيع توفير الدعم الأمني بشكل أفضل.
ولقد أدى الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 إلى غلبة صيغة النظام الإقليمي (الشرق - أوسطي) على صيغة النظام (الإقليمي العربي)، مع تراجع الدور الذي يمكن أن تلعبه الجامعة العربية على صعيد حل الخلافات العربية والأزمات التي تواجه النظام العربي الرسمي.
وزادت تطورات ملف إيران النووي من إحساس دول الخليج العربية بالانكشاف الأمني، حيث إن كافة الحلول المطروحة لهذا الملف تأتي على حسابها. فإذا تم حله دبلوماسياً، فإن ذلك يعني تقديم واشنطن تنازلات لإيران في منطقة الخليج. أما إذا تم اللجوء إلى الحل العسكري، فسوف تكون دول الخليج في قلب الانفجار الذي قد يمتد ليشمل المنطقة كلها.
وقد تباينت الآراء الخاصة بدول الخليج بشأن مواجهة هذا (الانكشاف الأمني)، وبدأ هذا الانقسام في قمة الدوحة لدول مجلس التعاون الخليجي، نتيجة لمشاركة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، ودعوته لإقامة منطقة أمنية خليجية. وتركز الاختلاف حول الاكتفاء بتوقيع اتفاقيات دفاعية ثنائية مع واشنطن أو الانضمام إلى مبادرة اسطنبول التي طرحها حلف شمال الأطلنطي. وانضمت إلى هذه المبادرة بالفعل البحرين، الإمارات، قطر، والكويت، في حين لا تزال السعودية وسلطنة عمان تعارضانها. وأدى ذلك إلى الشعور - خليجياً - بثقل الأزمة الأمنية. وكانت تفاعلات دولية مهمة كالسباق النووي في جنوب آسيا بين الهند وباكستان، أو تداعيات أحداث 11 سبتمبر، قد أضافت تعقيدات مختلفة لمعادلات وضغوط الأمن في الخليج.
وأدى اندلاع ثورات (الربيع العربي) إلى زيادة شعور دول الخليج بأن أمن المنطقة بات مهدداً أكثر من ذي قبل، خاصة بعد اندلاع اضطرابات البحرين التي قادت إلى دخول قوات درع الجزيرة إليها، ووصول الثورة إلى اليمن، أي إلى الحدود الجنوبية - الغربية للمملكة السعودية. وكان ذلك يعني - في بعض ما يعنيه - مشكلات أمنية جديدة، في عصر تجتاحه قيم العولمة والحداثة، تحت العنوان نفسه، وهو أمن الخليج، الذي بدت كل التحولات المحيطة به كأنها تؤثر فيه سلبياً، ما جعل الدول الخليجية حساسة تجاه التغيرات الحادة المحيطة بها.
السياسة الخارجية لدول الخليج العربية تقوم على ضرورة تهدئة الأوضاع في المنطقة العربية
زادت تطورات ملف إيران النووي من إحساس دول الخليج بالانكشاف الأمني
هنالك ترابط وثيق ومصالح متشابكة تربط مصر بدول مجلس التعاون
ثانياً: الاتجاه شرقاً هدف للسياسة المصرية
تشعر القيادة المصرية بأن هنالك ضرورة لإعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية المصرية، وبمعنى أن السياسة الخارجية بحاجة لإعادة نظر، ومع ذلك فإن الدائرة الأولى الأكثر أهمية تبقى هي الدائرة العربية، مع توسيع نطاقها لتشمل دول الجوار، وهي تركيا وإسرائيل وإيران، بالإضافة إلى إثيوبيا ودول حوض النيل التي تمثل عصب الأمن القومي المصري.
وفي هذا السياق، تستند علاقات مصر بدول الخليج داخل النظام الإقليمي العربي إلى مفهومين: المفهوم الجغرافي الذي يشير إلى أن مصر دولة مجاورة لدول الخليج العربية. والمفهوم الاستراتيجي الذي يؤكد أن مصر دولة خليجية، نتيجة لثوابت الجغرافيا ومتغيرات التاريخ، ما أدى إلى انحياز سياستها الخارجية تجاه المشرق العربي والخليج.
وكان الافتراض الدائم هنا هو أن أمن الخليج جزء لا يتجزأ من الأمن العربي، وإقرار الأمن في الخليج يتطلب إقراره في المناطق المتاخمة له كالمشرق العربي ومصر. والدليل على ذلك أن حرب اليمن ومحاولة الانفصال فيها عام 1994 أثرتا في أمن الخليج. كما أن السياسة السورية كانت أيضاً تلقي بظلالها على الخليج. وفي ظل ذلك، فإن من المؤكد أن تفاعل السياسة المصرية مع الدول الخليجية يصب في صالح الطرفين، وفي صالح دعم الأمن العربي، أو ما بقي منه، إجمالاً. وهناك عدة قنوات لدعم هذا التفاعل، هي:
1- إن قناة السويس تعد شرياناً حيوياً للدول الخليجية، نتيجة لمرور ثلثي إنتاج دول الخليج من النفط عبرها، ومن ثم تعد -إضافة إلى هرمز وباب المندب- ممرات مائية مهمة تعالج في وحدة واحدة في كافة دراسات الأمن الخليجي. يضاف إلى ذلك ويدعمه أن السعودية واليمن تشاركان مصر في شواطئ البحر الأحمر، وبالتأكيد لا يمكن الحديث عن أمن الضفة الشرقية للبحر الأحمر بمعزل عن أمن ضفته الغربية، أي أن أمن مصر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأمن الخليج.
إن ذلك يفسر كثيراً من المواقف المصرية في هذه المنطقة الحيوية، فقد لعبت مصر دوراً في دعم استقلال الكويت عام 1961، وفي محاولة نزع فتيل الأزمة بين الكويت والعراق قبيل الغزو العراقي، وشاركت في حرب تحرير الكويت، وهي المشاركة التي سمحت للدول العربية بالمشاركة بعد ذلك. ثم بلورت الموقف القائم على تحرير الكويت من دون دخول الأراضي العراقية، ومن دون المشاركة في الحرب على العراق فيما بعد، كما انضمت إلى مجموعة (6+2+1) التي تحولت فيما بعد إلى (6+3+1) (دول الخليج الست ومصر، والأردن، ثم العراق، وأخيراً الولايات المتحدة) المعنية بأمن الخليج.
2- إن هناك أعداداً كبيرة من العمال المصريين في الخليج، فقد شهدت سبعينات القرن العشرين هجرة أعداد كبيرة من المصريين إلى دول الخليج العربية، وفي الموجة الثانية لعمل المصريين بالخارج بعد الموجة الأولى التي بدأت في عشرينات ذلك القرن لدعم نهضة هذه الدول، وجسدتها إعارات من الحكومة المصرية للنهضة بالتعليم وتنظيم الجمارك أو لدعم الإدارة الحكومية، وكانت مصر تتحمل أغلب أو كل نفقاتهم ورواتبهم.
وعلى الرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة لعدد المصريين في الخارج لدى الجهات الحكومية المصرية المختصة، وأماكن هجرتهم، فإن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء قدر في مايو 1999 - على سبيل المثال - حجم (العمال) المصريين في الخارج بنحو 3.5 مليون، منهم نحو 2.8 مليون شخص في الخليج إجمالاً، وهي تقديرات تقل كثيراً عن الأعداد الموجودة بالفعل لوجود عمالة مؤقتة لم تؤخذ في الحسبان. فإذا افترضنا أن كل مواطن يعول أربعة أشخاص في المتوسط، فإن عدد المصريين الذين ترتبط اقتصاداتهم بالخليج يتعدى 6 ملايين مواطن.
إن هذا الوجود المصري في الخليج يعد مهماً لمصر، لأنه يمثل جسراً للتواصل الإنساني والاجتماعي بين أبناء الشعب المصري وأبناء الشعوب الخليجية، ما يمكن أن يكون على المدى البعيد أساساً لقبول عام يمهد لتبادل أوسع للمصالح المشتركة بين الجانبين. كما أن لهذا الوجود المصري مردود إيجابي على ميزان المدفوعات، إذ إن تحويلات المصريين في الخارج فاقت قيمة الصادرات المصرية بثلاث مرات خلال الفترة من 1984 إلى 1994. وبلغت قيمتها عام 1998/1999 - وفقاً لبيانات البنك المركزي - نحو 3،3 مليار دولار، بينما كانت حصيلة الصادرات النفطية مليار دولار فقط، وهو ما دفع د. جمال حمدان إلى أن يشير لهذه الظاهرة في موسوعته (شخصية مصر) بالقول إن تدفق تحويلات المغتربين يضخ في الاقتصاد الوطني دخلاً ضخماً يناهز عشر الدخل القومي، بحيث بدأ يغير أبعاده واتجاهاته بقدر أو آخر، كما أخذ يعيد تركيب المجتمع المصري، ويعيد أيضاً ترتيب طبقاته إلى حد مماثل.. كما أن آثار التحويلات لم تقتصر على طبقة أفقية واحدة، وإنما انتشرت لتشمل نظاماً رأسياً كاملاً من طبقات المجتمع المصري جميعاً، وعلى وجه التقريب ابتداء من الحرفيين والفلاحين، حتى المثقفين والمهنيين والتجار. لذا، جاء تأثير التحويلات الطبقي أكثر تعقيداً وتلوناً، مثلما تسرب إلى القرى والريف، ولم يقتصر على المدن، وإن كان قد تركز فيها بالطبع. إضافة إلى ذلك، فقد أسهم استيعاب منطقة الخليج لأعداد كبيرة من المصريين والقوى البشرية المصرية في التقليل من نسبة البطالة المحلية، وخفف من العبء الملقى على عاتق الاقتصاد المصري وعلى الخدمات.
3- إن هناك تفاعلاً اقتصادياً واسع النطاق بين مصر ودول الخليج. ويعد التفاعل الاقتصادي بمثابة القناة الثالثة لتفاعل مصر مع دول الخليج. ويوجد مؤشران له، الأول: حجم التبادل الاقتصادي بين مصر ودول الخليج تصديراً واستيراداً، والآخر: حجم الاستثمارات المتبادلة. فلقد وصل حجم التبادل التجاري بين مصر ودول الخليج عامي 2009 و2010 ، إلى 50 في المائة تقريباً من إجمالي حجم التبادل التجاري مع مجمل الدول العربية، وهو ما يوضح انحياز التعامل الاقتصادي لمصر نحو منطقة الخليج، خاصة أن هذا الاتجاه مسيطر على علاقات مصر الاقتصادية منذ بداية ثمانينات القرن العشرين.
وقد سيطر الاتجاه نفسه على الاستثمارات بين مصر ودول مجلس التعاون الخليجي، فقد بلغت قيمة الاستثمارات المباشرة البينية العربية عام 2010 نحو 7.5 مليار دولار، كان من بينها 6.2 مليار دولار مع دول مجلس التعاون الخليجي، وكانت السعودية في المقدمة، تليها الإمارات، ثم الكويت، قطر، البحرين، وأخيراً عُمان.
دول مجلس التعاون وثورة مصر
مع قيام الثورة في تونس ثم مصر ثم ليبيا وامتدادها لليمن، أدركت كافة دول الخليج أنها ليست بعيدة عن (الربيع العربي). وللوهلة الأولى، اتخذت موقفاً متحفظاً متمثلاً في اعتبار المشكلة داخلية، مع الإعراب عن الأمل في حل الأزمة سلمياً، وحث الولايات المتحدة - وفق بعض التقارير - على عدم التخلي عن الرئيس السابق حسني مبارك، ووصل الأمر إلى اقتراح تعويض مصر عن المعونة الأمريكية، إذا لزم الأمر.
وعلى الرغم من بعض القرارات التي اتخذتها الحكومة المصرية ضد بعض رجال الأعمال العرب في الخليج، فإن السعودية كان لها فضل السبق في الفصل بين هذه الأمور والعلاقات مع مصر بعد الثورة. وكان الموقف المتحفظ الذي اتخذته السعودية، بصدد الموقف من الرئيس المصري السابق حسني مبارك، نابعاً من رغبة في أن يحتفظ الزعماء العرب بقدر من الاحترام الذي يترافق مع خروجهم من السلطة، وعدم الدفع باتجاه القيام بعمليات انتقامية من الرئيس السابق أو مؤسسة الرئاسة، لما يؤديه ذلك من تداعي ما تبقى من هيبة مؤسسة الحكم العربي.
وعلى الرغم من إعلان دول الخليج عن توفير دعم مالي للاقتصاد المصري، فإن هذا الدعم لم يعلن عن وصوله إلا بنسب محدودة، في وقت انتشرت فيه أنباء عن سفر مبارك إلى تبوك للعلاج، ورغبة السعودية في عدم محاكمته، ما أدى في النهاية إلى ملابسات مهاجمة السفارة السعودية بالقاهرة، أو ما بدا أنه مهاجمة لها.
ويمكن القول إن هنالك ترابطاً وثيقاً ومصالح متشابكة جسدتها العلاقة التي تربط مصر بدول مجلس التعاون الخليجي، ورغم ما يبدو على السطح من توتر أو سوء فهم في مسيرة العلاقات المصرية -الخليجية فإن هنالك حقيقة لا مناص من الاعتراف بها وهي أن استمرار مثل هذه العلاقة مع زيادة وتائرها وتمتينها يفضي إلى تمتين النظام الإقليمي العربي وترسيخ وجوده في ظل موجة من المتغيرات التي تعصف به، وتكاد تقضي عليه.