يعيش العالم العربي في هذه الغضون تحولات عميقة في الدول التي نشبت فيها ثورات، والدول التي ما زالت تترقب بحذر شديد تمدد الحالة الثورية إلى نظمها السياسية. فالأولى، تمر بحالة صيرورة وتحول من حقبة النظم التسلطية إلى حقبة جديدة ما زالت قيد التطور والتشكّل ومفتوحة على مسارات متعددة. والثانية، باستثناء مملكة البحرين، ما انفك الوضع السياسي للمملكات الخليجية مستقراً ظاهرياً رغم بعض الاحتجاجات السياسية هنا وهناك.
مثّل صعود الروح الثورية العربية بداية ظهور نوعٍ جديدٍ من التحديات تضاف إلى التحديات الأخرى التي تواجه الملكيات الخليجية، وهذا ما يفسر قلقها تجاه هذه التغيرات الجارية في الإقليم التي تحدث على مرأى ومسمعٍ منها، وعلى صدع دعوى (الملكية الدستورية) و(التحول نحو الجمهورية) و(إسقاط الملكية) كمطالب شعبية لدى الحركات الاحتجاجية في الخليج.
تسعى هذه القراءة إلى رصد مدى أثر هذه التحولات في المملكات الخليجية، وردود فعل الأخيرة تجاهها، وصداها على العلاقات العربية – الخليجية. وقبل ذلك حري بنا أن نضع عدداً من المحددات:
1- إن صيرورة التغيير لا تزال سارية بفعل الديناميات التي تمر بها الحالة العربية والتي لا تزال غير مكتملة المسار. وبالتالي فإن إصدار تقييم شامل للعلاقات والسياسات والتوجهات أمر سابق لأوانه. وثمة دول لم تصلها موجة الاحتجاجات، ما يعني ثباتاً نسبياً في سياساتها الخارجية مقارنة بالدول التي تبدلت فيها السلطة.
2- أولوية الداخل على الخارج لدى الدول التي نشبت فيها ثورات، وهذا يعني سباتاً نسبياً في علاقاتها الخارجية.
3- إن مسار الاندفاعات الثورية أخذ بالانتقال من بلد عربي إلى آخر، وهذا يؤكد أن ما يجري في مغرب الوطن العربي يتأثر به مشرقه، الأمر الذي يفرض منظوراً ينطلق من أن الوطن العربي كلٌ واحد تتواشج أجزاؤه وتتعاضد، وأن أي تغيير في الجزء ينعكس بالضرورة على الكل. وهذا يعني أن الثورات العربية سوف تؤثر بالضرورة وإن كان بشكل تدريجي في المعادلة السياسية والأمنية في الخليج.
4- تعاني الملكيات الخليجية من أسباب بنيوية لعدم الاستقرار، ما يجعل قابلية تأثرها بالربيع العربي كبيرة جداً.
5- سيكون لنجاح أو فشل البلدان التي نشبت فيها ثورات في الارتقاء صوب النموذج أو النمط السياسي الديمقراطي آثاره العميقة على المنطقة كلها بما فيها الدول الملكية.
تأسيساً على هذه المحددات، تنطلق الورقة من مدرك نظري أساسي في الاقتراب النظمي المعروف في التحليل السياسي، مؤداه أن هناك تفاعلاً ديناميكياً بين وحدات النظام السياسي، فالتغير في البيئة، الداخلية أو الخارجية، يؤثر في النظام أو الجهاز السياسي، وكذلك تؤثر أفعال الجهاز السياسي في بيئته، وأن هذا التفاعل يقوم على فكرة (الاعتماد المتبادل).
بناءً على هذا المدرك، فإن ما يجري من تحولات بنائية دخلها العالم العربي يشكل مدخلات البيئة (Inputs) إلى النظم الخليجية، وأن ردود أفعال هذه الأخيرة تشكل مُخرجات (Outputs).
ومن المعروف أن الملكيات الخليجية جزء من النظام الإقليمي العربي، وتتأثر بما يجري من حولها وتؤثر فيه. ويترتب على هذه المقولة نتيجة مفادها أن (الربيع العربي) سوف يترك آثاره على العلاقات العربية - الخليجية، وسوف يُرتب نتائج سياسية مفتوحة على مسارات متعددة.
وبالفعل ثمة العديد من المخرجات صدرت عن الأجهزة السياسية الخليجية كانت بسبب ما يجري في بيئتها المحيطة، تمثلت في بث القرارات على المستوى المجتمعي الكلي الشامل وإعمالها، من خلال الأعطيات المالية للأفراد، وانفتاح جزئي للحريات العامة، فضلاً عن المواقف والبيانات والمطالب السياسية الموجهة للبيئة الخارجية.
ماذا يعني ذلك؟ إن المدرك النظري أعلاه ينفي فكرة (الاستثنائية الخليجية) و(الحصانة الملكية) التي تعني أن المملكات الخليجية محصنة ضد رياح التغيير التي تهب على المنطقة.
فالحالة الخليجية ليست عصية على التغيير كما يتصور البعض، وأن النظم الخليجية ليست منغلقة على نفسها تجاه بيئتها الداخلية والخارجية، فمن يؤمن بمقولة (الاستثنائية) ينطلق من فكرة جوهرية ثبت فشلها في التحليل السوسيولوجي.
فما يجري في المحيط العربي من تحولاتٍ ثورية سوف ينعكس بالضرورة على الملكيات الخليجية. وبغض النظر عن قوة هذه الآثار وكثافتها والمدى الزمني الذي سوف تأخذه حتى تتشكل حالة جديدة، المهم أن هناك أثراً لا يمكن إنكاره، له أبعاده النفسية والفكرية، قد يؤسس لتغيرات سياسية بفعل عملية التراكم الزمني الممتد. وإلا كيف يمكن تفسير حركة الاحتجاج البحرينية أمام قصر الملك، ومطالب سقوط الأسرة المالكة من قبل البعض وهي مظاهر جديدة غير مسبوقة على الإطلاق؟ ألا ينبئ ذلك ببداية سقوط المطلق السياسي، وما يعتبره البعض خطوطاً حمراً ومقدساً لا يمس، وبالتالي خطأ مقولة (الاستثنائية الخليجية)؟!
مجلس التعاون الخليجي.. الصعود والتمدد
يشكل صعود دور مجلس التعاون الخليجي وتمدد نطاقه الجيو-سياسي أحد المخرجات السياسية تحت تأثير (الربيع العربي). تمدد نطاق علاقات المجلس البينية ودوره السياسي بعدما كان شبه محصور في نطاق نظام فرعي في منطقة الخليج العربي. فقد تمدد المجلس في مصر وليبيا واليمن وسورية والبحرين، من خلال التدخل العسكري أو من خلال دعم بعض الجماعات أو بالتمويل أو بالإعلام، والهدف هو إعادة موضعة للتحالفات الخليجية في الإقليم وبناء اصطفافات إقليمية جديدة للحيلولة دون سقوط بعض النظم الخليجية –البحرين مثلاً- باعتبار أن ذلك قد يشكل مقدمة لسقوط الأنظمة الملكية في الخليج.
ومن بين المخرجات الأخرى قرار المجلس عقب موجة الثورات قبول انضمام عضوية مملكتي الأردن والمغرب إلى مجلس التعاون، وما دعا إليه العاهل السعودي إلى تحويل مجلس التعاون لاتحاد خليجي. لقد انتقد البعض هذه الفكرة بذريعة أنها خيار ضعيف مقارنة بالخيارات الأخرى الأنجع في التعاطي مع التحديات الجديدة. ومع ذلك، تشكل هذه المخرجات إدراكاً مضمراً من قِبل الملكيات الخليجية مفاده لا يمكن الاستمرار والثبات وفق صيرورة مرحلة ما قبل (الربيع العربي)، وأن ما كشفه الأخير من مطالب جديدة بحاجة إلى صيغ سياسية جديدة تتناسب والواقع الجديد. بيد أن هذه الصيغ الجديدة لا تزال مقيدة وترتد إلى حماية النظام القائم وقاعدته الاجتماعية الضيقة، بدلاً من توسيع قاعدته الاجتماعية من خلال الانفتاح الإيجابي على مطالب الاحتجاجات في الخليج والتعاطي معها وفق منظور جديد يشرك الشعب في عملية صنع القرار من خلال مشاركة سياسية أوسع، فوسائل الكبت لن تستمر طويلاً لدى شعوب مجلس التعاون الخليجي.
وثمة متغير أساسي سوف يعكس مفعوله على معادلة الأمن في الخليج، وهو حدود تأثير المتغير الخارجي. فالخليج أوكل أمنه لحليفه الخارجي الأمريكي. فقد ولّد تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع (الربيع العربي) هواجس لدى الأنظمة الخليجية بسبب الأداء السلبي للإدارة الأمريكية تجاه (الربيع العربي) والتي أدت إلى سقوط نظامي زين العابدين ومبارك. وبات اليوم على مجلس التعاون أن يفكر جدياً في مسألة المساومة، في حال أجبرت أمريكا عليه، بين المد الديمقراطي في العالم العربي والخليج وعلاقة الأنظمة الخليجية بالإدارة الأمريكية. هذا الإدراك سوف يؤثر في منظور الأمن الخليجي وحدود الارتهان للحليف الخارجي.
لا تزال فرصة الإصلاح السياسي في الخليج قائمة في ظل غياب المعارضة الراديكالية في الخليج، وهيمنة الثقافة المحافظة، والوفرة المالية، والاستقرار النسبي، والعلاقات الخارجية الجيدة، كل ذلك يسمح بالسير نحو الإصلاح التدريجي الذي قد تفتقده الملكيات الخليجية في حال عجزها عن استشعار آفاق المستقبل، الأمر الذي يكرر ما حصل مع (الجمهوريات العربية) عندما افتقدت استشعار الحاجات المجتمعية، حيث أثبتت تلك الجمهوريات أنها عصية على الإصلاح والتغيير، وأكدت لشعوبها وقواه الحية أن الثورة هي الطريق الوحيد لعبور المجتمع من الماضي إلى المستقبل، حتى يمكن التخلص من الأغلال التي كبلت المجتمع، ومن الرواسب التي أثقلت كاهله، من خلال التخلص من عوامل القهر وإفقار الطبقات الشعبية الذي مارسته تلك الجمهوريات، مما ولد اندفاعة ثورية اقتحمت كل العوائق والموانع التي تعترض طريق الحياة من خلال إسقاط هذه الجمهوريات المزيفة.
كما أن الأنظمة الملكية الخليجية أوجدت طبقة وسطى مثقفة ومتعلمة بفعل برامجها في التحديث الاقتصادي، من خلال توظيف عائدات النفط. وتشير الخبرة التاريخية للملكيات في (الشرق الأوسط)، ولتكن الملكية السنوسية الليبية (1951-1969) على سبيل المثال لا الحصر، إلى أن التحديث الاقتصادي ينمي طبقة وسطى متعلمة ومثقفة، وهو تحديث غير كاف بما أنه تحديث اقتصادي من دون تحديث سياسي، ما أصبحت معه بعض الملكيات ضحية برامجها التحديثية عندما ولدت حركات احتجاج ضدها تطالب بالمشاركة السياسية، كما حدث مع الملكية السنوسية في ليبيا. وهو ما يطلق عليه علماء الاجتماع (التداعيات غير المتوقعة للفعل الاجتماعي).
ما أقصد قوله إنه ليس الحرمان الاقتصادي وحده ما يولد ديناميات ثورية، بل- وهذا ما تشير إليه خبرة الملكيات العربية- إن التحديث الاقتصادي، وارتفاع نصيب الفرد من الدخل، والرفاهية الاقتصادية، وتحسين الأوضاع المعيشة، في ظل أنظمة سياسية منغلقة، كل ذلك يولد اندفاعات ثورية وحركات احتجاجية لإنفاذ مشروع التحديث السياسي، حين تصبح الفئات الوسطى التي استفادت من التحديث الاقتصادي غير راضية على وضعيتها المجتمعية، وتندفع بعد مقارنة نفسها بالفئات الحاكمة وأصحاب النفوذ السياسي إلى المطالبة بالمشاركة السياسية.
ولذلك تشهد الملكيات العربية تجديداً لعوامل عدم الاستقرار والأسباب الدافعة له بفعل سنن التطور. تضع هذه الوضعية الجديدة الملكيات الخليجية أمام مسؤولية تاريخية نحو ترسيخ المشروعية والشرعية، وتجديد الأسس الاجتماعية للدولة، والأخذ بالتحول مع الوقت إلى ملكية دستورية قبل فوات الأوان حين تتصاعد المطالب من ملكية دستورية إلى مطالب إلغاء الملكية وإقامة جمهورية بديلة.
الثورات العربية سوف تؤثر بشكل تدريجي في المعادلة السياسية والأمنية بالخليج
النظم الخليجية ليست منغلقة على نفسها تجاه بيئتها الداخلية والخارجية
ولّد تعامل الولايات المتحدة مع (الربيع العربي) هواجس لدى الأنظمة الخليجية
مجلس التعاون لن يترك الحالة الثورية العربية تشتغل وفق منطقها الخاص
المفاهيم الجديدة.. الروح البازغة
سيجد مجلس التعاون الخليجي نفسه مضطراً للتعامل مع مفاهيم جديدة تعكس ديناميات (الربيع العربي)، من قبيل (خصخصة السياسة الخارجية)، وبروز (فاعلين من غير الدول)، وصعود (الرأي العام العربي)، و(سياسات الشارع). وهي مفاهيم جديدة على السياسة العربية.
قبل ذلك كانت السياسات العربية سياسات نخبوية، نطاق ممارستها وأبعادها ومضامينها محصور في نطاق القيادة السياسية ومصالحها وتصوراتها.
وتعكس هذه المفاهيم الجديدة روح الأمة وهويتها، وهو ما يشي بإعادة التوازن المختل بين الدولة والمجتمع.
وهكذا، مع هذه المفاهيم الجديدة، أصبحت هناك أولوية لا يمكن تجنبها، في سياق حالات عدم الاستقرار واللايقين التي يعيشها الإقليم، وهي الداخل أولاً وأخيراً. وسيبقى الداخل هماً طاغياً على الحوارات الداخلية، وستنعكس على التفاعلات العربية - العربية في حدود تأثيرها على الحوارات الداخلية، بينما ستبقى العوامل الأخرى غير المؤثرة مباشرة على الداخل غير مكبلة الحركة على الصعيد الخارجي.
وتأسيساً على هذه الحالة، هل من المقبول أن ينصاع مجلس التعاون الخليجي لاعتبار الداخل في الإقليم، وتحدياً للمجتمعات التي نشبت فيها الثورات، ويستثني اعتبارات الداخل للمجتمع الخليجي؟ الأمر الذي يولد صورة سلبية لدى المجتمع الخليجي عن السلطة السياسية التي تحكمه.
ولذلك فرسالة (الربيع العربي) واضحة للأنظمة الملكية، وهي أن استمرار الأمور على الوتيرة نفسها هو من باب الوهم. وبناء على هذه النتيجة قد تقدم هذه الأنظمة تنازلات ترمي إلى توسيع قاعدة الشرعية من خلال فتح المجال العام وتوسيع نطاقه من خلال مشاركة شعبية واسعة، وتمثيل الشعب في هيئات سياسية منتخبة، تعكس الروح الجديدة البازغة. آنذاك من المحتم أنه سوف ينعكس ذلك في بيئة العلاقات العربية – الخليجية وعلى نسق هذه العلاقة.
حدود التمأسس
إلى أن يكتمل مسار التغيير بفعل الزمن وعامل التراكم في إنتاج التحول، فإن التغيير الجاري لم يتمأسس بعد. فالبنية المؤسساتية للأنظمة السياسية في الدول التي نشبت فيها ثورات لم تتبدل كلياً وبخاصة في ما يتعلق بالسياسة الخارجية.
ولا تزال آليات صنع القرار السياسي تسير وفق القواعد التي كانت تعمل من خلالها النظم السابقة في الدول التي اندلعت فيها ثورات. وهذا يعني أن التغيير ما زال محدوداً لم يتأطر بعد، ولم يُستدخل في البنى، ولم تستبدل الأسس والمنطلقات التي كانت تعمل وفقها السياسات العربية، فلا تزال الأجهزة السياسية، وآليات صنع القرار السياسي، ودور القوى السياسية الرسمية هي ذاتها لم يطالها التبدل.
وبالتالي فإن العلاقات العربية - الخليجية حتى الآن لم يجر عليها أي تبديلات جذرية، وقد يستمر هذا الوضع في المدى القريب. فحجم التغيير في السياسات الخارجية محدود أو بالكاد هناك تغيير في توجهات العلاقات الخليجية- العربية. وحتى اللحظة لم تحدث استقطابات بين الدول التي انهارت فيها السلطة الرئاسية وبين الدول التي مازالت مستقرة والتي لم تمتد إليها الاحتجاجات.
ولذلك لا تزال الأولويات الموجهة لنسق العلاقات الإقليمية والدولية مستقرةً في الثقافة السياسية للنخب العربية - الخليجية الحاكمة. وتشير الملاحظة إلى أن الملفات المهمة للسياسة الخارجية لم يطالها أي تغيير، حيث لا تزال المواقف متقاربة من العامل الأمريكي ومصالحه، ولم تتغير المواقف من الصراع العربي-الإسرائيلي، والملف الفلسطيني، وتحديداً المبادرة العربية للسلام. أما المواقف من الدول الإقليمية، فتشير المتابعة لمرشحي الرئاسة المصرية إلى تقارب مواقفهم من مواقف الأنظمة الخليجية إزاء إيران وتركيا. وبالتالي فإن هذه الملفات لم تشهد تغيرات في تطورها منذ اندلاع حركة الاحتجاجات العربية، الأمر الذي يعني استمرار نمط العلاقات العربية-الخليجية، كما أنه من المبكر بروز تحالفات جديدة تنقلب على تلك القديمة. وإلى أن تبزغ الخلافات حول هذه الملفات وطرق إدارتها أو في ترتيب أولوياتها، أو تغيير المضامين والأسس التحالفية بعد تبدل البنى والمؤسسات والأدوار والأطراف، إلى أن يحدث ذلك فإن المرء لا يستبعد انقلاباً في نسق العلاقات الخارجية وبروز تحالفات سياسية جديدة بين دول المنطقة تنقلب على تلك القديمة.
إن انهيار بنى ومؤسسات النظام السياسي يتبعه حتماً انهيار في دور النخب السياسية وطبيعتها وأصولها وتوجهاتها السياسية وتحالفاتها الخارجية، وتستتبع ذلك إعادة تشكَل جديدة. وإلى أن يحدث هذا فإن نمط العلاقات السياسية العربية - الخليجية سوف يبق ثابتاً على الوتيرة نفسها.
فالتغيير له عدة مستويات، فما جرى هو تغيير في رأس النظام، وليس في القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يطول فيها التغيير، وتحتاج إلى فترات زمنية أطول، وهو ما يجعل التغيير على صعيد العلاقات السياسية الخارجية محدوداً. وحتى الآن لم يكشف (الربيع العربي) عن توجهات ومواقف جديدة إزاء القضايا الجوهرية في المنطقة، ما يعني بالضرورة سير العلاقات العربية – الخليجية وفق نسقها المتواتر.
أما على الصعيد غير الرسمي، فمن الملاحظ أن ثمة تزايداً في الدبلوماسية الشعبية من خلال سيولة الوفود العربية والشخصيات غير الرسمية تجاه الدول التي نشبت فيها ثورات. ومع ذلك لا تزال الدول التي تعاني مخاضاً ثورياً لم تنضج الصورة فيها، ولم تكتمل ما جعل أثر (الربيع العربي) محدوداً على العلاقات العربية - الخليجية.
وهذا لا يعني أن الأمور سوف تترك لعامل المصادفة في تشكيلها، فالزمن محايد يستغله من يخطط ويتدبر أموره وفق العقلانية السياسية، كما يجيره الأقوياء لمصالحهم. وهذا يعني أن مجلس التعاون الخليجي لن يترك الحالة الثورية العربية تشتغل وفق منطقها الخاص، وإنما سوف يعمل على توظيف ما أمكن لمنع انتقالها إليه من خلال توظيف أدواته وموارده وهو ما تكشفت ملامحه من دعم بعض الجماعات في داخل الدول التي اندلعت فيها ثورات، فضلاً عن التوظيف الإعلامي والمالي. وخير مثال على ذلك، زيارة (عمر سليمان) رئيس المخابرات المصرية السابق، وأحد أركان نظام مبارك، إلى السعودية، إثر هذه الزيارة ترشح سليمان للرئاسة المصرية، ويبدو لي أنه مقترح سعودي في الأساس، وهي محاولة للتأثير على مجريات الأمور في مصر. ومثال آخر، نشاط مجلس التعاون الخليجي وكثافة حضوره في المشهد الإقليمي بغية التأثير في ديناميات الثورة. كما يأتي هذا التمدد لإحلال المجلس محل تراجع دور بعض عناصر النظام الإقليمي العربي بفعل التركيز على أولوية الداخل.