array(1) { [0]=> object(stdClass)#13490 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 94

مؤامرة تقسيم السودان

الأحد، 01 تموز/يوليو 2012

كان تقسيم العالم العربي وفق مؤامرة سايكس – بيكو وما زال من أكبر النكبات التي ابتليت بها الأمة العربية في تاريخها الحديث. ومعروف أن هذا التقسيم استلزمته الحاجة الاستعمارية الغربية قبل أي شيء آخر، وإن كانت هناك مسوغات إقليمية وحضارية محدودة، يذكرها بعض المراقبين لـ (تبرير) أغلب تلك التقسيمات.

إن الهدف الرئيسي من وجهة النظر الاستعمارية الغربية لذلك التقسيم، هو توزيع مناطق النفوذ بين كبار المستعمرين، والحيلولة دون قيام اتحاد عربي، يمكن أن يشكل نواة لدولة كبرى، يمكنها لاحقاً أن تتحدى الغرب المتسلط. فالتقسيم يضعف، ويسحق دون شك، المُقَسم (بضم الميم وفتح القاف).

ولا أعتقد أن (الوحدة) العربية أمر كله إيجابي – بالنسبة لكل العرب– باعتبار أن لكل من مناطق بلدانهم (خصوصية) حضارية مختلفة ومتميزة، ما قد يجعل الاندماج الكامل فكرة غير عملية. لكن (الاتحاد) فيما بين بلاد هذه الأمة يعتبر الضمانة الأساس لعالم عربي قوي، يستطيع حماية الحقوق العربية المشروعة، ويسهّل لهذه الأمة أن تكون لها مكانة مرموقة لائقة بين أمم الأرض. ونذكر ذلك، وفي الذهن صيغة الاتحاد الفيدرالي الرائعة والتي توصف بأنها (الإطار الذي يحقق المعادلة الصعبة بين مكسب الحفاظ بالقدر الأكبر على الخصوصية والذاتية، وربح العضوية في كيان أكبر وأقوى).

(الاتحاد)، إذاً، هو الذي يحقق لأية أمة القوة والعزة والمنعة. ومعكوسه (التشرذم) لا يؤدي بالأمة – أية أمة – إلا إلى الضعف والذل والهوان. وقد أدرك أعداء الأمة العربية – وكذلك عقلاء العرب – هذه الحقيقة منذ القدم، فاتخذ الأعداء من التقسيم والشرذمة أداة رئيسية لإضعاف الأمة العربية كوسيلة للهيمنة عليها، والتحكم في مصيرها ومقدراتها. وقد نجح الأعداء – أيما نجاح – في تحقيق هدف سياستهم هذه، ساندهم في ذلك تخبط العرب، وتواطؤ بعضهم مع هذه السياسة المدمرة.

ولكل ذلك، لا يستغرب أن تكون وسيلة (التقسيم) وبثّ الفرقة والخلاف بأنواعه في العالم العربي، أهم الوسائل التي تستخدمها إسرائيل في سياساتها العدوانية الحالية تجاه الأمة العربية. فلقد انقسم الاستراتيجيون الإسرائيليون إلى قسمين بشأن إقامة (إسرائيل الكبرى) في المنطقة. جميعهم متفقون على أن تكون إسرائيل هي الدولة المهيمنة والقوة العظمى الإقليمية الوحيدة فيها، لكنهم يختلفون بشأن وسائل تحقيق هذه الهيمنة الجهنمية. قسم يرى ضرورة التوسع الجغرافي والتفوق العسكري، والقسم الآخر يرى أن هذه الهيمنة يمكن أن تقام من دون توسع جغرافي، لكن عبر تفوق عسكري وتقني كاسح، وعبر شرذمة أعدائها. والمهم أنهم متحدون في الهدف وهذا ما يجب أن يحسب خطراً رهيباً بالنسبة للعرب.

لقد كانت إسرائيل – وما زالت وستظل – أبرز وأخطر العاملين على تفتيت الأمة العربية. فالتصور / الهدف الصهيوني الاستعماري هو منطقة فيها إسرائيل دولة إقليمية عظمى، تحيط بها دويلات عربية متنافرة ومتصارعة، الأمر الذي يضمن لإسرائيل الهيمنة المأمولة من قبل الصهاينة والمستعمرين، ويتيح لها ولحلفائها السيطرة على مصير هذه الأمة، والتحكم في مقدراتها.

إن الشواهد على هذه السياسة الإسرائيلية أكثر من أن تحصى، وليس تقسيم السودان إلا أحد الأمثلة. وبمجرد أن تفرغ إسرائيل من التخلص من أعدائها ومناوئيها الحاليين، ستتفرغ لتحقيق هدف تقسيم المقسّم – كما يقول كثير من ساستها واستراتيجييها ومفكريها. لكن، أين العرب من هذه الحقيقة المرعبة؟ إن على العرب اللوم الأساس، لأنهم بأوضاعهم غير السوية المعروفة يسهلون لأعدائهم الانتصار الساحق عليهم، ويدفعون بأجيالهم القادمة إلى مصير مظلم، لا سمح الله.

في حفل تكريمه عام 2010 م، بمناسبة تقاعده، وقف مائير داغان رئيس الاستخبارات الإسرائيلية السابق (الموساد) على المنصة، يتغنى ببعض (الإنجازات) التي تمكنت استخباراته من تحقيقها في عهد رئاسته وما سبقها. ومما قاله (إنه يفخر بأن انفصال جنوب السودان عن السودان، الدولة الأم، قد تم بعد جهود استخباراتية إسرائيلية مكثفة بدأت منذ عام 1956م). وأضاف (لقد استغلت إسرائيل كل العوامل المفرقة بين الشمال والجنوب السوداني لتحقيق هدفها في تمزيق دولة عربية كبيرة كانت ولا تزال لها مواقف عدائية تجاه إسرائيل)، ولأن السودان يمثل عمقاً استراتيجياً لمصر العدو الأكبر لإسرائيل – كما قال.

ولمّح إلى أن ما تم عمله بالسودان يجري عمل ما يشبهه في دول عربية أخرى. وما فعلته إسرائيل بالسودان هو تنفيذ لاستراتيجية إسرائيلية وضعها (بن غوريون)، أول رئيس وزراء لإسرائيل، إذ نادى بضرورة العمل على تقسيم الدول العربية ما أمكن عبر استغلال التناقضات الطائفية والخلافات المذهبية، وضرورة وجود نفوذ لإسرائيل في البلاد الإفريقية والآسيوية المحيطة بالدول العربية، وعدم التركيز على دول المواجهة العربية فقط.

صحيح أن هناك عدة عوامل تضافرت لتؤدي إلى انفصال جنوب السودان، ومنها عوامل سودانية وعربية بحتة. فالقيادة السودانية تتحمل – منذ الستينات من القرن الماضي- جزءاً من مسؤولية الانفصال، الذي يتمنى العرب الآن أن تكون إيجابياته أكبر من سلبياته بالنسبة للسودان والعرب ككل. (وهيهات أن تكون الإيجابيات أكبر طالما تواصل إسرائيل أو غيرها تحركها التدميري في عالمنا العربي من دون رادع حقيقي. وما يجري الآن من صراع حاد بين السودان وجنوب السودان يؤكد هذه السلبيات). لكن حديث رئيس الاستخبارات الإسرائيلية السابق وغيره يؤكد، على أي حال، أن إسرائيل لعبت عبر استخباراتها المذكورة دوراً رئيسياً في تحقق هذا الانفصال، ويزيل الشك – أو هكذا يجب – بأن إسرائيل لا ولن تتورع عن تكرار هذه التجربة في دول عربية أخرى كما يقول بعض مسؤوليها.

الاتحاد فيما بين بلدان الأمة العربية يعتبر الضمانة الأساس لعالم عربي قوي

التقسيم بأنواعه أهم الوسائل التي تستخدمها إسرائيل في سياساتها العدوانية الحالية تجاه الأمة العربية

ورحم الله أيام المقاطعة العربية الصارمة للكيان الصهيوني، والنشاط المصري والعربي في إفريقيا الساعي لعزل ومقاطعة إسرائيل، فقد تراخت تلك المقاطعة، أو تلاشت – على الأصح - في كثير من المجالات. أما النفوذ المصري في إفريقيا، الذي كان يتصدى لتسلل إسرائيل إلى هذه القارة، فقد تبخر في العقدين الأخيرين، خاصة في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، الذي تفرغ – وعمر سليمانه – لتكريس سلطته على مصر، والهيمنة على مقدراتها، وتفانى في استرضاء أمريكا وإسرائيل طلباً لدعمهما لتوريث رئاسة مصر لابنه جمال. فأطلقت يد إسرائيل في إفريقيا التي شرعت بمحاصرة مصر عبر مد النفوذ الصهيوني إلى منابع النيل، وعبر تقسيم السودان، مهددة الأمن القومي العربي كله.

وقد أرسلت إسرائيل آلاف الخبراء والجواسيس إلى الدول المحيطة بالسودان. وما إن بدأت الحركة الانفصالية في جنوب السودان حتى سارعت بتقديم الدعم التام للانفصاليين. ولم يستغرب، إذاً، أن تكون إسرائيل من أوائل الدول التي اعترفت بدولة (جنوب السودان) منذ إعلان استقلالها في يوليو 2011م، وفتح سفارة إسرائيلية في جوبا، عاصمة الدولة الوليدة. كما لم يستغرب أن تكون ثاني زيارة لرئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت خارج بلاده، هي زيارته لإسرائيل بتاريخ 30 ديسمبر 2011 م. وفي حفل استقباله قال شمعون بيريز رئيس إسرائيل مخاطباً سلفا كير (إن علاقة إسرائيل بقادة انفصال الجنوب بدأت منذ مطلع الستينات من القرن الماضي). وردّ عليه سلفا كير بقوله (لقد وقفتم إلى جانبنا طوال الوقت، ولولا الدعم الذي قدمتموه لنا لما قامت لنا قائمة). وقد تم الاتفاق بين الطرفين خلال هذه الزيارة على إرسال وفد إسرائيلي كبير لدراسة كافة الاحتياجات المطلوبة الجديدة، وتسيير خط طيران مباشر بين تل أبيب وجوبا. وبالفعل، توجه مؤخراً وفد عسكري إسرائيلي رفيع المستوى، يضم خبراء عسكريين ومدنيين برئاسة مستشار الرئيس الإسرائيلي للشؤون الأمنية ديفيد كوهين إلى جوبا، مصحوباً بشحنة أسلحة ومعدات عسكرية جديدة لجيش جنوب السودان.

والخلاصة، أن إسرائيل كانت ولاتزال تخطط لتفتيت السودان وغيره لعدة دويلات، وأن الوجود الإسرائيلي في إفريقيا يهدف – ضمن ما يهدف إليه – إلى تهديد الأمن القومي العربي، والحد من النفوذ العربي والإسلامي في هذه القارة المهمة. ولا شك في أن كل المعنيين من العرب يدركون هذه الحقيقة بتفاصيلها المرّة المعروفة. وتظل هناك عدة أسئلة، لا بد أن تثار في هذا الشأن، منها: ماذا سيفعل العرب غير إبداء الأسف والحسرة وتجاهل هذه الأخطار الحقيقية المحدقة..؟

مجلة آراء حول الخليج