تحاول هذه الورقة الكشف عن أهم المراحل التي مرت بها العلاقات السورية-السعودية سيما وأن هذه العلاقات كانت واحدة من نقاط الارتكاز في العمل العربي المشترك كما أنها لم تكن وليدة ظهور الدولتين في التاريخ المعاصر للعرب بل كانت لها امتدادات تاريخية وشكل كل منهما الآخر بظروف وملابسات لم تكن وليدة المصادفة بأي حالٍ من الأحوال.
نستطيع أن نؤرخ لبدايات العلاقة بين الجمهورية العربية السورية ككيان سياسي ظهر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والمملكة العربية السعودية مع اعتماد مؤسس المملكة عبدالعزيز آل سعود على عدد من السياسيين والاقتصاديين السوريين كمستشارين وخبراء يعتمد عليهم في إدارة دولته الناشئة. لقد استعان الملك عبد العزيز آل سعود بعدد من العائلات السورية لمساعدته في إدارة الحكم وهناك الكثير من العائلات السورية ورجالها ممن كان لهم الفضل في إرساء قواعد الحكم والسلطة في السعودية، وما زال من بين أبناء هذه العائلات السورية من يشغل مناصب دبلوماسية حساسة في سفارات المملكة المنتشرة في الخارج وفي دوائر ومراكز مهمة في السلطة.
ولقد عملت السعودية على دعم حكم الرئيس السوري الأول شكري القوتلي وساهمت في إعادته للحكم أكثر من مرة بعد تعرض نظام حكمه لانقلاب عسكري تم على يد حسني الزعيم، كذلك ساعدت انقلاب أديب الشيشكلي، وساءت العلاقات السعودية-السورية في عهد حكم الرئيس هاشم الأتاسي ولم تكن بالمستوى المطلوب، لتعود من جديد إلى عصرها الذهبي مع وصول الرئيس الراحلحافظ الأسد إلى الحكم وانفتاحه على الرياض التي قدمت بدورها دعماً ووقفت بجانب سوريا في أزمة الثمانينات والحصار الأمريكي لسوريا، عن طريق دعمها لليرة أو شراء احتياطي العملة الصعبة وضخها في دورة الاقتصاد السوري. وتعاونت السعودية مع نظام حكم العقيد أديب الشيشكلي، ولم تكن العلاقات بين البلدين خلال عهد الوحدة لتنحو منحى ودياً وذلك بحكم طبيعة العلاقات التي كانت تربط السعودية بالنظام الناصري، ولم تعد العلاقات لوتيرة من التحسن إلا في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد (1930-2000) ولا سيما بعد أن تدخل الطرفان لحل الأزمة اللبنانية والتي كان مؤتمر الطائف علامتها المميزة، رغم أن تلك المرحلة شهدت كذلك جملة من التقاطعات بشأن جملة من القضايا منها الحرب العراقية-الإيرانية والموقف من قضايا الصراع العربي-الإسرائيلي ومن التدخل في لبنان.
ورغم أن دفة الحكم في سوريا ولا سيما بعد آذار 1963 قد اتجهت لأن تكون ممثلة بيد أقلية دينية لم تكن أفكارها وعقائدها على تواؤم مع العقيدة السلفية الوهابية التي تدين بها الأسرة المالكة السعودية إلا أن الحسابات السياسية والمصلحية كانت تتخذ القدح المعلى في رسم مسارات العلاقات السورية-السعودية في كافة مراحلها.
وأما في عهد الرئيس بشار الأسد فقد حصلت عدة من التقاطعات أدت لحالة تشبه القطيعة، كان من محصلتها سحب السفراء الخليجيين وموقف الدول الخليجية الأخير الذي يعد بمثابة موقف جدي حديث إلى الحد الذي لا يمكن الحديث عنه بقدر كبير من التفصيل.
ويمكن أن نلخص جملة من المواقف أو المرتكزات الأساسية التي وقفت عليها العلاقة بين البلدين والتي يمكن إجمالها بالنقاط التالية:
* ظل الصراع العربي-الإسرائيلي بقضاياه العامة والخاصة محور شد وجذب في سياسات البلدين الخارجية، ورغم ظهور بعض التباين في الأسلوب والوسائل، إلا أن جوهر ومضمون الاستراتيجيات ظلَّ متقارباً في العديد من المحطات السابقة، بل إن مجمل المشاريع التي طرحت سابقاً ظلت مجالاً رحباً لتقاطع السياسات والرؤى بين الجانبين، ولم تصل تفاصيلها إلى حد إنشاء بيئة للقطيعة. إذ حرصت القيادتان السورية والسعودية على التفتيش الدائم عن المخارج التي تجمع ولا تفرق.
* لقد أثرت سياسات المحاور العربية على طبيعة العلاقة بين الجانبين حتى وإن لم يكونا هما الطرفين الأساسيين بها. فالثقل السياسي للجانبين جعلهما هدفاً للشد والجذب لكل طرف عربي يود الاستقواء بهما على فريق آخر. وبطبيعة الأمر، فإن أذرع السياسة الخارجية التي تمتلكه كل منهما كانت سبباً ونتيجة في تباين المواقف في بعض الفترات.
* إن الأزمات الكبيرة التي عصفت بالنظام الإقليمي العربي منذ فترة السبعينات من القرن الماضي، كان لها الأثر الواضح في تراكم العديد من الأسئلة لدى الطرفين، وفي المقابل كانت الإجابة عنها لا تخلو من مؤثرات إقليمية ودولية أثرت بشكل واضح في السلوك السياسي للجانبين تجاه القضايا العربية والإقليمية.
* إن دخول قوى إقليمية كبرى ذات وزن فاعل في قضايا النظام الإقليمي العربي، لم يساعد البلدين في بعض الفترات على تخطي بعض المصاعب والمتاعب، بل شكل عنصراً إضافياً في التباعد وإظهار البيئات الخلافية حول بعض القضايا العربية، كنموذج حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران.
* وعلى الرغم من ذلك شكلت حرب الخليج الثانية بعد الغزو العراقي للكويت، مناسبة للتقارب بين دمشق والرياض، ما انعكس استرخاءً في العلاقة توّجه الطرفان باتفاق (الطائف) المتعلق بلبنان، والذي يعتبر أحد مراكز الشد والجذب العربي.
* إن التحوّلات الكبرى التي عصفت بالعالم ومن بينها المنطقة العربية في بداية الألفية الثالثة، عادت وشكلت انعطافة لافتة في مسار العلاقات بين البلدين، إذ إثر الاحتلال الأمريكي للعراق على العديد من فواعل العلاقات العربية - العربية، ومن بينها العلاقة بين دمشق والرياض، الأمر الذي وصل إلى حدود غير مسبوقة إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان في عام 2006، ونجاح واشنطن في تقسيم العرب بين معتدلين ومتطرفين. علاوة على ذلك شكَّل خروج سوريا من لبنان وإقحامها باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، عاملاً إضافياً نحو مزيد من التداعيات غير الإيجابية بين الطرفين.
لقد وقفت السعودية إلى جانب إنشاء المحكمة الدولية والتي تنظر في قضية اغتيال رفيق الحريري وكانت في موقفها هذا على تقاطع مع موقف سوريا والتي كانت أصابع الاتهام تشير لأجهزتها الأمنية والمخابراتية في تنفيذ عملية الاغتيال وبدت منذ تلك المرحلة سلسلة من التقاطعات بين البلدين توجت بأحداث الاحتجاجات في المنطقة العربية والتي عمت سوريا وارتدت رداءً مذهبياً نتيجة الواقع المجتمعي السوري الذي يشكل التنوع المذهبي سمته الأساسية، ولطبيعة التمثيل الموجود في السلطات الأمنية السورية.
ولقد ظهرت بعد اندلاع حركات الاحتجاج في سوريا في 15 مارس 2011 واستمرارها وتواصلها، سيناريوهات متعددة أمام المتتبع للوضع في سوريا، ولعل السيناريو الأول هو أن تستطيع الحكومة إجهاض حركة التمرّد والقضاء على الاحتجاج ووأد الانتفاضة الشعبية، ولعل الحل الأمني هو ما راهنت عليه الحكومة طيلة الأشهر الستّة الماضية. أما السيناريو الثاني فيقوم على تمكن المعارضة بعد مجابهات متنوعة ومتعددة من إحداث شرخ في النظام قد يؤدي إلى انشقاقه، وقد تنحاز منه أوساط إلى جانب المعارضة، وعندها يحصل اختلال في ميزان القوى لصالحها، وقد يؤدي هذا إلى سيناريو ثالث يقوم على عدم تمكّن المعارضة من تحقيق النجاح بالاستيلاء على السلطة، باندلاع حرب أهلية أو مجابهات عسكرية بين السلطة ومعارضيها. والسؤال هو كيف سوف تؤثر السيناريوها الثلاثة المحتملة على مستقبل العلاقات السورية-السعودية؟
هنالك في واقع الأمر جملة من النتائج والتوقعات التي يمكن أن تتمخض عن هذه السيناريوهات المحتملة على صعيد العلاقات السورية-السعودية والتي سوف تترك بكل الأشكال والأحوال بصماتها على النظام الإقليمي العربي. وليس من الصعب على المتعمق في طابع السياسة السعودية في المنطقة أن يتوقع أن السعودية سوف تواجه خيارين في سوريا أحلاهما مر، فعلى الرغم من أن سقوط النظام في سوريا سوف يعني تداعي الحلف الإيراني-السوري وامتداده اللبناني الممثل في حزب الله، إلا أن ضبابية النظام البديل واحتمال سيطرة عناصر من التيارات الإسلامية والسلفية المسلحة على مفاصل الحكم في سوريا، فيما لو حصل التغيير، سوف تدفع بالأمور نحو مزيد من التعقيد وقد لا يكون من مصلحة نظام الحكم في السعودية أن تغدو سوريا ساحة لتصفية الحسابات الإيرانية-السعودية أو مسرحاً لاقتتال داخلي يمكن أن يترك ضلاله على المنطقة برمتها.
بإمكان السعودية أن تلعب دوراً وسيطاً في حلحلة الوضع السوري رغم ما وصلت إليه العلاقات السعودية-السورية بشكل خاص والسورية-الخليجية بشكلٍ عام ولاسيما بعد سحب سفراء دول مجلس التعاون الخليجي من دمشق، فقد يكون من المناسب طرح مبادرة مشابهة للمبادرة الخليجية في اليمن من أجل الخروج بحل يرضي جميع أطراف الأزمة السورية.
وبالتأكيد ليس من مصلحة أحد أن يستمر مسلسل الاقتتال الداخلي في سوريا واستمرار الضغط الدولي عليها لما يؤديه ذلك من أوضاع قد تخرج عن نطاق السيطرة في المنطقة، لا سيما أن الوضع الأمني في الخليج مع التهديدات الغربية والإسرائيلية لإيران سوف يدفعان بالأوضاع لمزيد من التأزم، وقد تكون سوريا هي الساحة المتقدمة لحرب قد تُعرف على نحو ما مداخلها ولكن لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال التنبؤ بما سوف تفضي إليه في قابل الأيام.