array(1) { [0]=> object(stdClass)#13603 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

عوامل وأسباب الغزو الأمريكي للعراق

الثلاثاء، 01 آذار/مارس 2005

آثرنا في هذا المقال أن نعود إلى مصادر القرار السياسي الذي قلب المشرق العربي منذ عامين، وهو القرار الأمريكي بغزو العراق. وننطلق من مسلمة بسيطة أن القارئ العربي يعلم الكثير مما حدث منذ بداية هذه الحرب، لكنه يتساءل عن الأسباب والنتائج. الكل معلق على ترقب هذه الأخيرة، لكننا اخترنا أن نعود إلى الأصل وهو القرار الأمريكي بخوض حرب العدوان على العراق.

لقد كثرت المقالات بهذا الصدد، لكن الكثير منها ظل أحاديا في تفسيره: فإما أن نفسر الغزو بالنفط، وإما أن نرده إلى الصهيونية، وإما أن نذكر طموحات بوش الابن مقابل إنجازات الأب، لكن الواقع السياسي ليس نتاجا لعامل واحد وإنما هو انعكاس لتضافر عوامل عديدة، فإن التقت اتخذ القرار، وإن افترقت أصابه العطل. وآثرنا أيضاً أن نعود إلى عوامل الحرب، والتي نستنتجها من مصادر عديدة وهي:

- النظريات السياسية السائدة لدى النخبة الأمريكية عشية الحرب.
- العقائد المؤثرة في القرار المتخذ داخل الإدارة الرئاسية الأمريكية.
- الدراسات السياسية والاقتصادية التي تناولت الموضوع.
- المعاينة غير المباشرة للأحداث من خلال مراقبة الصحف.
وأدعو القارئ إلى تبني نظرة نقدية إلى هذا المقال لأنه يقوّم كثيراً من الفرضيات.

1- حرب العراق الأخيرة في منظار القانون الدولي

يخطئ من يدعي أن حرب العراق الثانية التي خاضتها الولايات المتحدة ليست سوى تكملة للحرب الأولى، وذلك بالرغم مما قيل حول رغبة بوش الابن في إكمال العمل الذي بدأه والده. لقد احتلت الولايات المتحدة موقعاً مختلفاً تماماً في الحرب الأخيرة، حيث إن سلوكها كان مشابها لسلوك العراق في غزو الكويت، من الناحية الحقوقية.

ففي الحرب الأولى كانت الدولة العراقية قد تعدت على مبدأ جوهري من صميم ميثاق الأمم المتحدة والمتمثل في المادة 2-7 المتعلقة باحترام سيادة الدول الأعضاء. فقد كان الغزو العراقي للكويت خاليا من أي مبرر يستمد من القانون الدولي، وجل ما ذكره الرئيس صدام حسين هو الـ"مؤامرة الاقتصادية النفطية" التي ضلع فيها أمير الكويت.

واستند مجلس الأمن الدولي على المادة المذكورة من أجل إدانة العراق (القرار 660)، ومن أجل مطالبته بالانسحاب الكامل وغير المشروط من الكويت. واستخدم هذا الأخير الصلاحيات المنصوص عليها في الميثاق ومنها صلاحية فرض الحظر الدولي على العراق، وصلاحية السماح بتشكيل ائتلاف عسكري للدفاع عن الدولة المعتدى عليها، ثم منح دول هذا الائتلاف حق اللجوء إلى كافة الوسائل من أجل تطبيق القرار 660 وما يليه.

وتمتع الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة بغطاء قانوني على عدة مستويات:

- حصل على دعم من مجلس الأمن، ونذكر القرار 678 الذي منح حق استخدام القوة العسكرية.

- منحت الدول العربية المجاورة لا سيما المملكة العربية السعودية الغطاء القانوني لوجود القوات الأمريكية على أراضيها. فرافقها طلب رسمي سعودي، ثم إشراف سعودي شكلي على التحالف، ثم إنفاق سعودي بمقدار ما يزيد على 40 مليار دولار لتغطية نفقات الحملة العسكرية. ويذكر الاستراتيجي مايكل بريتشر أن غزو الكويت أحدث تقلباً في النظرة السعودية إلى مصادر التهديد لأمنها الوطني.

- أقرت الجامعة العربية بغالبية 11 دولة من أصل 21 بشرعية وجود القوات الأمريكية في دول الخليج، وحصل على أصوات مصر وسوريا والمملكة المغربية.

ثم إن الحرب الأمريكية على العراق توقفت عند حدود الأهداف التي رسمتها القرارات الدولية التي جازت بها الأنظمة العربية الحليفة. وفي حين أن استعادة الكويت كانت هدفاً سهل المنال، لم يسع الجيش الأمريكي أن يفتت القوات المسلحة العراقية، ويدمر منشآت العراق الصناعية إلا من خلال الالتفاف على هذا الهدف. بتعبير آخر أن الجيش الأمريكي أطال أمد الحرب من أجل إكمال القصف الجوي، وتوغل في العمق العراقي من أجل تدمير القدرة العسكرية العراقية قبل تحرير الكويت.

وإذ كان بمقدور الجيش الأمريكي أن يصل إلى بغداد، إلا أن الجنرال شوارزكوف قرر فرض اتفاق هدنة على الجيش العراقي في نهاية فبراير 1991، بدلاً من إكمال الحرب. ويرد بعض الاستراتيجيين الأمريكيين ذلك إلى اعتماد الولايات المتحدة على الأنظمة الحليفة، التي كانت تخشى من آثار تفكيك الدولة العراقية.

وعلى عكس ما حصل في الحرب الأولى، لم تحصل الولايات المتحدة على أية تغطية دولية لحربها الثانية:

- فمجلس الأمن الدولي الذي سبق وأصدر في نوفمبر 2002 قراراً شديد اللهجة تجاه العراق في نهاية 2002، انتقص من سيادته إلى حد بعيد، ووسع نطاق صلاحيات فرق التفتيش الدولية مثل الانموفيك والوكالة الدولية للطاقة الذرية، لم يذهب إلى حد إصدار الإذن باستخدام القوة.

- ثم إن مجلس الحلف الأطلسي نفسه عجز عن اتخاذ قرار بتأييد الغزو العسكري الأمريكي للعراق بسبب اعتراض فرنسا وبلجيكا وألمانيا.

- وأخيرا وليس آخرا امتنعت غالبية الدول العربية عن تأييد الغزو، وكذلك عن جعل أراضيها منطلقا له، بحيث اضطرت الولايات المتحدة إلى حصر قواتها البرية المعدة للغزو في إمارة الكويت. (قد تثير هذه المقولة جدالاً حاداً، بسبب ما يدعيه البعض أن الأنظمة العربية المجاورة كانت راغبة في التخلص من نظام الحكم في العراق). يبقى أن الأدلة على ذلك ضئيلة للغاية، وبدا على عكس ذلك أنها كانت تخشى من زعزعة الاستقرار السياسي في العراق. وفي ما يتعلق بتقديم بعض الدول العربية تسهيلات للجيش الأمريكي، من الأرجح أن نرد ذلك إلى تبعية تلك الدول إلى الولايات المتحدة، بل وإلى الخلل في العلاقة بين الطرفين. لهذا السبب لا يسعنا إلا أن نبين كيف أن الوضع القانوني (أو اللاقانوني) للولايات المتحدة في الأسرة الدولية عام 2003 كان مشابها تماما للوضع القانوني (أو اللاقانوني) الذي عرفه العراق عام 1990.

- إن الحرب الأخيرة على العراق ليست سوى حرب عدوان لم يبررها القانون الدولي ولم تدخل في باب الدفاع المشروع عن الذات، إذ انه لم يثبت أي تورط للعراق في عمليات عدوانية شنت على الأراضي الأمريكية أو على قواعد أمريكية في الخارج.

- إن المبرر الذي أخذت به الدبلوماسية الأمريكية مستمد من مبدأ "الضربة الوقائية" أي تلك التي لا تستمد مصدرها من عدوان فعلي، وإنما من القناعة باحتمال عدوان مستقبلي. وطرحت الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا فكرة تعديل عقيدة الأمم المتحدة من أجل اعتماد هذا المبدأ المخالف تماما لمبدأ احترام سيادة الدول وإدانة حروب العدوان.

- إن الولايات المتحدة لم تحصل على أي قرار أممي يجيزها بالتدخل، لكنها انفردت في اتخاذ قرار الغزو.

- إن الدول الـ 35 التي شكلت التحالف الجديد المؤيد للغزو الأمريكي لم تستند إلى أي مبرر حقوقي شرعي، وإنما اعتمدت سياسة الالتحاق بالأقوى التي سبق وذكرها عالم السياسة كينث والتز. فقد اعتبر أن الالتحاق بالأقوى يشكل الاتجاه الانجذابي للدول الصغيرة والوسطى تجاه الدولة الكبرى، في حين أن النزعة إلى التحالف فيما بينها من أجل موازنة هذه الأخيرة تشكل الاتجاه الطردي. وحصل ما سماه تلامذة والتز بالالتحاق بالأقوى من أجل المنفعة.

2- العوامل المؤثرة في قرار غزو العراق: بين المصالح الاقتصادية والعقائد الصدامية

لم يكن مشروع غزو العراق وليدا للجو السياسي السائد بعد 11 سبتمبر 2001، لقد كان أمر إسقاط نظام صدام حسين موضوع خلاف بين الرئاسة الديمقراطية والكونغرس ذات الأغلبية الجمهورية، حيث جهرت هذه الأخيرة بإرادتها في القضاء على النظام السائد في العراق، فاعتمدت قانون تحرير العراق.

ثم إن العقيدة السياسية التي اعتمدها الجمهوريون كانت منذ منتصف التسعينات تقوم على أساس الأحادية. واعتقد الزعماء الجمهوريون أن تعددية الأطراف والتقيد بالحدود والضوابط التي تفرضها المنظمة الدولية تقوضان السياسة الخارجية الأمريكية وتشلانها. لهذا السبب اعتقدوا أن المبادرة العسكرية المنفردة، أي تلك التي لا تتقيد بتلك الضوابط هي وحدها كفيلة بحماية المصالح الاستراتيجية الأمريكية.
وأدخل الرئيس جورج ووكر بوش رموز حرب العراق الأولى في قلب الإدارة الرئاسية ( ديك تشيني نائب الرئيس و كولن باول سكرتير الشؤون الخارجية). وكثرت إشارات الصحافة العربية خلال عام 2001 إلى الجولات العربية لكولن باول التي غايتها إقناع دول الجوار العربي بفكرة إسقاط نظام الحكم في العراق، لكن المبادرات الدبلوماسية الممهدة لغزو جديد فشلت، لا سيما أن الإدارة الأمريكية ظلت عاجزة عن طرح أي حل جديد على ساحة الصراع العربي-الإسرائيلي.

إن تراجع الإدارة الأمريكية عن هذا المشروع مرده الآليات السياسية التي كانت تعتمد عليها من أجل الحصول على هدف إسقاط صدام حسين، فقد اعتمدت على منطق التحالفات الإقليمية، وكذلك على مبدأ التغطية الدبلوماسية للغزو عن طريق الأنظمة السياسية المجاورة.
أما أحداث 11 سبتبمر 2001 فلم تأت بفكر سياسي جديد لتخلقه من العدم، وإنما جاءت بالظروف والأجواء المناسبة لتثبيت العقيدة الأساسية للمحافظين الجدد في السياسة الدولية. وهنا نتجنب الجدال حول الأحداث نفسها وحول مرتكبيها وحيثياتها، وكثرت الكتابات التي حاولت أن تكشف وتشكك وتعثر على مؤامرة ذلك الطرف أو ذاك، (مثل كتاب تيري ميسان).

لم تكن هذه الأحداث لتؤدي إلى رسم الاستراتيجية العدوانية الجديدة لولا أن تواجدت عناصر هذه الأخيرة وعواملها في القوى السياسية التي تولت زمام الأمور في الولايات المتحدة. أما العوامل والعناصر السابقة على هذا الحدث فنوجزها كما يلي:

- صعود تيار المحافظين الجدد من خلال الحزب الجمهوري: إذ إن هذا الأخير حصل عام 1994 ولأول مرة منذ أربعين عاماً على الأغلبية في المجلسين، وجاء بعقيدة سياسية متشددة أعادت النظر إلى النمط الليبرالي الأمريكي الذي ساد في السبعينات. وطالب المحافظون الجدد بتفكيك الدولة الراعية، وباتباع سياسة جنائية صارمة تقضي بتشديد العقوبات، وبالتخلص من العلمانية والحياد الديني من أجل استرداد مكان المسيحية في المجتمع وربما في الدولة.

- اعتماد المحافظين الجدد على سياسة خارجية متشددة انفرادية في خطواتها، تقضي بالتخلص من قيود الأمم المتحدة، وبالرد على أعداء السياسة الأمريكية.

- اتباعهم سياسة شرق أوسطية متشددة. ونذكر أن الكونغرس الجمهوري أصدر قانوناً يقضي بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، مما وضع حجر عثرة أمام مبادرات الرئيس كلينتون، ثم إنه أصدر قانوناً يحظر الاستثمار النفطي في إيران وليبيا، وقانون التحرر من الاضطهاد الديني الذي بمقتضاه فرضت عقوبات فورية على السودان.

- صعود التيار الديني المسيحي داخل الحزب الجمهوري، (والمسيحية منه براء)، إذ إن غالبية التحليلات الصحفية العربية ترد تشدد اليمين الأمريكي إلى العامل الصهيوني، لكنها تجاهلت التحالف المسيحي الذي أصبح يحتل مكان الصدارة من الحزب (وينتمي أقل من نصف أعضائه إلى هذا التحالف)، والذي تميز بطروحاته المتشددة، منها المتعلق بمكافحة النهج الليبرالي في الولايات المتحدة ومنها المتعلق باعتماد سياسة الدعم السياسي والعسكري للأقليات النصرانية في العالم الإسلامي (مثل السودان)، ومنها المرتبط بدعم مشروع التوسع الإسرائيلي (لأن إسرائيل تعتبر بالنسبة إلى بعض الكنائس الإنجيلية أرض الميعاد التي يعود فيها المسيح).

3- منعطف 11 سبتمبر 2001 ومبدأ الضربة الوقائية

فما الذي جاءت به أحداث 11 سبتمبر 2001؟ ألم تكن كافة العوامل المؤدية إلى غزو العراق مستمدة من صعود اليمين المحافظ في التسعينات؟ لقد أضفت هذه الأحداث صبغة جديدة على سياسة المحافظين الجدد. وعلى سبيل المثال، لم يعد الفشل الدبلوماسي في إقناع دول المنطقة عائقا أمام مشروع غزو العراق. وتبدلت العقيدة السائدة في البيت الأبيض، إذ إن مبدأ الضربة الوقائية لم يعد يحتاج إلى أي تبرير دبلوماسي:

- فمبدأ الضربة الوقائية يقضي بأن تكون الولايات المتحدة هي البادئة بالعدوان، إذا اقتنعت إدارتها بأن الدولة المعتدى عليها قد تكون مصدراً محتملاً لتهديد الأمن القومي الأمريكي. بناء عليه استطاعت الإدارة الأمريكية ومعها أجهزة الإعلام المحافظة (مثل فوكس نيوز) أن تحذر الجمهور الأمريكي من احتمال حصول الإرهابيين على أسلحة الدمار الشامل العراقية، وكذلك من تحالف بين نظام صدام حسين والجماعات الإرهابية.

- ويعتمد هذا المبدأ على المصالح القومية الأمريكية أساساً. فلا ضرورة للاستجابة لمصالح إقليمية، لأن الاستراتيجية العسكرية الأمريكية تفرض نفسها بمقتضى اهتمامها بأمنها القومي وحده.

- ثم إن هذا المبدأ يفتح باب التدخل العسكري في معظم بلدان المنطقة لمجرد أن يمتد الهذيان الأمريكي إليها وإلى أنظمتها فيتصور ويتخيل ويفتري. فعلى سبيل المثال من المحتمل أن يمتد ملف أسلحة الدمار الشامل إلى سوريا، كما شمل إيران منذ عام 2003.

كما أن أيديولوجيا التيارات الأكثر حضوراً في اليمين المحافظ الجديد اصطبغت بصبغة جديدة تميزت بالعداء للإسلام كدين وحضارة ومشروع سياسي، ونذكر أن التحالف المسيحي الذي كان يرى في المذاهب الليبرالية الأمريكية مصدر الخطر الرئيسي، صار منذ أحداث 11/9 يجعل من محاربة الإسلام هاجسه المحوري، كما يتبين ذلك من خطاب بات روبرتسون. ويقول هذا الأخير صراحة إن الغرب المسيحي المتحضر دخل مرحلة "صراع الحضارات وحرب الأديان"، لكن هذه النظرة لم تكن شائعة لدى كافة التيارات السياسية اليمينية، كما أنها ظلت مرفوضة في أغلب تيارات الحزب الديمقراطي، ونذكر أن بعض كبار الاستراتيجيين غير الجمهوريين أمثال زبغنيو برزنسكي (المستشار السابق لدى إدارة الرئيس كارتر) أصروا على فصل مسألة الإرهاب عن مسألة التطرف الديني في ندوة أقامها بعيد 11 سبتمبر 2001. كذلك كان للتيارات الصهيونية الخالصة حضورها داخل الحزب الجمهوري، علما بأن التيارات الصهيونية ظلت متعددة المصادر والعقائد، لتمتد إلى الكنائس الإنجيلية التي تنتظر عودة المسيح في أرض الميعاد ولدى شعب الميعاد وبعد استعادة هذا الأخير لأرضه التوراتية. أما في ما يتعلق بالتيار الأول، فعقيدته أقرب إلى عقيدة الليكود، وذلك على خلاف شرائح واسعة من ليبراليي الطائفة اليهودية في نيويورك التي دانت مواصلة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني.

وأخيرا لا بد من الإشارة إلى مجموعات الضغط الاقتصادية التي تحتل ثلاث منها مكان الصدارة وهي:

- اللوبي الصناعي العسكري والذي كان جورج كينان قد أشار إليه في كتاباته، ظناً منه انه كان مسؤولاً عن سباق التسلح في الحرب الباردة.

- اللوبي النفطي وعائلة بوش مقربة إليه إلى حد بعيد.

- لوبي شركات إدارة السجون الذي أصبح رأسماله يضاهي رأسمال اللوبي الصناعي العسكري (أكثر من 300 مليار دولار)، والذي يدير شؤون أكثر من ثلاثة ملايين سجين (أي ما يقارب 2% من مجموع السكان البالغين في الولايات المتحدة)  فكان من المتوقع أن يؤدي الغزو الخارجي إلى انهياره وإلى إنتاج ما يسمى بأثر (الدومينو) على الأنظمة المجاورة. والجدير بالذكر أن الانتصار الأمريكي الساحق في العراق خلال النصف الأول من عام 2003 مكن الولايات المتحدة من اتباع سياسة الالتزام المصحوب باستخدام القوة وهو تعبير استخدمه المحللون الأمريكيون أنفسهم.

4- تسويق الديمقراطية بعد إغفالها

ماذا عن عقيدة نشر الديمقراطية التي طال الحديث حولها بعد سقوط نظام صدام حسين؟ لقد استخدمت عقيدة نشر الديمقراطية لصالح استراتيجية غزو العراق. والواقع أن أجهزة الإعلام الأمريكية ألقت بخطة جديدة لتصوير الصراع بين مؤيدي الغزو ومعارضيه بحيث تحلت الدول المعتدية بصفة منقذ الشعب العراقي والديمقراطية، في حين أن الدول الرافضة للحرب بدت كأنها من أنصار النظام السابق، وأجاد الإعلام المحافظ في هذه المقارنة وتحلى بكثير من المهارة الفنية لتصويرها ولإلحاق عقدة الذنب لدى معارضي الحرب.

لكن لا بد أن نعود إلى عقيدة المحافظين الجدد، وكذلك إلى موقفهم من قضية نشر الديمقراطية، لنذكر أن عقيدة التوسع الديمقراطي كانت من صميم العقيدة السياسية لإدارة كلينتون، وصرح بها حينذاك مستشار الأمن القومي انتوني لاك، وأتت هذه العقيدة السياسية ليستعاض بها عن عقيدة صراع القطبين المتناحرين (الرأسمالي والشيوعي). وتقضي هذه العقيدة بالانتقال من استراتيجية محورها المواجهة السياسية بين الدول إلى استراتيجية محورها اقتصادي (الدعم المالي للديمقراطيات الجديدة في أوروبا الشرقية). واستثنى لاك الدول المرتدة وغالبها يقع في الشرق الأوسط (العراق، إيران، ليبيا، والسودان).

أما المحافظون الجدد فقد شككوا في جدوى سياسة تمحورت حول الديمقراطية، وصرح بوب دول أثناء حملته الانتخابية عام 1996 (وهو من معتدلي الحزب الجمهوري) إن مصالح أمريكا تعلو على هدف نشر الديمقراطية في العالم، وضرب مثالاً هو الوضع في الجزائر قائلاً إنه حيث تؤدي الديمقراطية إلى انتصار تيارات إسلامية تعادي الولايات المتحدة، فعندئذ لا بد من تقويضها والانقلاب عليها. ثم إن اليمين المحافظ اعتمد إلى حد ما على عقيدة صاموئيل هنتنغتون الذي كان منذ البداية مشككا في مزايا الديمقراطية الليبرالية. نذكر كتاب أصدره في السبعينات تحت عنوان أزمة الديمقراطيات، حيث بيّن أن انتشار قيم الديمقراطية الليبرالية وتراجع علاقات السلطة هو المسؤول عن ضعف الولايات المتحدة في وجه المد الشيوعي. كما نذكر تبريره للأنظمة القمعية الفاشية في أمريكا اللاتينية حين قال إن العالم الثالث خيّر بين الحرية والعدالة والتنمية، فأحسن من اختار التنمية على حساب الحرية والعدالة.

وأخيرا جاء بأطروحته في (صدام الحضارات) التي فيها همش من دور مبدأ التوسع الديمقراطي، ثم بين كيف أن انتشار الديمقراطية قد يستخدم في الحضارات غير الغربية لتحصين الجبهة الداخلية، ولتمكين التيارات الأكثر تراثية والأكثر عداء للغرب من الوصول إلى السلطة. ويضيف إن النظام الإيراني هو أكثر ديمقراطية من أنظمة الجوار العربي، ومع ذلك أفرز عقائد تتنافى ومصالح الولايات المتحدة.

ثم جاءت أحداث 11/9 لتجعل المطالب الأمنية فوق المطالب الديمقراطية ليس في الولايات المتحدة فحسب وإنما في النظام العالمي بأسره، حيث شكل 11/9 منعطفا جديدا في تحول النظام العالمي لأنه قلب عملية التوسع الديمقراطي رأسا على عقب:

- أدى إلى انتشار قوانين القمع والمراقبة والحد من الحريات في الولايات المتحدة (باتريوت اكت، المرسوم الرئاسي العسكري.. إلخ) وكلها تمنح أجهزة الأمن سلطات واسعة، لا سيما في علاقتها بالأجانب.

- استغلت أنظمة الحكم في أغلب الدول الإسلامية هذه الفرصة من أجل فرض قيود جديدة على الحريات السياسية والمدنية تحت غطاء مكافحة الإرهاب.

- إن النظام العالمي الجديد تقيد بقرار 1373 الذي ذهب إلى حد تبرير إجراءات المراقبة الشديدة على مصادر تمويل الزكاة.

أما عملية انتقال العراق إلى الديمقراطية فجاءت كأثر عرضي بالنسبة إلى السياسية الخارجية الأمريكية، وإن كان جوهريا بالنسبة إلى المجتمع العراقي. ونذكر من بين الأدلة على ذلك:

- إصرار الولايات المتحدة في مرحلة أولى على تنصيب حكم أمريكي مباشر كان معدا للدوام إذا ما التفتنا إلى خطاب هذه المرحلة.

- الحذر الشديد تجاه التيارات الأكثر حضورا لدى المجتمع العراقي، لا سيما التيارات السياسية المرتبطة بالمرجعية الشيعية، مما برر فكرة الاعتماد على تيارات جديدة قد يصنعها النظام الجديد أو على الأقليات (البشمركة).

- عملية تفكيك جهاز الدولة والجيش من خلال ما سمي باجتثاث البعث.

وبعد هذا كله نتساءل هل إن السياسة الراهنة للولايات المتحدة تستطيع أن تسوق من جديد فكرة التوسع الديمقراطي، فتستغل التحول السياسي في المنطقة العربية من أجل تقديم صيغة أيديولوجية جديدة قادرة على تبرير هيمنتها؟ أم أنها تقرر قلب الطاولة على اللاعبين عند أول عقبة تعترض مصالحها، وذلك بسبب التوجه الجماهيري العربي الرافض للهيمنة الأمريكية؟ وكيف تستطيع أن تسوق لثقافة الديمقراطية و(المحافظون الجدد) لا يؤمنون بها؟ وأين تقع الأهداف العقائدية الدينية من طرح الديمقراطية؟ وما هو مصير سياسة مكافحة الإرهاب التي تتطلب انعطافاً قمعياً للأنظمة السياسية، وأن يستثنى الإسلام السياسي من اللعبة الديمقراطية فيعتمد حلفاء أمريكا الجدد نظام الكيل بمكيالين؟ كلها أسئلة تتطلب التأني والتأمل، لأن نتائج الانتخابات التشريعية العراقية لم تفرز بعد هذا النوع من النظام، وإنما جاء بقوة شعبية ودينية هائلة قطعت الطريق أمام هذه الطروحات. فالنتيجة لا تأتي كما يتوقعها صانع القرار والأثر ينحرف دائماً عن سببه.

 

مجلة آراء حول الخليج