تحاول هذه المساهمة الإحاطة بواقع "الإسلام السياسي" بسوريا – وبصفة خاصة المسلح – وهي مهمة تكتنفها صعوبات معلوماتية ومنهجية. ولا مفر – ابتداءً – من الإقرار بما يلي:
أولاً: وجود مشكلات في "المصطلحات" و"التعريفات" تكتنف دراسات "حركات الإسلام السياسي"، فهناك من يرى ضرورة التفرقة بين "السلمي" و"العنيف"، ومن يرى صوابية استخدام تعبيرات مثل: "الجهادية" أو "السلفية الجهادية"، وهي قضية زادتها تعقيداً تحولات السنوات القليلة الماضية، وبخاصة منذ أن تمت "عسكرة الثورة السورية"، وهو ما تعمَّق بشكل غير مسبوق بتمكـُّن "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) من دخول الموصل، ولاحقاً، إعلانه ما يعتبر أنه: "خلافة إسلامية".
ثانياً: ثمة مشكلة حقيقية في "المعلومات" المتاحة عن الواقع الراهن في سوريا، حيث تتطور الوقائع على الأرض بشكل سريع من ناحية التحولات التنظيمية والتغير في الأفكار والشعارات و"التبريرات الفقهية". كما أن المادة المتاحة حتى الآن هي من مصادر "سيارة" كالصحف والمجلات وتقارير وكالات الأنباء، بطبيعة الحال لا تخلو مثل هذه المواد من شيءٍ من التسييس والابتسار والترجيحات التي لا تخلو من مطعن. وللأسف لم تعرف المكتبة العربية، حتى الآن، الأدبيات ذات المصداقية المنهجية التي تتناول الوضع الراهن في سوريا، ربما باستثناء مؤلفات ومترجمات محدودة العدد. ويغلب على المتاح – لهذه الأسباب – التفاوت، بل أحياناً التناقض
ثالثاً: ستعتمد هذه المساهمة بشكل إجرائي مصطلح: "الإسلام السياسي" مقصوداً به: "الطيف الواسع من الحركات الإسلامية التي تؤمن بحتمية "السيطرة" على السلطة لتحقيق ما يعتبرونه "المشروع الإسلامي" حيث تؤدي القناعة بهذه المقولة إلى جعل السلطة – صراحة أو ضمناً – قضية عقائدية، ما يعني القابلية لاستخدام العنف لتحقيق الأهداف (دعوية كانت أو سياسية)".
الخارطة السورية الجديدة:
قبل الثورة السورية كانت خارطة الحركات الإسلامية تشمل بقايا محدودة جداً من "الإخوان المسلمين" ووجود ملحوظ للطرق الصوفية، وكانت ظاهرة الحركات المسلحة محصورة في "متطوعين" يعبرون سوريا للالتحاق بجماعات مسلحة في العراق لتحقيق أهداف متباينة: مذهبية، أو سياسية، أوعشائرية. وكانت هذه الظاهرة "النواة الجنينية" لفكرة تحرك الجماعات المسلحة في الهلال الخصيب "عبر حدود الدول"، إما لغياب الكابح الأمني، أو في ظل تغاضٍ رسمي – وهو اتهام وجهه العراق لسوريا لسنوات – أو بسبب نجاح سلسلة من التنظيمات المتعاقبة التي تناسل معظمها من "جماعة التوحيد والجهاد" (أسسها أبو مصعب الزرقاوي - 2003) من وضع أسس لبقاء طويل في هذه المنطقة أو جزءٍ منها.
وفي تقدير ورد في تقرير لـ "هيأة الإذاعة البريطانية" (يناير 2014) "يقدر عدد الجماعات المسلحة المعارضة في سوريا بحوالي ألف جماعة"، وتضم حوالي "مئة ألف مقاتل"، ومعظمها جماعات صغيرة محلية. وأبرز التحالفات:
• هيأة الأركان العامة للجيش السوري الحر: وتشكـَّل "الجيش السوري الحر" في 2011 من منشقين عن الجيش السوري، وسرعان ما تبنت حركات مسلحة أخرى شعارهم، وسعى داعمون غربيون وإقليميون إلى خلق "قيادة مركزية للثوار". وفي 2012، أعلنت ألوية انضمامها للهيأة. ويسعى "الجيش الحر" لأن يكون بديلاً وسطياً أقوى من "الجماعات الجهادية". وتحتفظ الألوية الموالية للهيأة بهويتها وأهدافها الخاصة، وبعضها يعمل مع جماعات متشددة كـ "أحرار الشام" ومرتبطين بـ "القاعدة" مثل "جبهة النصرة".()
وفي الحقيقة فإن البعد الديني في أسماء الألوية – كلها تقريباً – يعكس بعداً دينياً واضحاً في هوية كوادرها، ما يعني أن الهيأة أيضاً هي جزء من "الظاهرة الإسلامية" – بالمعنى الواسع – في سوريا.()
• لواء شهداء سوريا: بقيادة جمال معروف (حوالي 7000 مقاتل). ولا يتبع أيديولوجية بعينها.
• جبهة تحرير سوريا الإسلامية: بقيادة أحمد عيسى (لواء صقور الشام) (ما بين 35000 و40000 مقاتل). وتأسست في 2012، من حوالي 20 مجموعة منها ألوية: "الفاروق"، "الفاروق الإسلامي"، "التوحيد"، و"مجلس ثوار دير الزور". وتتباين عقائد هذه المجموعات ما بين معتدلة وسلفية متشددة.
• ألوية الفاروق: بقيادة أسامة جنيدي. (حوالي 14000 مقاتل). وظهرت 2011. ولقائد "الفاروق الإسلامي" مكانة قيادية في "جبهة تحرير سوريا الإسلامية" و"هيــأة الأركان العامة".
• صقور الشام: بقيادة أحمد عيسى (9000 إلى 10000 مقاتل). أحد أقوى مجموعات "جبهة تحرير سوريا الإسلامية". بدأ في 2011. وقائده رئيس "جبهة تحرير سوريا الإسلامية".
• لواء التوحيد: بقيادة عبد العزيز سلامة. (8000 إلى 10000 مقاتل). تشكَّل في 2012، وانضم إلى "جبهة تحرير سوريا الإسلامية" في 2013. وفي العام نفسه أعلن قائده عدم الاعتراف بـ "الاتئلاف الوطني"، ودعا المعارضة للتوحد في "إطار إسلامي".
• لواء الفتح: يتمركز في حلب وضواحيها، وفي الحسكة والرقة شرقي البلاد.
• جيش الإسلام: بقيادة زهران علوش (لواء الإسلام) تكون في 2013 من 50 فصيلاً، "لتوحيد المجاهدين وتجنب آثار الانشقاقات التي حدثت في الائتلاف الوطني". ومن المنضمين له ألوية: "فتح الشام"، "توحيد الإسلام" و"الأنصار". ويعتقد أنه محاولة لمواجهة الولاءات المتزايدة للقاعدة حول العاصمة السورية.
• الجبهة الإسلامية السورية: بقيادة حسان عبود (حركة أحرار الشام الإسلامية). تكونت في 2012 من 11 جماعة متشدة. (تدعي أن قوامها 30000 مقاتل). أكبر فصائل الجبهة: "حركة أحرار الشام الإسلامية"، ورفضت الانضمام لـ "هيأة الأركان"، لكنها تتعاون ميدانياً، وهدفها "إقامة دولة إسلامية سنية"، وتتعاون مع حلفاء "القاعدة"، و"لا تدعو للجهاد العالمي".
• الجبهة الإسلامية: (حوالي 45000 مقاتل). تكونت في 2013، من بعض أقوى الجماعات المقاتلة في سوريا، وتسعى لتأسيس دولة إسلامية. وتضم: "صقور الشام" وتدعو لدولة إسلامية وسطية لا تُفرض على المجتمع، و"جيش الإسلام"، و"لواء التوحيد"، و"حركة أحرار الشام الإسلامية"، و"أنصار الشام"، و"لواء الحق"، و"الجبهة الإسلامية الكردية" (أصغر جماعات التحالف)، و"ألوية أحفاد الرسول".
• جبهة الأصالة والتنمية: (حوالي 13000 فرد مقاتل ومدني). تحالف إسلامي وسطي شُكل في 2012.
• الحركات المتصلة بجماعة الإخوان:
ثمة مجموعات مسلحة مرتبطة بالجماعة في سوريا. وترفض قيادة الجماعة الإقرار بامتلاكها فصيلاً مسلحاً، لكن منفيّيها يموّلون مجموعات مسلحة منذ 2011. وهي اليوم إما تسيطر على عشرات الوحدات شبه العسكرية الصغيرة داخل سوريا، وإما ترعاها.()
ويمكن الإشارة إلى:
• هيئة دروع الثورة: تحالف محسوب على هيأة الأركان العامة. مكون من بضع عشراتٍ من الفصائل الصغيرة. تكوَّن عام 2012 بمساعدة الإخوان، وتصنف نفسها كتحالف إسلامي – ديمقراطي معتدل. تعترف الهيأة بتلقي مساعدات من الإخوان وتنفي أي صلة مباشرة بها.()
• لجنة الحماية المدنية: في محاولة منها لتعويض ضعف الوجود داخل سوريا، حاولت الإخوان استثمار اتصالاتها السياسية، عبر استقطاب جماعات مسلحة بالتمويل، والدعم الإعلامي، ويذكر موقع " لجنة الحماية المدنية" على الانترنت حالياً 18 فصيلاً بعضهم يعتبرون أنفسهم جزءًا من "جبهة التحرير السورية".()
• تجمع أنصار الإسلام: كونته سبع جماعات إسلامية في 2012، ويعاني انشقاقات عديدة.
• لواء شهداء اليرموك: جماعة إسلامية معتدلة مرتبطة بـ "هيأة الأركان. تأسس في 2012 بوحدات صغيرة.
• كتائب الوحدة الوطنية: (حوالي 2000 مقاتل). تكونت في 2012. تقاتل من أجل "دولة مدنية ديمقراطية". وبعض مقاتليها ينتمون للأقليتين العلوية والإسماعيلية.
• الجماعات الجهادية:
• جبهة النصرة: بقيادة أبو محمد الجولاني. (ما بين 5000 و7000 مقاتل). جماعة جهادية تأسست في 2011 بمساعدة "الدولة الإسلامية في العراق"، وتمثل "القاعدة" في العراق. أعلنت الجماعة عن وجودها في 2012. ينشط مقاتلوها في 11 من أصل 14 محافظة سورية. وفي 2013، أعلن أبو بكر البغدادي، قائد ما كان يسمى "دولة الإسلام في العراق"، دمج مجموعته مع "النصرة" لتصبح دولة الإسلام في العراق والشام، إلا أن قائد "النصرة"، رفض الدمج وأصر على موالاة "القاعدة"، وحتى الآن، تعملان منفصلين.
• جيش المجاهدين والأنصار: تشكلت في 2013 من وحدات جهادية، وتضم مئات المقاتلين الأجانب، أغلبهم من القوقاز. وتعمل تحت قيادة شيشاني يدعى عمر الشيشاني، وهدفها: "تأسيس دولة إسلامية في سوريا"، وتنسب نفسها لـ "داعش".()
• دولة العراق والشام الإسلامية (داعش): ظهرت في 2013، حين أعلن البغدادي، اندماج مجموعته مع "النصرة"، التي نفى زعيمها ذلك. (ما بين 5000 و6000 مقاتل). وقد أصدر زعيم "القاعدة" أيمن الظواهري قراراً بحل الجماعة، وقال إنها يجب أن تستمر: "دولة العراق الإسلامية"، وتركّز العمليات في العراق وتترك سوريا لـ "النصرة". لكن البغدادي رفض ذلك وأصر على مواصلة التمدد في سوريا.()
البنية العميقة "ثقافة محافظة" أم "تشدد ديني"؟
من القضايا المهمة المتصلة بواقع "حركات الإسلام السياسي" في سوريا حقيقة الوزن النسبي للمؤثرات المختلفة في صياغة العقل الجمعي لأعضاء هذه الجماعات، إذ يؤدي التبسيط والميل إلى اعتماد "العامل الواحد" لتفسيرها إلى تشخيص الظاهرة بشكل خاطيء، ومن الطبيعي أن يؤدي التشخيص الخاطيء إلى استنتاجات خاطئة. ومن الأمثلة المهمة لذلك، دراسة أمريكية أظهرت أن المسلحين ليسوا مرتبطين، ولو حتى فكرياً بـ "القاعدة"، بل متدينون محافظون. وتنطلق الدراسة من فرضية صحيحة هي أن طبيعة المشاركين في الحراك السوري، وبخاصة المسلّح، أكثر "تعقيداً" مما يبدو، وتصنيفهم في خانة واحدة أمر صعب. فبعد أربعة أشهر قضاها في سوريا، خلص الصحافي نير روزين، في تقرير نشرته "فورين بوليسي" إلى أن غالبيتهم "ليسوا مرتبطين حتى فكرياً بـ "القاعدة"". لكنهم "ليسوا علمانيين"، بل هم "متدينون وينحدرون من مناطق محافظة"، وكلما استمر النزاع اتسعت مساحة الإسلام فيه. وقد توقّف روزين، عند تسميات "تظاهرات الجمعة"، فلجميعها "دلالة دينية"، وأسماء المجموعات "إسلامية وحتى سلفية". ثلاث وثلاثون مجموعة مسلحة تشارك في الحراك، شكّلت محور تقرير أمني لمعهد "دراسات الحرب" الأمريكي، وفيه يستخلص المحلل العسكري جوزيف هوليداي، ما يتفق فيه مع روزين، ومع الباحث في شركة "ستراتفور" الأميركية للخدمات الاستخبارية كمران بخاري: "غالبية الثوار متدينون سنة، و.... ليسوا سلفيين ولا جهاديين ولا إرهابيين ولا مرتبطين بالقاعدة".()
عن المستقبل:
أولاً.... صراعات الجهاديين:
في إبريل 2015، وفي واحدة من أدبيات السجال المتتالية بين التنظيمين الأكبر حجماً بين السلفيين الجهاديين، شنّ "داعش" هجوماً "غير مسبوق" على "القاعدة"، متهماً إياها بالانحراف عن المنهج الجهادي وشق الصفوف. ودعا "داعش" المقاتلين في الجماعات الأخرى لتأييد تنظيمه في الخلاف مع "القاعدة" التي رأى أنها "لم تعد قاعدة الجهاد"، وأضاف: "انحرفت.... عن منهج الصواب"، "فليست بقاعدة الجهاد من يمدحها الأراذل، ويغازلها الطغاة، ويناغيها المنحرفون والضالون". و"باتت قيادتها معولاً لهدم مشروع الدولة الاسلامية والخلافة القادمة باذن الله. لقد حرفوا المنهج، وأساؤوا الظن، وقبلوا بيعة المنشقين، وشقوا صف المجاهدين، وبدأوا بحرب دولة الإسلام".()
وفي مشهد يسبق هذا السجال تكررت مشاهد الصراع الجهادي /الجهادي في كثيرة، فقد انهارت حركة "حزم" التي كانت أول جماعة معارضة سورية تتسلم أسلحة أمريكية مضادة للدبابات، بعد أن "سحقتها جبهة النصرة". ونشر أتباع "النصرة" صور الأسلحة التي استولوا عليها منها. ومع ذلك أشار إسلاميون إلى أنهم لم يعودوا عازمين على محاربة الجماعات المدعومة من الغرب. وقال أحدهم (مازن قسوم): "ربما تكون النصرة قد قاتلت ... حزم في البداية .... والآن لديهم خطة لمقاتلة النظام فحسب". وقال أبو حمود، وهو قائد ميداني: "الأمر مستقر تماماً ..... لن يكون هناك قتال بين الجماعات.... هدفنا الأول هو سقوط النظام المجرم ثم بناء بلد ... يحافظ على هويتنا بعيداً عن التطرف". ومن هنا تأتي المخاطر، فتحقيق الأهداف – المباشرة – بطبيعتها التكتيكية العسكرية لا يعني بالضرورة التعامل مع "الاختلافات الأيديولوجية" بشكل سلمي. وغالباً ستحدث "صراعات على السلطة" بينهم.()
ثانياً: الإخوان في المشهد:
بصفة عامة يهدّد صعودُ السلفية المتشدّدة نفوذ الإخوان، فهذه المجموعات "تشكّك في أيديولوجيتها المعتدلة نسبياً" وتعيق محاولاتها للتجنيد. والجماعة "ليست قوية كما يُعتَقَد عموماً". وساعد تركيز أطراف عديدة إقليمية ودولية على الإخوان في بناء "سمعة مخيفة"، "لكن قدرتها السياسية والتنظيمية الفعلية تبدو أكثر تواضعاً بكثير". وسبب نجاحهم في المنفى: "الإرباك الهائل الذي يعانيه باقي المعارضة". وطالما بقي المنافسون عاجزين ستكون الإخوان الفائزة "في غياب البدائل".()
ومراعاة لمخاوف أطراف عديدة تحاول الجماعة الابتعاد عن التطرّف و"تروّج لنهج معتدل"، ولمفهوم غامض عن "الدولة المدنية". و"في مارس 2012، أصدرت الجماعة برنامجاً سياسياً يدعم حقوق الأقليّات والديمقراطية التعدّدية لقي قبولاً حسناً من المعارضة والعواصم الغربية". وبسبب غياب الخيارات، اختارت الإخوان العمل مع حركات سلفية، بأمل استمالتها أو الاستفادة من قوتها المتنامية. ومع ذلك، نأت بنفسها عن الفصائل الأكثر تشدّداً، (السلفية الجهادية)"، وبخاصة "النصرة".()
استخلاص واستشراف:
بصفة عامة، لا تتسع هذه المساحة لتقصي العديد من العوامل المؤثرة في مسار الظاهرة ومآلها، وبخاصة أن الساحة السورية تشهد تحولات سريعة – بعضها لا سابقة له في تاريخ حركات الإسلامي – والمستقبل لن يخلو من صراعات، في مرحلة "ما بعد نظام الأسد"، وسيكون للبعد النظري / الفقهي فيها – على الأرجح – دور أقل مما للمعطيات الواقعية وحسابات القوة على الأرض.
وبالتالي فإن المكونات المتفاعلة ستشهد إعادة هيكلة خلال الفترة المقبلة ستتأثر تطوراتها جذرياً بمفترق طريق مفتوح على كل الاحتمالات يلخصه سؤال: هل تعود خارطة الهلال الخصيب كما كانت أم لا؟.