بات المجتمع الدولي بأسره يدرك أن لإيران سياسات توسعية (مذهبية وقومية الهوى) تستهدف مد النفوذ الإيراني على معظم المنطقة العربية. ووسيلة إيران الرئيسة لتحقيق أهداف هذه السياسة هي: دعم الأقليات الشيعية المنتشرة في دول المنطقة، وتمكينها للهيمنة لصالح إيران، بادعاء أن إيران هي مناصرة هذه الأقليات ... " المضطهدة " (من قبل الغالبية السنية – كما يدعي قادة إيران). ولخطورة هذه الأهداف، ومبالغتها الواضحة، فإن سعيإيران لامتلاك السلاح النووي أمسى هاجسا أمنيا وسياسيا مخيفا لدى جيران إيران، بصفة خاصة، وبقية الدول بصفة عامة. وحتى الآن، وفى الواقع، يبدو أن سعى إيران لكي تصبح قوة نووية قد تأجل، ولكنه لم، ولن، يتوقف.
من الجهة الاخرى، تبذل إسرائيل، وأنصارها، قصارى جهدهم،لإجهاض أي برنامج نووي بالمنطقة، ولو كان سلميا، وتوجيه ضربة عسكرية قاصمة ضده. والمثال السابق هو العراق. أما الراهن فقد يكون: إيران ... ودعوة إسرائيل لقصفها، بسبب إصرار إيران على امتلاك التقنية النووية المتقدمة. ولن تتردد الإدارة الأمريكية لاحقا، في التجاوب مع هذا الطلب، حباً وكرامة للكيان الصهيوني ... الذي من أجله تقصف دول، وتقهر شعوب، وتحتل بلاد. وذلك على الرغم من الاتفاق النووي الأخير الموقع في كل من لوزان، وفيينا، والذي صادق عليه مجلس الأمن الدولي مؤخرا، والذي قال عنه " نيتنياهو "، رئيس وزراء إسرائيل: " أنه يمهد للحرب، ويقربها ".
ورغم أن هذا الدعم الأمريكي المطلق يعود إلى عقود خلت، إلا أن أكثر " الإدارات " الأمريكية عشقاً وولهاً بالصهيونية، كانت هي إدارة بوش الابن السابقة. فتلك " الإدارة" تفانت في دعم العدوان الصهيوني المشهود، وعملت على التغطية على سلاحه النووي، وحاولت جهدها" تبرير" جرائمه اليومية، ضد الشعب الفلسطيني، وضد المنطقة ككل. ويكفي أن نذكر "مثلاً " واحداً على ذلك: أن غزو واحتلال وتدمير العراق، من قبل تلك الإدارة، تم لعدة أسباب، من أهمها -إن لم يكن أهمها -إنهاء ما قد يشكله العراق (بما كان له من ثقل سكاني وعلمي) من " خطر" مستقبلي على إسرائيل، وسياساتها، وتسهيل فرض الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة.وجاء أوباما ليكمل ما قام به سلفه.
****
لقد عانى العرب بخاصة من هذا " التحالف " الغربي-الصهيوني الأمرين. والآن يأتي التهديد النووي الإيراني ليزيد طين العرب بلة. وحتى الوقت الحاضر، لم يتخذ معظم العرب سياسة محددة وموحدة تجاه هذين التهديدين، ناهيك عن " إستراتيجية "عربية موحدة مفعلة، لمواجهة آثارهما وتداعياتهما السلبية، على الأمن القومي العربي، والمصالح العربية العليا. إسرائيل تمتلك الآن ترسانة ضاربة من السلاح النووي (حوالي 300 رأس نووي وأسلحة لحملها وقذفها على الأهداف المختارة) موجهة – أصلا -ضد التجمعات السكانية العربية، وتستخدمها إسرائيل لردع وإرهاب وابتزاز العرب، وعلى مدار الساعة. وتعمل على احتكار السلاح النووي، وعدم السماح لأي طرف عربي، أو إسلامي، بامتلاك هذاالرادع، الذي يكاد أن يمكنها من المنطقة العربية بأسرها.
****
وقدكانت إسرائيل – وما زالت – تتبع سياسة " الغموض " فيما يتعلق بمسألة تسلحها النووي.فأحيط كامل النشاط النووي الإسرائيلي بسرية وتكتم شديدين،منذ ابتداءه في عام قيام إسرائيل، سنة 1948م، حتى وجود " لجنة الطاقة الذرية " الإسرائيلية لم يعرف عنه إلا بعد سنوات من إنشائها فعلا. وفى عام 1962م، أثيرت – لأول مرة – بعض التساؤلات عن مفاعل " ديمونا ". ولكن " ديفيد بن جوريون "، رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، أنكر حقيقة تلك المنشأة .... وقال عن مفاعل ديمونا انه مجرد " مصنع للنسيج " ...؟!
ولم تتم مناقشة موضوع التسلح النووي في إسرائيل علنا إلا في الثمانينات. وقد أدلى " ليفي أشكول "، ثالث رئيس للوزراء في إسرائيل، بتصريح شهير، عام 1964م، بخصوص الإمكانات العسكرية النووية الإسرائيلية، إذ قال: " إن إسرائيل لن تكون أول بلد يدخل أسلحة نووية إلى منطقة الشرق الأوسط " ...؟! وظل زعماء إسرائيل يرددون هذا التصريح الخبيث من بعده، من حين لآخر، للتمويه، وإضفاء المزيد من الشك لدى خصوم إسرائيل، بل وحتى أصدقاءها.
إن الموقف الرسمي الإسرائيلي بشأن التسلح النووي، كان – حتى ديسمبر 2006م – يكتنفه غموض كثيف مقصود .... ففي الوقت الذي تمتلك فيه إسرائيل أسلحة نووية ضاربة، وجاهزة للاستخدام،وتلوح باستعمال هذا السلاح – إن تعرضت لتهديد خطير – فإنها تنكر (رسميا) أن لديها أسلحة نووية .... وتصر بأنها " سوف لن تكون أول بلد يدخل أسلحة نووية للمنطقة "....؟!
****
والواقع أن ذلك الغموض هو عبارة عن: خدعة صهيونية مدروسة. فإسرائيل كانت – ومازالت – دولة نووية، منذ السنوات الأولى لقيامها، في فلسطين. وأن أهم أهداف تسلحها النووي هي: ضمان وجودها وهيمنتها على المنطقة ككل .... انطلاقا من: إيمان القادة الاستراتيجيينالإسرائيليين بأن وجود كيانهم ودوام سيطرتهم مرهون بمدى قوته العسكرية. فكيان قائم على العدوان على شعب بأكمله، واغتصاب أرضه ومصادرة ممتلكاته، لا يمكن أن يستمر إلا بالقوة الغاشمة.
وتهدف السياسة النووية الإسرائيلية الحالية، المتسمة بالغموض المصطنع والمقصود، إلى: ردع أعداء إسرائيل عن مهاجمتها، أو تهديدها، وتحدى هيمنتها. فإسرائيل تريد ردع مناوئيها عن تحديها، وفى ذات الوقت: تنكر (رسميا) أنها تمتلك أسلحة نووية .... لتظهر بمظهر الدولة المسالمة (المهددة) ولتثني العرب بخاصة (والدول الإسلامية بعامة) عن التفكير (جديا) في امتلاك الخيار النووي العسكري هم أيضا. فأشد ما يقلق الصهاينة هو: أن تقدم إحدى الدول العربية أو الإسلامية على حيازة أسلحة نووية رادعة، لاحتمال أن تكون إسرائيل هي أحد الأهداف التي قد توجه ضدها تلك الأسلحة .... لما سببه قيام وتوسع ونمو إسرائيل من غبن وقهر، لدى كل الشعوب العربية.
****
إسرائيل تتبع، إذا، سياسات نووية .... قوامها: الردع ... مع عدم التصريح بوجود أداة هذا الردع! أو هو: ردع ... مع عدم اليقين، أو الشك. وهي سياسة لم يصدقها المراقبون غير العرب .... ناهيك عن أن يصدقها المراقبون العرب. فكل " الدلائل " تشير إلى: امتلاك إسرائيل لترسانة نووية ضارية،سواء أعلنت إسرائيل عنها، أو تكتمت.
وهذه المناورة النووية الصهيونية نجحت فقط في استمرار تعاطف بعض الأوساط الغربية مع إسرائيل .... ولم تحقق بقية الأهداف المتوخاة من الغموض فيها. ولكن حقيقة حيازة إسرائيل للسلاح النووي، الجاهز للاستخدام (والمصوب نحو التجمعات السكانية العربية الكبرى، وغيرها) أسهمت في تصعيد " الردع " لصالح إسرائيل، لاسيما في ظل تجريد العرب– طوعا، وكرها – من أية إمكانية نووية تذكر، حتى ولو كانت سلمية .
****
ولكن، لأول مرة، حدث تغيير –شبه جذري – في سياسة إسرائيل النووية هذه ..... يوم أدلى " أيهود اولمرت "، رئيس وزراء إسرائيل السابق، بتصريح لإحدى محطات التليفزيون الألمانية، بتاريخ 11 / 12 / 2006 م .... قال فيه: " إن إسرائيل دولة نووية، لكنها مسؤولة ". ومضى قائلا: " إن إسرائيل لا تهدد أي بلد في العالم، بينما إيران تهدد بوضوح بإزالة إسرائيل من الخارطة ... هل يمكن الحديث عن مستوى التهديد ذاته، حين يطمح الإيرانيون إلى امتلاك أسلحة نووية، مثل فرنسا والولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل " ...؟!
لم يتخذ معظم العرب سياسة محددة وواضحة وموحدة ضد التهديد النووي الإيراني والتحالف الغربي ـ الصهيوني
ورغم أن " اولمرت " تراجع، بعد ضغوط داخلية وخارجية مكثفة عليه، عن ذلك التصريح، إلا أن ما حمله من مضمون سيظل باقيا. ففي مؤتمر صحفي، عقده مع المستشارة الألمانية " أنجيلا ميركل "، يوم 12 / 12 / 2006م، بادر بالقول انه كان يقصد: لو كانت إسرائيل تمتلك أسلحة نووية. وقيل في الأوساط السياسية الإسرائيلية، تعليقا على تصريح اولمرت هذا، بأن ما قاله أصلا كان عبارة عن " زلة لسان ". وجاء عن مكتب اولمرت: " إن رئيس الحكومة لم يعترف،بأي حال، بان لدى إسرائيل سلاحا نوويا " ....؟!
وكان قد سبق ذلك تصريح مماثل لوزير الدفاع الأمريكي الأسبق " روبرت غيتس " ... الذي أقر، بشكل غير مباشر، بأن إسرائيل دولة نووية .... عندما أورد اسمها ضمن الدول النووية التي تحيط بإيران. فلا أحد يصدق، قبل هذه التصريحات وبعدها، أن إسرائيل ليست دولة نووية. وعلى كل المعنيين اعتبار ذلك حقيقة، لا مراء فيها.
وأيضا، وبتاريخ 21 يناير 2007م، وفى محاضرة عامة له بإسرائيل، اعترف " ارييل ليفيت "، نائب مدير عام اللجنة النووية الإسرائيلية سابقا، وللمرة الأولى، بان " إسرائيل دولة نووية " ..... في سياق حديثه عن دور معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية في " استتباب الاستقرار الدولي ". ونشر هذا التصريح في عدة صحف عالمية، في اليوم التالي لصدوره. (انظر - على سبيل المثال وليس الحصر- : " عكاظ " السعودية : العدد 14759 , 23 / 1 / 2007م , ص 27 ) .
****
ويعتبر " اولمرت " واحدا من أشرس أبالسة الصهاينة، وأكثرهم كذبا وخداعا ... ومن الأمثلة الكثيرة على هذه الصفات: مضمون التصريح المذكور الذي أدلى به... والذي يقطر مغالطة، وتهديدا وافتراءً. فهو يقول: إن امتلاك الدول " المتحضرة " (مثل إسرائيل – على حد زعمه) للسلاح النووي لا يشكل خطرا على الأمن والسلم الدوليين، عكس امتلاك " الدول الانفعالية " لهذا السلاح ... فإنه يشكل خطرا فادحا على الأمن والسلام العالمي ... ؟! وتجاهل اولمرت حقيقة " إسرائيل " العدوانية، وطبيعتها الإجرامية المشهودة .... وكونها أكثر الدول شراسةوتهديدا لمن حولها - كما تشهد بذلك نسبة كبيرة من المراقبين المنصفين في هذا العالم .
فالكيان الصهيوني قائم على العدوان، واغتصاب أرض شعب بأكمله، وطرد أهلها من ديارهم .... ثم ما فتئ هذا الكيان يقتل أبناء هذا الشعب، ويشردهم، ويذلهم ..... حتى بعد نزوحهم إلى الضفة الغربية وغزة. وإسرائيل –بما تحمله من حقد ومطامع وعنصرية –تمثل تهديدا قاتلا للعرب ...... وهي ما تكاد تفرغ من العدوان على طرف عربي، حتى
تحضر لعدوان جديد. وقد تسبب هذا الكيان –حتى الآن –في إلحاق أضرار هائلة بالمنطقة ..... من ذلك: قتل وجرح وتعذيب واعتقال أكثر من نصف مليون فلسطيني. كما شرد أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني، وصادر ممتلكاتهم. وتقوم إسرائيل (عبر جهاز الاستخبارات فيها – الموساد) بالتآمر على الدول العربية، على مدار الساعة، وإيذاء شعوبها، بشتى الوسائل الممكنة، والمتاحة للصهاينة.
وما الدمار والقتل الذي الحق بالعراق ولبنان، وغيرهما، إلا من كيدها وتخطيطها، وإن كان " المنفذ " الرئيس لذلك هو: من يدعم عدوانها، ويباركه. وهي اليوم تخطط لحرب شعواء جديدة في المنطقة .... بهدف استمرار احتكار امتلاك السلاح النووي، وكل أسلحة الدمار الشامل، وإضعاف أي منافس، أو خصم، محتمل، والمضي قدما في تنفيذ سياساتها الجهنمية تجاه المنطقة وغيرها .... كيف بعد كل هذا يتساهل العالم مع هذا الكيان ؟!
****
ولا شك،أن امتلاك إيران لسلاح نووي هي الأخرى يمثل خطرا داهما على المنطقة والعالم. وبعض المؤيدين لقيام إيران نووية يتحججون بامتلاك إسرائيل لهذا السلاح الفتاك. ولكن، حتى امتلاك الكيان الصهيوني لهذا السلاح لا يبرر (تماما) سعى أي دولة لامتلاكه، إلا إذا فشلت كل محاولات حظر هذا السلاح، وعدم السماح لأي دولة بالمنطقة بامتلاكه، عبر إقامة منطقة شرق أوسط خالية من السلاح النووي. وفى الوضع الدولي الحالي، يصعب ثنى أي دولة تتعرض لتهديد نووي مباشر،عن السعي لحيازة هذا السلاح، هي الأخرى. الأمر الذي ينبئ بقرب قيام سباق تسلح نووي بالمنطقة لا تحمد عقباه. وإن حصل هذا السباق، فلا شك أن إسرائيل–إضافة لإيران-تكون هي من دفعوأسهم في حدوث هذا التطور المؤسف والمرعب، المهدد للأمن والسلم الاقليميين والدوليين.