ليست مبالغة في القول أن التغيرات المتطورة والتفاعلات المستمرة التي تشهدها المنطقة سواء على مستوى قضاياها المتعددة أو على مستوى تحركات فاعليها الرئيسيين أو على مستوى تدخلات الفواعل الدولية وتحالفاتها، ذات تأثير متعدد ومتنوع ليس فقط على مستوى الأوضاع الكلية للمنطقة من حيث زيادة وتيرة الصراع وتفاقمه أو حتى على مستوى الحد من اندفاعاته غير المحسوبة، خاصة مع بروز فاعلين من غير الدول إزاء تأثيرها، وذلك على غرار تنظيم "داعش" وغيره من الجماعات والتنظيمات الإرهابية، وإنما امتد تأثير هذه التغيرات والتفاعلات إلى تهديد الدولة الوطنية ووجودها منذ تأسيسها في خمسينيات وستينات القرن المنصرم ما بعد الاستقلال.
وفي هذا الإطار، يبرز الحديث عن مآلات العديد من دول المنطقة التي بدأت تشهد صراعات داخلية واحترابات أهلية تنذر بتفتيت مستقبلي ينتظر إطلاق ساعة الصفر لتبدأ أولى حلقاته على غرار ما جرى في السودان سابقا. ويجرى اليوم على قدم وساق في كثير من البلدان وفى مقدمتها العراق، الذى يشهد تدهورا مستمرا منذ الاحتلال الأمريكي/ البريطاني له عام 2003 م، وربما قبله منذ الخطيئة الأولى التي ارتكبها الرئيس العراقي الأسبق "صدام حسين" بغزوه الكويت في تسعينيات القرن الماضي، حيث تعكس الأوضاع العراقية الصورة الحقيقية لما تواجهه المنطقة من تحديات وتهديدات، وما يُرسم لها في كواليس السياسة الدولية من خطط ومقترحات تهدف إلى إعادة رسم حدودها بما يتفق ومصالح الأطراف الدولية. ومما يزيد من تعقيد المشهد وارتباكه بصورة كبيرة أن هذه التحولات الإقليمية تتزامن مع تحولات يشهدها النظام الدولي الذى ينتقل من منظومة أحادية القطبية التي استمرت منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وحتى بدايات الألفية الثالثة، إلى منظومة تعددية قطبية خاصة مع استعادة الدب الروسي لدوره الذى تراجع خلال الفترة الماضية، فضلاً عن صعود مرتقب لقوى دولية جديدة في مقدمتها الصين.
وانطلاقًا من الأهمية التي تمثلها منطقة الشرق الأوسط وفى القلب منها العالم العربي، تشهد ساحته جولة جديدة من الصراع الدولي بين القطب الذي يحاول الاحتفاظ بسيادته المنفردة (الولايات المتحدة) والأقطاب الأخرى الرامية إما إلى استعادة ماضيها العالمي (روسيا) وتلك الرامية إما إلى تأكيد وجودها الدولي (الصين). وفى خضم هذا الصراع تأتى التدخلات المستمرة من جانب هذه القوى في القضايا والمشكلات الأكثر إلحاحا، حيث تمثل قضية الإرهاب ومحاربته وخاصة إرهاب داعش, القضية الأولى بالاهتمام نظرا لخطورتها على الأمن والسلم الدوليين من جانب، ولتفاقمها ومحاولات سيطرتها على منطقة ذات أهمية جيواستراتيجية في الخريطة العالمية من جانب آخر.
وقد مثل ظهور داعش في العراق وانتقاله إلى سوريا بل وتمدده في المنطقة بأسرها، نقطة تحول جديدة في تفاعلات القوى الكبرى وخاصة روسيا والولايات المتحدة في تفاعلاتهما مع المنطقة. صحيح أن كثيرًا من التحليلات ترى أن "تنظيم داعش" هو صناعة أمريكية هدفت إلى إرباك المشهد في المنطقة بما يضمن لها تحقيق أهدافها خاصة مع التحول الذي طرأ على التوجهات الخارجية حيال المنطقة، والتي يمكن إجمالهما في هدفين: الأول، إعادة ترتيب أوراقها في منطقة الشرق الأوسط مع ضمان حماية مصالحها. الثاني، التوجه صوب القوى الدولية الصاعدة بما يحد من صعودها، ويُعنى به تحديدا الصين وروسيا.
الدب الروسي يستعيد دوره مع التحولات الإقليمية والتحول من عالم أحادي القطبية إلى متعدد الأقطاب
في خضم هذا المشهد، ومع تزايد الوجود الروسي في منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة والمنطقة العربية على وجه الخصوص، عاد الاهتمام الروسي بمناطق النفوذ السابقة، من خلال تفعيل مجالات التعاون والتقارب مع البلدان العربية التي كانت تمثل نقاط ارتكاز في الإستراتيجية السوفيتية قبل الانهيار ويعنى بهذا البلدان تحديدا: سوريا، ليبيا، مصر، العراق، الجزائر. صحيح أن روسيا فقدت العراق مع الاحتلال الأمريكي له عام 2003 م، وكان هناك حرصًا من جانب الولايات المتحدة لمنع أي تقارب روسي عراقي، الأمر ذاته تكرر مع ليبيا ما بعد القذافي، وصحيح أيضًا أن العلاقات المصرية الروسية شهدت فتورا ما بعد 25 يناير وخلال فترة حكم الإخوان، إلا أنها عاودت مع تولى الرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي". إلا أنه من الصحيح أيضا أنها حرصت على ألا تتكرر هذه الأخطاء مرة ثانية في علاقتها مع سوريا، فتبنت منذ اليوم الأول للثورة السورية موقفا دفاعيا عن النظام معتبرة أن خروج "بشار الأسد" خطا أحمر.
نخلص من ذلك إلى أن روسيا سعت إلى استعادة علاقاتها مع دول المنطقة مدفوعة من عاملين: الأول، تعزيز وجودها وتأكيد مكانتها الدولية. الثاني، الحد من الضغوط الأمريكية الغربية المفروضة عليها ما بعد الأزمة الأوكرانية.
وفى هذا الصدد، يمكن قراءة التقارب الروسي العراقي، بل وحرص روسيا على تعزيز علاقتها مع العراق وتقدم يد العون إلى الحكومة العراقية على غرار ما ذكر وزير الخارجية الروسي "سيرجى لافروف" على هامش زيارة الرئيس العراقي "حيدر العبادي" موسكو في 21 مايو 2015 م، حيث أكد على ذلك بقوله:"نحن سنسعى إلى تلبية كل الطلبات المحتملة بأقصى قدر ممكن لضمان قدراتهم على طرد داعش وغيره من الإرهابيين".
ومن الجدير بالذكر أن التقارب الروسي ـ العراقي لم يكن وليد التحولات الأخيرة التي تشهدها المنطقة فحسب، بل ترجع بدايات صفحة علاقاتهما ما بعد نظام "صدام حسين" إلى عام 2008 م، مع توقيعهما في فبراير من العام ذاته، على اتفاق يقضي بشطب الديون الروسية على الدولة العراقية والبالغ قيمتها 12,9 بليون دولار، حيث تم شطب 93% من قيمتها أي ما يعادل 12 بليون دولار، وقد تزامن ذلك مع التوقيع على مذكرة التعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والتقني بين البلدين، مثلت أساسًا قانونيًا لاستئناف تعاونهما بعد فترة طويلة من الفتور سيطر على علاقاتهما خلال الأعوام السابقة.
موسكو مطالبة بمراعاة التوازنات في المنطقة وإعادة النظر في سياستها تجاه الخليج والوضع في سوريا واليمن
ويذكر أيضا أنه منذ ذلك الحين تشهد علاقاتهما مراحل صعود وهبوط وإن تركزت في المجالين العسكري والاقتصادي وإن ظل المجال العسكري هو المسيطر الأكبر على تعاون البلدين. ولكن، مع زيادة حدة التوترات على الساحة العالمية وانعكاساتها على كثير من المناطق وفى مقدمتها منطقة الشرق الأوسط، بدأت العلاقات الروسية العراقية تشهد مزيدا من التقارب ,دفع إلى ذلك عدة عوامل، منها:
1- التحولات التي تشهدها المنطقة بدءا من الملف النووي الإيراني، مرورا بتصاعد التهديدات الإرهابية التي يمثلها تنظيم داعش، وصولا إلى تفاقم الأزمة السورية وتعدد أبعادها خاصة مع انغماس أطراف عدة فيها.
2- التراجع في الدور الأمريكي في المنطقة، وهو ما اعتبرته روسيا فرصة سانحة لاغتنامها لتعيد دورها المفقود في المنطقة، خاصة وأن الانسحاب الأمريكي من العراق ترتب عليه تداعيات أمنية مثل مصدرًا لتهديد الأمن القومي الروسي عبر تحول العراق لساحات للتنظيمات الإرهابية التي انضم إليها شباب ممن ينتمون إلى الجوار الروسي ويمثل تهديدا لها في حالة عودته.
3- الحاجة الروسية إلى كسر الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة وأوروبا، فثمة حاجة روسية لفتح أسواق جديدة لصادراتها من السلاح من جانب، وإيجاد مصادر بديلة لوارداتها من البلدان الأوروبية.
4- الدوافع العراقية إلى توسيع مساحة تحركاتها الخارجية بما قد يسهم في حل أزمتها السياسية والاقتصادية، فرأت أن التوجه إلى روسيا مع صعودها وسعيها لاستعادة نفوذها فرصة مواتية للدولة العراقية أن تعيد البناء، خاصة مع تراجع المساندة الأمريكية.
في ضوء هذه العوامل الدافعة نحو التقارب، يمكن تسجيل أبرز مؤشرات التعاون في المجالين العسكري والاقتصادي على النحو التالي:
التعاون العسكري:
في خطوات تمثل ارتداد للسياسة العراقية ما بعد سقوط نظام "صدام حسين" عام 2003م، بسبب الاحتلال الأمريكي/ البريطاني للعراق، عاود العراق توجيه دفة بناء قدراته العسكرية صوب العاصمة الروسية موسكو في محاولة لتنويع مصادر التسلح من جانب، وتلبية حاجة الجيش العراقي الذي اعتاد على استخدام الأسلحة الروسية في حروبه المتعددة وخاصة حربه ضد تنظيم "داعش" الإرهابي من جانب آخر، وقد تجلى هذا التعاون في العديد من المؤشرات منها:
1- توقيع البلدين على هامش زيارة لرئيس الوزراء العراقي السابق "نوري المالكي" إلى موسكو عام 2012م، على عدد من العقود في مجال التعاون العسكري والتقني تجاوزت قيمتها 4,2 مليار دولار. ويذكر أن هذه العقود كانت تتويجا لزيارات متعددة قام بها وفود الخبراء العسكريين العراقيين برئاسة وزير الدفاع العراقي "سعدون الدليمي" القائم بأعمال وزير الدفاع آنذاك في أبريل ويوليو وأغسطس عام 2012م. ومن أبرز ما تضمنته هذه العقود حصول العراق على عدد 43 مروحية هجومية روسية بحلول عام 2016م، من بينها 24 مروحية من طراز "مي-35م" و19 من طراز "مي-28 إن". ويذكر أن مجموع ما حصلت عليه العراق وحتى أواخر عام 2015 بلغ (16) مروحية من طراز "مي-35م" و(11) من طراز "مي-28 إن". ومن المقرر استخدام هذه المروحيات في قتال الجماعات المتطرفة على الأراضي العراقية.
2- البدء في تسليم بغداد منظومات دفاع جوي أرض – جو من نوع "بانتسير اس1".
3- توقيع البلدين في ربيع عام 2014م، مجموعة إضافية من العقود شملت توريد طائرات هجوم من طراز "سو-25" ومنظومات دفاعية وذخائر بقيمة تقارب مليار دولار.
4- توقيع البلدين اتفاقية التعاون الأمني في أواخر يوليو 2015م، وذلك على هامش زيارة وزير الدفاع العراقي "خالد العبيدي" موسكو.
5- طبقا لبيانات الهيأة الفدرالية الروسية للتعاون العسكري التقني، احتل العراق في عام 2014 م، المرتبة الثانية بعد الهند من حيث حجم الصادرات من الأسلحة الروسية (11% من الصادرات العسكرية الروسية)، ولتصبح روسيا من جهتها ثاني أكبر مصدر للأسلحة إلى العراق بعد الولايات المتحدة.
روسيا تسعى لعلاقات جديدة في الشرق الأوسط لتأكيد مكانتها ومواجهة الضغوط الأمريكية ما بعد الأزمة الأوكرانية
العراق يسعى إلى توسيع مساحة تحركاته الخارجية لحل أزماته الداخلية والتوجه إلى روسيا الصاعدة أحد الحلول
التعاون الاقتصادي:
شهدت الآونة الأخيرة عودة شركات النفط الروسية إلى العراق، ومن بين أنشط الشركات التي تعمل هناك تبرز شركات " لوك أويل" و" غاز بروم نيفت" و" باش نيفت".
وفيما يتعلق بحجم التبادل التجاري بين البلدين، فقد بلغ في العام الماضي ( 2014 م) قرابة 2 مليار دولار، من دون حساب التعاون العسكري، ما يعني أنه وصل عملياً إلى المستوى الذي كان في عام 1989م، أي قبل انهيار الاتحاد السوفيتي وفرض العقوبات على العراق، أما في عام 2013 فقد بلغ هذا المؤشر نحو 250 مليون دولار.
وفي التجارة الروسية - العراقية، ومنذ عام 2003م، كانت النسبة الأكبر تعود إلى الصادرات الروسية، حيث تشكل محاصيل الحبوب والصناعات المعدنية ( الأنابيب بشكل أساسي) أكثر من 80% من هذه الصادرات.
ولكن، رغم هذا التعاون، بل وحرص الطرفين على منحه مزيدًا من التوسع، إلا أن ثمة معوقات لا تزال تمثل عقبة أمام عودة علاقاتهما إلى سابق عهدها، يمكن أن نجملها في ثلاثة معوقات على النحو التالي:
1- على المستوى الداخلي، يمثل التقارب العراقي مع روسيا من جانب من بعض القوى السياسية العراقية تقوية للجانب (للطرف) المسيطر على مقاليد الحكم بما يعزز من وضعيته في أية محادثات حوار تُجرى بين الفرقاء السياسيين بشأن إعادة ترتيب البيت العراقي بعيدا عن المحاصصة والتقسيم، خاصة أن موقف الأطراف العراقية (السنة – الأكراد – الشيعة) غير متماثل في كثير من القضايا المصيرية، خاصة قضية الحفاظ على وحدة وسيادة الأراضي العراقية بعيدا عن أية مخططات تقسيم، وهو ما يتعارض مع رؤية إقليم كردستان الساعي إلى الانفصال تمهيدا لإقامة دولة كردية مستقلة. ولذا، تعتبر القوى الكردية الموقف الروسي الرافض لتقسيم الأراضي العراقية معارضا مع طموحاتها، وأن التقارب الحكومي مع روسيا يصب في مصلحة الطرف الشيعي على حساب مصالحه.
2- على المستوى الإقليمي، يحمل الجانب الإقليمي موقفين متناقضين: الأول، تعبر عنه بعض الدول الإقليمية التي ترى بأن التقارب الروسي ــ العراقي يعزز من النفوذ الإيراني في المنطقة بصفة عامة والنفوذ الشيعي بصفة خاصة، وذلك انطلاقا من وقوع العراق تحت السيطرة الكاملة لإيران بما يعنى تعزيزًا لهذا الوجود وتقويتها، ومما يعزز ذلك حجم التفاهمات والتعاون الروسي الإيراني والذي يضيف إلى ميزان القوة الإيرانية ونفوذها في المنطقة، ويأتي هذا الموقف من جانب دول الخليج التي ترى في التقارب الروسي ــ الإيراني العراقي دعما حقيقيا لنظام "بشار الأسد" خاصة مع استخدام روسيا للأجواء العراقية لعبور قواتها العسكرية الداعمة لهذا النظام. أما الموقف الإقليمي الثاني، فتعبر عنه إيران ذاتها التي ربما ترحب بالتقارب الروسي ــ العراقي وترى أنه يسير في الطريق المعزز لقدراتها ووجودها في جوارها الإقليمي، إلا أنها في الوقت ذاته تخشى من أن يمثل العراق أداة ضغط روسية عليها وعلى تحركاتها في منطقة آسيا الوسطى كونها الحديقة الخلفية للدب الروسي والذي يعارض أي تقارب إيراني مع هذه البلدان حفاظا على أمن روسيا القومي، هذا من جانب. ومن جانب آخر، تخشى إيران أيضًا من أنه في إطار صفقتها النووية مع الولايات المتحدة وإمكانية تأثير ذلك سلبا على علاقتها مع روسيا التي تتجه بدورها لفتح مزيد من العلاقات مع دول الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات، وأنه في حال تقارب إيران مع الولايات المتحدة والغرب، قد يكون لروسيا دورا مهما في التقارب بين العراق ودول الخليج، بما قد يعنى – من وجهة نظر إيران- عودته إلى المنظومة العربية واللعب به من جانب روسيا كورقة ضغط أيضا على إيران لمنعها من تقاربها مع الغرب.
3- على المستوى الدولي، لا يعنى التغير في التوجهات الأمريكية حيال المنطقة العربية انسحاب الولايات المتحدة، وإنما يعنى إعادة ترتيب أولوياتها بما يتفق ومصالحها ويضمن حمايتها. ولذا، فهي تعارض أي استعادة للنفوذ الروسي مرة أخرى في المنطقة، خاصة مع امتلاك روسيا لبعض أوراق الضغط الإقليمية وأهمها علاقتها مع نظام "بشار الأسد"، وما قد يمثل ذلك من تحد للسياسة الأمريكية في المنطقة وانتقاصا من قدرتها على إدارة ملفاتها، أضف إلى ذلك أن التعاون الروسي ـ العراقي يتركز بصفة خاصة في المجال العسكري بما يعني تراجع حجم المشتريات العراقية من السلاح الأمريكي وتوجيهه إلى السوق الروسي الأمر الذي يُسهم بدوره في مساندة الاقتصاد الروسي في أزمته بسبب الحصار الاقتصادي المفروض عليه من الولايات المتحدة والغرب ما بعد الأزمة الأوكرانية. ولذا، تعارض الولايات المتحدة بشدة أي تقارب روسي ــ عراقي ، بل وتمارس المزيد من الضغوط على الحكومة العراقية للحد من هذا التقارب، ويبرر ذلك ما ذكره رئيس الوزراء العراقي "حيدر العبادي" خلال زيارته الأولى إلى موسكو في مايو 2015م، بقوله:"توجهت إلى موسكو بغض النظر عن تلقي توصيات من بعض القوى تدعو للتخلي عن هذه الزيارة".
روسيا والعراق... التوزان المطلوب:
لخصت العبارة التي قالها رئيس الوزراء العراقي "حيدر العبادي" في زيارته إلى موسكو في مايو 2015، طبيعة التوجه العراقي صوب روسيا، حيث جاء فيها إن:"العلاقات بين البلدين قوية، وهدف الزيارة هو توسيعها وزيادة التعاون القائم في الجوانب العسكرية والاقتصادية والنفط والطاقة والنقل وغيرها، وزيادة حضور ومشاركة الشركات الروسية في بناء العراق". وهو ما يعكس إلى أي مدى نجحت موسكو في استعادة جزء كبير من دورها العالمي الذي فقدته منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، بما يلقى بمزيد من العبء على صانع السياسة الخارجية الروسية في أن يعيد النظر في طبيعة توجهاتها بصورة تراعى طبيعة القضايا المتباينة والمناطق المختلفة. فإذا كان معلوما أن روسيا تخلت عن رؤيتها الأيديولوجية التي حكمت توجهاتها الخارجية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وأعادت ترتيب هذه التوجهات بما يتفق ومصالحها الحيوية والتي تحاول من خلالها ألا تتعارض مع مصالح الأطراف المتفاعلة معها، إلا أن تحقيق هذه المعادلة يتطلب من روسيا أن تدرك أن ثمة توازنات مطلوبة حتى لا يكون مكاسبها على حساب أطراف أخرى لن تقف مكتوفة اليد، بل تحاول أن تهدد مصالح روسيا في مناطق أخرى أو في مجالات أخرى. ولعل الموقف الروسي من الأزمة السورية ومساندتها المطلقة لنظام بشار الأسد، يوضح ما المطلوب قوله تحديدا، فهذه المساندة بلا شك تؤثر سلبا على علاقة روسيا مع دول الخليج التي ترى في الرحيل الفوري للرئيس السوري "بشار الأسد" بعد فقدان شرعيته الحل الوحيد للأزمة السورية. ولذا، على صانع السياسة الخارجية الروسية في تعاملها خاصة مع منطقة الشرق الأوسط أن يراعي حجم التوازنات المطلوبة على غرار ما انتهجته روسيا حيال قضية الصراع العربي الإسرائيلي. ومع الأخذ في الحسبان أن هذا القول لا يعني تخلي روسيا عن مصالحها الإستراتيجية، ولكن عليها أن تعيد النظر في بعض سياستها خاصة تلك البعيدة عن مناطق نفوذها المباشر على حدودها، فعلى غرار ما جرى في موقفها من الأزمة اليمنية – علما بأن الوضع في اليمن يختلف كليا عن الوضع السوري بالنسبة للمصالح الروسية – عليها أن تضع سياسة توازنية تحافظ على مصالحها مع هذا الطرف من دون أن يكون ذلك على حساب مصالحها مع الطرف الآخر، فاستخدام الأجواء العراقية في حماية النظام السوري عبر عبور القوات الروسية وإن كان يحقق مصالحها المباشرة في تأكيد وجودها في المنطقة، إلا أنها في الوقت ذاته تسهم في توتر العلاقات العراقية مع الجوار الخليجي الذي يعارض ذلك، بما ينعكس سلبا على تأزم الأوضاع الداخلية في العراق، هذا من ناحية
العراق في المرتبة الثانية من حيث حجم الصادرات من الأسلحة الروسية وروسيا ثاني أكبر مصدر للأسلحة إلى العراق
ومن ناحية أخرى، لا تلعب روسيا أي دور يُذكر في الأزمة التي تواجهها الدولة العراقية اليوم سواء على المستوى السياسي بسبب الصراع على السلطة، حيث يمكن لموسكو أن تمارس ضغطا على طهران لدفع حلفائها في العراق لتقديم تنازلات للشركاء السياسيين بما يسهم في حلحلة الأزمة السياسية المتفاقمة. كذلك الأمر على المستوى الاقتصادي، لم يكن لروسيا أي دور يذكر في مساندة الحكومة العراقية لتلبية المطالب الشعبية المتزايدة التي شهدتها الشوارع في الصيف الماضي بسبب تردي مستوى الخدمات وتفشي الفساد والانهيار الأمني.
ما نود قوله في النهاية أن التقارب الروسي- العراقي وإن كان ضروريا للطرفين كما سبق الإشارة، إلا أنه من الضروري أيضا أن يحقق مصلحة الطرفين معا. صحيح أن العراق في حاجة ماسة إلى التعاون العسكري مع روسيا لمواجهة تهديدات التنظيمات الإرهابية، كما انه في حاجة إلى مزيد من الاستثمارات الروسية خاصة في مشروعات البنية التحتية وتحديدا في مجال صناعة النفط. إلا أنه من الصحيح أيضا أن روسيا بحاجة ماسة إلى العراق لتأكيد استعادة نفوذها الإقليمي خاصة وأنها فقدت تواجدها في ليبيا واليمن ولا يزال يتراوح مكانها في سوريا، ومن ثم، تحتاج إلى العراق لتعزيز إستراتيجيتها والاحتفاظ بمراكز نفوذها، فضلا عن حاجتها لإبرام مزيد من العقود العسكرية والتقنية لرفد اقتصادها الذي يعاني من تراجعات عدة. وهو ما يفرض على الطرفين العمل سويا على تعزيز تعاونهما في المجالات المختلفة، لأنه من دون ذلك ستشهد العراق خطوات جديدة نحو مزيد من التفتيت والتقسيم، وهو ما يمثل فشلا للإستراتيجية الروسية في استعادة تقاربها مع حلفائها السابقين على أمل استعادة نفوذها الإقليمي في منطقة تشهد تراجعا أمريكيا وفراغا يمكن أن تملأه روسيا إن أحسنت إدارة علاقاتها مع الفاعلين الرئيسيين فيها، مع تقديمها لحلول عملية وناجعة لقضاياها الملتهبة والمتوترة.