لا يمكن فصل الرؤية الروسية لسوريا عن رؤيتها الأوسع للمنطقة العربية وللشرق الأوسط، ودورها العالمي، والطموح الروسي لإعادة الهيبة للقوة الروسية ولعب دور القطب المنافس للولايات المتحدة، فالساسة الروس ينظرون إلى الشرق الأوسط من منظورٍ استراتيجي خاصة بعد تعافي روسيا من تبعات انهيار الاتحاد السوفيتي وترسيخ القبضة على الدولة، ومن ثم التدخل الواضح في دول الجوار الروسي، وصولاً لترسيخ استراتيجية التوسع لتصل إلى الشرق الأوسط. وقد بدأت مظاهر التدخل العسكري الروسي في المنطقة من خلال دعم البرنامج النووي الإيراني، وتبني مقاربة تجعل من إيران حليفاً لروسيا في المنطقة لما تتمتع به من موقع جيوسياسي، فهي تطل على القوقاز وعلى الخليج العربي وآسيا الوسطى هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن إيران تشكل بالنسبة للمنطقة فزاعة يمكن لروسيا من خلالها التأثير على دول المنطقة وعلى الغرب على حدٍ سواء بغية تحصيل مكاسب تكتيكية واستراتيجية تعيد بلورة دورٍ الإمبراطورية الروسية.
و يأتي توسيع الوجود العسكري الروسي في سوريا في جزء منه، ردًا على تعيين تنظيم داعش "أبا محمد القدري" واليا على القوقاز، وهو ما يشكل تهديداً مباشراً للمصالح الروسية في آسيا الوسطى والقوقاز، في ظل تنامي المحفزات الداخلية لهذا التمدد، حيث تشغل منطقة شمال القوقاز التي تضم سبعة كيانات فيدرالية خاضعة للسيادة الروسية (الشيشان، داغستان، أنجوشيا، قبريدينو- بلقاريا، أوسيتيا الشمالية، قراتشاي ـ تشيركيسيا، ستافروبل كراي)، أهمية قصوى في التفكير الاستراتيجي الروسي، باحتياطاتها الطاقية المهمة، وبموقعها الجغرافي المتميز بين البحر الأسود غربا وبحر قزوين شرقا، مما يخول لها التحكم في طرق المواصلات والتجارة بين أوروبا وآسيا.
كما أن منطقة شمال القوقاز، بإطلالها على البحر الأسود غرباً، تمثل المنفذ الرئيسي والمباشر لموسكو عبر مضيقي البوسفور والدردنيل إلى البحر المتوسط، ومنه إلى ميناء طرطوس في سوريا نقطة ارتكازها في الشرق الأوسط، علاوة على الخسائر الفادحة التي ستتلقاها موسكو في حال قيام الجهاديين بعمليات تخريبية تجاه خط أنابيب "السيل التركي" المنطلق من القوقاز الروسي عبر البحر الأسود، إضافة إلى أن منطقة الشرق الأوسط والتي تُعد نقطة لتماس النفوذ والمصالح الأمريكية والروسية، حيث تهدف استراتيجية واشنطن في المنطقة إلى حماية أمن إسرائيل، وتأمين مصادر النفط والغاز، و دعم تيار الإسلام السياسي لاستخدامه كورقة ضغط في المنطقة، في حين تهدف موسكو إلى الحفاظ على وجودها العسكري بالمنطقة(سوريا)، ومزاحمة النفوذ الأمريكي، وعقد شراكات اقتصادية و إبرام عقود تسليح.
ولقد وضعت روسيا هدفين بشكل مبدئي لتدخلها العسكري في سوريا هما:
ــ منع التحالف الأمريكي من القيام بأي خطوات لتحديد "مناطق محررة" وفرض حظر جوي عليها، ومن ثم منع المعارضة السورية المسلحة من التكتل في تلك المناطق وشن هجمات تحت غطاء جوي لقوات التحالف.
ــ رغبة الكرملين في مكافحة الإرهاب والدفع إلى اتفاقات ولو أولية بين مختلف القوى السورية، بما فيها النظام السياسي لتسوية سياسية، وهو الأمر الذي يسمح لروسيا بالحفاظ على مصالحها،
التدخل الروسي والتسوية
يقول أنصار التدخل العسكري الروسي من السوريين إن هذا التدخل يهدف لضرب المنظمات الإرهابية خشية من أن تقفز إلى القوقاز، والموالون للسلطة رحّبوا بهذا التدخل وزارت وفود منهم السفارة الروسية، إلا أن ما يجري يشير إلى أنه من مصالح روسيا تثبيت الوجود العسكري البحري في طرطوس والقاعدة العسكرية الجوية في مطار حميميم، باعتبارهما القاعدتين الأساسيتين لروسيا في شرق المتوسط، والحفاظ عليهما مهمة استراتيجية، ولعل هذا يتحقق من خلال التدخل العسكري، كما من مصالح روسيا منع مرور الغاز الإيراني والقطري من سوريا إلى أوروبا لمنافسة الغاز الروسي، وهذا أيضاً هدف استراتيجي مهم، إضافة إلى أن التضييق على إيران يخدم الوضع في القوقاز. كما ترى السلطة السورية وموسكو أن التدخل العسكري الروسي سوف يساعد على توازن القوى قبل أي محادثات للتسوية، وبذلك لا تستطيع أمريكا وأوروبا أو دول المنطقة تجاهل هذا التواجد ودوره في الحل.
روسيا وإيران وأمريكا وأمن المنطقة العربية
أمام لجنة استماع حول الشؤون العسكرية والسياسية في مجلس الشيوخ الأمريكي في أكتوبر 2015م، أجمع الخبراء على أن روسيا بدخولها إلى سوريا أصبحت تمثل خطراً متزايدًا على الولايات المتحدة ونفوذها ومصالحها وأمن شرق الأوسط، ووصف ما يحدث بـ "الخطر"، وأن روسيا لم تقاتل خارج مناطق نفوذها حتى إبان الحرب الباردة، والحقيقة أن الخسائر الأمريكية أكبر من ذلك، فالسياسة الأمريكية الحالية دفعت حتى حلفاء الولايات المتحدة مثل السعودية ومصر والإمارات والكويت إلى توقيع عقود عسكرية مع موسكو، وهو تدنٍ لا مثيل له في العلاقات، بسبب فتور اهتمام واشنطن بهذه الدول، بل دخلت أحياناً في تحالفات معادية، مثل اتفاق البرنامج النووي مع إيران، كما كشفت جلسة الاستماع أن نشاط روسيا العسكري تجرأ على ارتكاب مئات الاختراقات للأجواء الأوروبية في العام الماضي،
وقد لا يكون الدخول الروسي العسكري إلى منطقة الشرق الأوسط بعد احتلاله القرم نهاية السيناريو المقلق للغرب ربما هو بدايته، ومن الواضح أن شهية موسكو للتمدد وتوسيع علاقاتها على حساب أمريكا التي أظهرت خلال السنوات الست الماضية سياسة انكفاء، تجاه المنطقة، وصارت سلبية أكثر عندما أصرت واشنطن في البداية على مواجهة النظام الجديد في مصر بعد الثورة المضادة لحكم الإخوان في مصر، ورفضت كل المناشدات العربية ضد المذابح التي ارتكبها نظام الأسد في سوريا، وزاد الأمر غضباً عندما لم تفعل واشنطن شيئاً حيال إرسال إيران وحزب الله آلاف المقاتلين في سوريا، والآن يرى حلفاؤها العرب كيف أن الولايات المتحدة صارت ترجو من الحكومة العراقية عدم تخفيف الحراسات الأمنية في المنطقة الخضراء في بغداد مما يوحي بحالة عجز أمريكية غير مسبوقة، لذلك علت الأصوات الأمريكية التي تستنكر هذه السياسة الانكفائية وتطالب بإعادة النظر في استراتيجية المواجهة مع موسكو، والمشكلة الأكبر تكمن في اتفاق واشنطن الرديء مع طهران وصار مثل حصان طروادة للروس، حيث يلعب الروس والإيرانيون في فريق واحد في كل من العراق وسوريا، ويتعاونون في مناطق مختلفة بما فيها أفغانستان ضد المصالح الأمريكية وضد حلفائهم التقليديين.
المصالح الجيوسياسية والرهانات الدولية
حسابات النظام السوري معقدة ومتعددة المستويات على شاكلة أزمته، فهو يعاني من تراجع عسكري بعد أن فَقَد 80% من مساحة البلاد بمعدل 20% سنويًّا، وتواصل المعارضة المسلحة تقدمها، وتتهاوى معنويات حاضنته الشعبية التي بدأت بالتململ وإظهار الاستياء، كما حدث في اللاذقية والسويداء، من ناحية أخرى يبدو أن عائلة الأسد والنخبة العلوية والقطاع السنِّي الذي لا يزال يؤيده، يخشى من الهيمنة الإيرانية المطلقة، وخاصة من سعيها الحثيث لاصطناع كيان مذهبي مرتبط بها على شاكلة حزب الله اللبناني، وتخشى عائلة الأسد من مقايضة إيرانية تطيح بها بمقابل الحصول على حق رعاية وحماية العلويين والشيعة عبر ذلك الكيان والميليشيات التي أنشأتها، وتعد المظلة العسكرية الروسية في هذه الحالة ضمانة لها من السقوط أمام الثوار من جهة، وخيارًا بديلًا من الوقوع الكلي تحت نفوذ طهران وسياساتها البراغماتية المذهبية من جهة أخرى.
وعلى المستوى الإقليمي، لابد أن تكون روسيا تفاهمت مع إيران قبل أن تتخذ قرارها الذي سبقته زيارة قائد فيلق القدس قاسم سليماني إلى موسكو، وربما تشاطرها الاعتقاد بأن لا نجاة لنظام الأسد ما دام محسوباً على حلفها المذهبي، ولإنقاذه لابد أن تتوارى قليلًا مُفسحة المجال للروس ، ولابد أن الطرفين اتفقا على نوع من التقاسم الوظيفي على الساحة السورية، بحيث تواصل إيران تنمية قطاع الميليشيات المرتبط بها، بينما تتولى روسيا ترميم الجيش النظامي وإعادة تأهيله، لكن منطق الصراع على النفوذ في الحيز السوري الضيق، سيقود حتماً إلى تدافع أو تصادم بين القوتين، بيد أن طهران ستصبر ولا شك حتى ينجلي غبار المعركة، فإن انتصر الروس تقوَّت بهم على الإقليم كله، وإن هُزموا ومعهم الأسد، فإن خيارها البديل المتمثل بالميليشيا الطائفية سيكون جاهزًا.
بالنسبة إلى إسرائيل، تعد الرابح الصامت من الزلزال السياسي، وسيستمر موسم جنيها الأرباح بلا عناء ولن تسمح بمرور المخطط الروسي دون ثمن وقد تأكدت وبشكل معلن من أن نظام الأسد وإيران وحزب الله سيذعنون لشروطها في ظل التواجد الروسي، الذي سيشكِّل أيضاً جداراً فاصلاً بينها وبين الأخطار المحتملة من إسلاميي سوريا.
فيما يُعد موقف تركيا هو الأسوأ، فهي عرضة لمواجهة بين روسيا والناتو على حدودها الجنوبية، ويتهددها خطر تطاير شرر الصراع مع المتشددين، علاوة على صراعها الذي عاود التفجر مع الأكراد، في ظل عدم استقرار سياسي ناجم عن نتائج الانتخابات الأخيرة، وقد تجد نفسها مضطرة لتقديم تنازلات كالتي قدمتها حين أتاحت قواعدها الجوية لطائرات التحالف الدولي لقصف داعش ، كما أصبحت السياسة الخارجية التركية أمام عدد من التحديات التي فرضتها مستجدات الأزمة السورية، وترى أن التدخل الروسي والخلاف بعد إسقاط طائرة السوخوي أسهم في تعقيد حسابات أنقرة.
وعلى المستوى الدولي، لم تتدخل أمريكا عسكريّاً في الصراع السوري لصالح الثوار خشية استيلاء الإسلاميين على السلطة وارتكاب مجزرة بحق العلويين، وفضَّلت الضغط لإجراء تفاوض يُفضي لانتقال سياسي يستثني بشار الأسد، وتبقى مؤسسة الجيش كضامن لحماية العلويين والأقليات، ويبدو أن ثمَّة تفاهماً كان قائماً مع الروس، يقضي بعدم دعم هؤلاء للنظام السوري بأية شحنات متطورة من الأسلحة، مقابل التزام واشنطن بمنع وصول أسلحة نوعية للثوار.
من حيث المبدأ، ليس لدى البيت الأبيض ما يقلقه من دخول الروس في المستنقع السوري، وربما سيكون تدخلهم المباشر مناسَبَة لتحميلهم التبعات السياسية والعسكرية والأخلاقية لتدهور الوضع هناك، وسيَلْفِت الانخراط الروسي أنظار الإسلاميين، ويستحوذ على نصيب من اهتمامهم ونشاطهم الدولي الذي يتركز اليوم على استهداف الولايات المتحدة وأوروبا، وفي الوقت نفسه سيراقب البيت الأبيض انتهاكات متوقعة للروس في حربهم، واستثمارها في الضغط السياسي في كافة المسائل الخلافية بينهما، عبر لعبة تبادل أدوار في مجلس الأمن.
مستقبل التدخل الروسي
إن الحديث عن إمكانية نجاح الضربات الجوية الروسية في القضاء على "داعش" مرتبط بعوامل كثيرة منها طبيعة التنسيق بين الأطراف الدولية التي تحارب التنظيم. فسلاح الجو الروسي سيعتمد "الضربات الانتقائية" تجاه المناطق التي تسيطر عليها تنظيمات أغلبية مقاتليها من آسيا الوسطى والقوقاز، ولن يكون لتلك الضربات تأثير كبير في تنظيم "داعش".
كما أن أي تنسيق روسي-أمريكي لن يصل لمستوى الشراكة الاستراتيجية التي تفرضها المتغيرات الإقليمية والدولية للقضاء على التنظيم، وإنما سينحصر في تعاون تكتيكي بغية الحفاظ على الحد الأدنى من مصالح الطرفين، في ظل سعي واشنطن إلى تغليب كفة التنظيمات المسلحة المعارضة لفرض التنحي على الرئيس السوري بشار الأسد، دون أي يصل ذلك إلى بسط "داعش" لنفوذها بدرجة تهدد المصالح الأمريكية في المنطقة، وهو ما ستعمل عليه ضربات التحالف تحت قيادة واشنطن.
وأخيراً، فإن تدخل روسيا في سوريا سيؤلب العالم العربي والإسلامي، ويعيد ذكرى أفغانستان. وسيدفع تدخلها بالمزيد من الآلاف من الشباب للانخراط في تنظيمات متطرفة إرهابية دفاعًا عن إخوانهم السوريين، ولن يعود حينها لدول، مثل الولايات المتحدة، حجة لإقناع العالم بمحاربة الجماعات المتطرفة. ولن يكون ممكنا طمأنة دول الشرق الأوسط من الحلف الإيراني الروسي الذي يريد السيطرة التامة على العراق وسوريا ويهدد أمنها ومصالحها.
لقد استغل الإيرانيون رغبة الجانب الأمريكي الجامحة طوال السنتين الماضيتين في مفاوضات البرنامج النووي بالتمدد في المنطقة وتوسيع الفوضى والحروب. حتى لا تفسد المفاوضات حرصت الإدارة في واشنطن على عدم مواجهة طهران، وهي ترسل قوات لأول مرة خارج حدودها للقتال في هذين البلدين! ولو أن الصراع في سوريا بقي سوريًا / سوريًا، لكانت الأمور قد حسمت منذ فترة طويلة، إما بتراجع نظام الأسد عن عناده والقبول بالحل السياسي، كما تصوره اتفاق جنيف الأول، أو بانهيار ما تبقى من النظام العليل الذي يمثل أقلية صغيرة من السوريين، وتشكيل نظام سياسي جامع لمكونات سوريا.
إنما بدخول القوات الروسية في الحرب السورية ستدخل المنطقة فصلاً أوسع من الصراع، ولا يعلم أحد ما ستكون عليه حسابات واشنطن المستقبلية، وما إذا كانت ستقف موقف المتفرج من بعث الدور الروسي في المنطقة، أم ستتقاسم النفوذ معها، أو تترك موسكو تدخل في مستنقع أزمات الشرق الأوسط لإنهاكها، وما دور القوى الإقليمية غير العربية في حسابات القوى العظمى تجاه المنطقة العربية؟ هذا يقودنا إلى سؤال حول مصير المنطقة في ظل متغيرات جديدة على المشهد السياسي الإقليمي ومنها تداعيات الثورات العربية والإرهاب والتأزم المذهبي والطائفي والفراغ السياسي والأمني الواضح في مناطق عدة من الوطن العربي.